عندما يقبل الانسان ان يجلس الى الطعام كي يأكل و يشرب مع اخيه الانسان ، فهو يقوم بفعل هام يجعله يلتزم تجاه الآخر بشكل واقعي يعبَر عن الثقة والاحترام المتبادل . وقد يستعمل بعضهم المائدة كوسيلة لسدَ الجوع ولجم العنف . كما انه باستطاعة الانسان من خلال عملية الاكل والشرب ان يدخل في طريق مصالحة صادقة ، كما فعل اسحق وابيملك .
اذا ان موضوع إضافة الغرباء أو الضيافة مهم جدا . فهو التعبير العملي على المحبة الاخوية بين المؤمنين ، وتدعو اليه الحاجة خصوصا في اوقات التشتَت والاضطرار الى تغيير محل الاقامة . وقد كان من مميزات المؤمنين في كل زمان ومكان ، يشركون بواسطته بعضهم بعضا في الخيرات التي يغدقها عليهم الله .
لذلك الضيف هو الذي يطلب المأوى الذي يفتقر اليه ، وهذا يحتم علينا ان نقبل الضيف ونعامله بمحبة الله الذي يحبه " الصانع حق اليتيم وارملة والمحب الغريب ليعطيه طعاما ولباسا " ( تثنية الاشتراع 10: 18 – 19 ) . ولا يجوز التردد امام اي تضحية مهما كبرت في سبيل الدفاع عنه ايضا لا يجوز التردد في ازعاج الضيف عندما لا تتوفر لدينا الوسيلة المفترضة لسد احتياجات الضيف يفد دون ان يكون قدومه متوقعا .
هذا التركيز واهتمام بالضيف يعود الى زمن قديم والى حضارات قديمة، وخاصة في شرقنا وفي ثراثنا الديني المشرقي يأخذ الضيف او الضيافة المكانة المرموقة في حياتنا الاجتماعية والدينية ، المثل والنموذج المثالي لهذا الترحيب الاخلاقي والديني هو النبي ابراهيم نموذجه المثالي ( تكوين 18: 2- 8 ) وايضا ايوب 31: 32 ) . " غريب لم يبت في الخارج فتحت للمسافر ابوابي " .
ويعتبر ابراهيم اول من قدم ضيافة ( تكوين 18) ومن هنا تتجلى اهمية العلاقة بين ابراهيم والاعراف اجتماعية في منطقة الشرق القديم في عناصر ثقافية واجتماعية ودينية ولعل ابرزها عنصر الضيافة والكرم .
من المعلوم ان الضيافة عند الشرقيين ليست مجرد عرف او عادة وتقليد كغيره من التقاليد ، بل انها ترتقي لديهم الى مصاف الواجب الاجتماعي المقدس وعند المسيحيين هي فضيلة كبرى ومقدسة .
ان العلاقة بين الضيافة وابراهيم النبي نشاهدها في اصحاح الثامن عشر من سفر التكوين على النحو التالي : " وظهر له الرب عند بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة وقت احتداد النّهار. فرفع عينيه ونظر، فإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فلمّا نظر ركض لاستقبالهم من بابالخيمة وسجد إلى الأرض، وقال يا سيّد إن كنتُ قد وجدتُ نعمة في عينيك فلا تتجاوزعبدك، ليؤخذ قليل ماء واُغسلوا أرجلكم واُتكئوا تحت الشجرة، فآخذ كسرة خبز فتسدونقلوبكم ثمّ تجتازون، لأنكم قد مررتم على عبدكم، فقالوا هكذا تفعل كما تكلمت، فأسرعإبراهيم إلى الخيمة، إلى سارة وقال أسرعي بثلاث كيلات دقيقاً سميداً، اُعجنيواُصنعي خبز ملة، ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلاً رخصاً وجيّداً وأعطاه للغلامفأسرع ليعمله، ثمّ أخذ زبداً ولبناً والعجل الذي عمله ووضعها قدّامهم، وإذ كان هوواقفاً لديهم تحت الشجرة أكلوا " .
تتضمن هذ المقطع الكتابيمن الكتاب المقدس عناصر أساسيّة تعكس أهميّة الضيافة في البيئة الشرقية من أهمّها:
الحركية التي أحدثها قدوم الضيوف إلى بيت إبراهيم الذي تحوّل بيته في طرفة عين منبيت كان يخيّم عليه السكون والهدوء والاسترخاء (كان إبراهيم جالساً في باب الخيمةواُمرأته في داخلها) إلى بيت أصبح يعج بالحركة:
-
ـ يستقبل ضيوفه " ركضا ".
-
ـيعود إلى الخيمة " مسرعاً " ليخبر زوجته " بالحدث السعيد".
-
ـ يأمرها " بالإسراع" فيإعداد الطعام.
-
ـ " يركض" إلى البقر ليأخذ عجلا… وغلامه " يسرع" في ذبحه وطهيهوإعداده.
ان طريقة اُستقبال إبراهيم ضيوفههي طريقة تكشف عمّا يستشعرهالرجل الشرقي إزاء ضيوفه من مشاعر الاحترام والتبجيل والتعظيم والإيثار والتواضع،إلى حدّ تتحوّل فيه الضيّافة من مرتبة الواجب الاجتماعي إلى مرتبة الطقس الديني.
يدلّ على ذلك ما جاء في النص من مواقف مثل:
-
ـ سجوده إلى الأرض عند اُستقبالضيوفه .
-
ـ إسراعه في خدمة ضيوفه وكأنه خادم أمام سيّده (" يا سيّد إن كنت قدوجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك".
-
ـ وقوفه في تواضع إلى جانبهم وهميأكلون.
من شخصيات الكتاب المقدس اقترنوا بالاخلاق الحميدة غير ابراهيم ابو المؤمنين لوط ابن اخيه ، اذ يستعيد لوط ( الطقوس ) ذاتها التي مرت في تجربة النبي ابراهيم في استقبال الضيوف مثل السجود والتواضع والاسراع في خدمة الضيوف .
يقول النص الكتابي:
" فجاء المَلاَكَان إلى سَدُوم، وكان لوط جَالِساً في بَاب سَدُوم، فَلَمَّارَآهُمَا لوطّ قامَ لاسْتِقبَالِهمَا، وسَجَدَ لِوَجْهِهِ إلى الأَرْض، وَقَالَ يَاسَيّدِيَّ مِيلاَ إلى بَيْتِ عَبْدِكُمَا وَبِيتَا فاُغْسِلاَ أرْجُلَكُمَا ثُمَّتُبَكِرّان وَتَذْهَبَان في طَرِيقِكُمَا، فَقَالاَ: لاَ بَل في السَّاحَةِ نبيتُ،فَألَحَّ عَلَيْهِمَا جداً، فَمَالاَ إلَيْهِ ودَخَلاَ بَيْتَه، فَصَنَعَ لَهُمَاضِيَافَةً وَخَبَزَ فَطيراً فأكلا" (التكوين: 19 )
ولا يحتاج الأمرههنا إلى بيان نقاط الالتقاء بين تجربة لوط وتجربة عمّه إبراهيم من قبله في أمرالضيافة ومكانتها ومستلزماتها. إلاّ أنّ ما يستوقف القارئ في تجربة لوطحقيقةً هو ما جاء بعد ذلك في النص الكتابي( التكوين19: 4 – 8 ) من عناصر جديدة يجدر التوقف عندها.
يقول النص: " وَقَبْلَمَا اُضْطَجَعَا (المَلاَكان) أَحَاطَبِالبَيْتِ رِجَالُ المَدِينَةِ رِجَالُ سَدُومَ مِنَ الحَدَثِ إلى الشَّيْخِ كُلُّالشَّعْبِ من أَقْصَاهَا، فَنَادَوْا لُوطاً وَقَالُوا لَهُ: أَيْنَ الرَّجُلاَنِاللّذَانِ دَخَلاَ إلَيْكَ اللّيْلَةَ، أخْرجْهُمَا إلَيْنَا لِنَعْرِفَهُمَا،فَخَرجَ إلَيْهمْ لُوط إلى البَابِ وأغْلَقَ البَابَ وَراءَهُ، وقال: لاَتَفْعَلُوا شَرّاً يَا إخْوَتِي، هُوذا لي اُبْنَتَانِ لَمْ تَعْرِفَا رَجُلاً،أخْرجُهمَا إلَيْكُمْ فَاُفْعَلُو بهما كمَا يَحْسُنُ في عُيُونكُمْ، وَأمَّا هذانِالرَّجُلاَنِ فَلاَ تَفْعَلُوا بِهِمَا شيْئاً لإِنهُمَا قَدْ دَخَلاَ تَحْتَ ظِلِسَقْفِي"
نفهم من هذا النّص أنّ الضيافة في تجربة لوطقيمة تبلغ درجة من القداسة تفوق قيمة الشرف والعرض، ويدلّ على ذلك أنّ لوطا كانمستعدّا للتضحية بقيمة العرض في سبيل المحافظة على قيمة الضيافة وهنا يطرح السّؤالالذي لا مفرّ منه: أيّ القيمتين أرفع وأوْلَى في ثقافة الشّرقيين: الضيافة أمالشرف؟ الحل الذي انتهى اليه من خلال الحسم في الامر بالتضحية بقانون الفضيلة لفائدة الواجب الاجتماعي المقدس ( الضيافة ) .
لذلك الضيافة تأخذ مكانة مقدسة في الكتاب المقدس واعتبرتها الكنيسة المقدسة فضيلة من فضائل الديانة التي امر بها الرب . وتعود هذه اهمية الدينية والروحية في الكتاب المقدس الى تاريخ شعب الله ، فصورة الضيف الباحث عن المأوى وملجأ وحماية تذكر بالشعب العبراني الذي كان غريبا بين الامم .
وجاء في سفر لاويين قول الرب: " وَإذَا نَزَلَعِنْدَكَ غَرِيبٌ في أرْضِكُمْ فَلاَ تَظْلِمُوهُ، كَالوَطَنِيّ منْكُمْ يَكُونُلَكُمْ الغَرِيبُ النَّازِلُ عِنْدَكُمْ وتُحِبُّهُ كَنَفْسِكَ لأنَكُمّ كُنْتُمْغُرَبَاءَ في أرضِ مِصْرَ" ( 19: 33 و 37 ).
ايضا تذَكر صورة الضيف او صورة الغريب بالمسيح في العهد الجديد ، اذ جعل المسيح الضيافة شهادة على حسن الايمان . واعتبر الضيف بمثابة حضور المسيح نفسه ( متى 25) وايضا صوَر المسيح ملكوت الله كضيافة ( لوقا 14 ) و ( رؤية 19 ) ، يدعى اليها الفقراء اكثر من الأغنياء وأيضا يوصي الرسول الإلهي بولس المؤمنين بإضافة الغرباء ( 1 تيموثاوس 3: 2 و 5 ) و ( 1 بطرس 4 : 9 ) و ( عبرانيين 13: 2 ) : " لا تنسوا إضافة الغباء لان بها أضاف أناس ملائكة وهو لا يدرون " .
ايضا جاء في رسالة رومية : " مشتركين في احتياجات القديسين . عاكفين على إضافة الغرباء" . انها تسمية من أجمل التسميات التي أطلقها الرسول الإلهي بولس على الفقراء ، فهم شهداء بخل الإنسان .
الرسول الالهي بولس لم يكن اول من رفع الفقراء الى درجة القديسين ، فالمسيح رفعهم الى درجته في الكرامة والمجد : " الحق اقول لكم بما انكم فعلتموه بأحد اخوتي هؤلاء الاصاغر فبي فعلتم " ( متة 25: 40 ) . لقد اعتبر الرسول الالهي بولس الفقراء والمحتاجين والمغتربين اهله الخصوصيين ، وكرامتهم من كرامته ، جوعهم جوعه وعطشهم عطشه وعريهم عريه وغربتهم غربته.
أيضا فان كلمة " مشتركين " باليونانية تعني التزام العضو في نصيبه من الشركة ، الا ان الرسول الالهي بولس وضحها هذا الكلمة " مشتركين " اكثر في آية أخرى : " لان اهل مكدونية وأخائية استحسنوا ان يصنعوا توزيعا لفقراء القديسين الذين في اورشليم . استحسنوا ذلك وانهم لهم مدينون ، لانه ان كان الأمم قد اشتركوا في روحياتهم يجب عليهم ان يخدموهم في الجسديات أيضا " ( رومية 15: 26 – 27 ) .
هكذا اوضح الرسول الالهي بولس انه ليس مجرد استحسان منك ان تخدم القديسين الفقراء من مالك بل هو دين عليك . لذلك فان كلمة " مشتركين " تعني الشركة في احتياجات القديسين، وايضا تحمل معنى المدينونية لحفظ توازن الاعضاء في الشركة الواحدة وتعادل حياة الاعضاء في الجسد .
لذا فالرسول بولس الالهي لا يرجو ولا يطلب، ولكن يكشف لنا عن واجبنا المنسي وعن انسان يئن له حق علينا ، ويكشف ان الكنيسة يتحم ان تعترف قديسيها ( الفقراء) ولا تنساهم لئلا ينساها الله من رحمته، لانه لا ينبغي ان يفوت علينا معنى ( الشركة ). لان الكنيسة لا تعرف ولا تعيش الفردية ولكن الكنيسة شركة .
اما الجزء الثاني من الاية : " عاكفين على اضافة الغرباء" فالكلمة " عاكفين " تفيد بمعنى التتبع او الاقتناص . وكأنما الغريب غنيمة يبحث عنها المسيحي ، يتتبعها ويقتنصها لنفسه ليفوز بضيافة الرب : " كنت غريبا فآويتموني " ( متى 25: 35 ) .
لعل حادثة ابراهيم وإضافته للثلاثة الملائكة كان له تأثير كبير على الفكر المسيحي فالرسول الالهي بولس يذكرها في سفر العبرانيين : " لا تنسوا إضافة الغرباء لان بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يدرون " ( عبرانيين 13: 2 ) . وخاصة ما تم على يدي هؤلاء الثلاثة الملائكة اذ اعطوا الوعد لسارة بميلاد اسحق . فاصبحت إضافة الغرباء فيها احتمال بركة للبيت .
لذا أصبحت إضافة الغرباء فضيلة عالية القدر تكشف عن ايمان الانسان المسيحي وسخائه وروحه المتسعة ومشاركته الوجدانية مع الاخرين وعطفه على الضعفاء ومقدار بذله ومحبته بالدرجة اولى لذلك كانت من الشروط اللازمة لاختيار أي إنسان للأسقفية ان يكون : " صاحيا عاقلا محتشما مضيفا للغرباء صالحا للتعليم .. " ( 1 تيموثاوس 3 : 2 ) .
ايضا ليس الاسقف فقط بان يكون مضيف للغرباء بل على كل درجات الكنسية تطالب بها ، حتى في اختيار الارملة لتكتتب في الكنيسة ، كما نصت التعاليم الرسولية. " مشهودا لها في اعمال صالحة ان تكن قد ربت الاولاد ، إضافت الغرباء ، غسلت أرجل القديسين ، ساعدت المتضايقين ، اتبعت كل عمل صالح . " ( ا تيموثاوس 5: 1 ) .
هكذا كان المسيحيون الاوائل يتممون هذه الفضيلة (الفريضة) إضافة الغرباء، بنوع اثار مديح الوثنيون لهم . وكانوا يأخذون رسائل توصية حتى يلقوا حيثما حلَوا احسن ضيافة بل كان المؤمنون يعدونه عارا عليهم ان ينزل احد من اخواتهم فندقا ، ولهم بيوت يغلون ابوابها دونه .