(عبرانيين 9 : 1 – 7 )
أهم نقطة الأساسية في هذه الرسالة هي العمل الذبائحي حيث يذكر الكاتب بنظام الانفصاليات الطقسية القديم . إذ كان هناك مكان مقدس يسمى الخيمة صنعها موسى لبني إسرائيل في سيناء بأمر الله وهذا قبل بناء هيكل سليمان بنحو بسنة(1ملوك 6-1.)وذلك لأجل تقديم الذبائح والعبادة لله . وكانت تسمى خيمة الاجتماع لان الله كان يجتمع بشعبه فيها (خروج 25: 22و 29: 42-43) وتدعى أيضا خيمة الشهادة لان أوحي الشهادة وضعا فيها . كانت هذه الخيمة مقسومة إلى قسمين إحداهما داخلي وخارجي . القسم الخارجي يسمى(الخيمة الأولى) القدس وكان نحو ثلثي المسكن فما كان يحق لأحد ان يدخل إليه غير الكهنة (عبرانيين 9-6) وكان فيه ثلاثة أشياء :مذبح البخور ،مائدة خبز الوجوه، المنارة لأجل الضوء لأنه لم يكن للقدس أو للقدس الأقداس كوة أو فتحة البتة ولذلك وضعت منارة في القدس لأجل الضوء وإكمال الخدمة اليومية المفروضة فيه . القسم الداخلي يسمى قدس الأقداس وكان ثلث المسكن أيضا فما كان يجوز ان يدخل إليه إلا عظيم الكهنة مرة في السنة (عبرانيين-7) وكان موضوعا فيه التابوت الذي كان يعرف بتابوت الشهادة (الخروج 26:33) أو بتابوت العهد (أعدد-33) وكان موضوعا فيه لوحا العهد (الخروج 25-16) وفوقه كروبان مظللان عليه .
يبين لنا الكاتب من هذا النص ان الطقوس لم تسطع ان تقيم علاقة لان فرائضها تقتضي ،بعد إقامة الذبيحة،ان يحافظ على الانفصاليات التي كانت تفصل بين الشعب والكهنة والضحية والله . إذا لم يكن للقرابين والذبائح القديمة من قيمة لأنه ليس بوسعها ان تجعل من يقوم بالشعائر كامل الضمير (عبرانيين9-9) فلم تكن سوى أحكام للجسد لا تتناول غير المآكل والمشارب ومختلف الوضوء فرضت إلى وقت الإصلاح . وما يحتاج إليه الإنسان هو علامة شخصية وعميقة مع الله علاقة تحول قلبه جذريا وتجعله كامل الضمير . لذا بقيت الطقوس القديمة في مستوى ارضي وتصوري . فالعهد الذي كان مرتبطا بهذه الطقوس القديمة كان عهدا ناقصا لذا فالعهد القديم لم يقم على وساطة حقيقة فهو يبقى في المستوى الخارجي على مثال الطقوس القديمة .
“وأما المسيح وهو قد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة فبالمسكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بيد أي الذي ليس من هذه الخليقة” (عبرانيين9-11) هكذا وضع المسيح حدا للطقوس القديمة وحول الأمور جذريا وحقق ما لم يحققه أي عظيم كهنة . إذ يسوع نفسه بصفته إنسانا احتاج إلى تحول في ناسوته المحوّل ، اصبح المسيح في علاقة مع الله . هذا ما لم تستطع الذبائح ان تحققه(عبرانيين:9-9) حققته ذبيحة المسيح :جعلت المسيح كاملا(عبرانيين7-28) فصار ناسوته الخيمة الأكمل التي تدخلنا في علاقة مع الله . وأصبحت فيه البشرية التي شوهتها الخطيئة البشرية جديدة مصغية إلى كلمة الله ومملوءة رحمة نحو البشر .
في قربان المسيح الغي التميز بين الكاهن والضحية ،إذ كان المسيح في الوقت نفسه كاهنا وضحية لأنه قرب نفسه “لأنه لا عيب فيه ” وأيضا قرب نفسه لأنه ” بروح أزلي ” خلافا لما كان من أمر الكهنة كان يسوع بريا من كل الخطيئة(عبرانيين4-15( ولذلك استطاع ان يمثل حضرة الله دون ان يخشى عدم الرضى إذا تضحية المسيح قامت على فعل محبة قصوى لا من اجله بل من أجلنا رضي ان يتعلم الطاعة بالآلام فهو لم يكن في حاجة إلى مثل هذا التحول بالآلام لذلك صار المسيح في أعقاب آلامه وسيط عهد جديد وساعد أيضا على إقامة علاقة جديدة بين الإنسان والله وتضامن من جديد بين البشر وهذا ما حققه موت المسيح لأنه كان قربانا شخصيا كاملا
شرح وتفسير الرسالة
(9 :1) ” ثم العهد الأول كان له أيضا فرائض خدمة والقدس عالمي “) في هذه الآية يعرض الكاتب العهد الأول مما يتضمن من الأمور القديمة والوضع القديم وتحول هذا إلى الوضع الجديد وذلك بقوله ” أيضا ” بمعنى ان العهد الجديد قد أسس على نظم ثابتة والأبدية بينما المجد الأعظم الذي جاء به العهد الجديد هذا من خلال ظهور المسيح الأعظم متمما التدبير الالهي “وأما المسيح وهو قد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة فبالممكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بيد أي الذي ليس من هذه الخليقة” . يهتم الكاتب بذكر مكان العبادة القدس العالمي أي خيمة الاجتماع وكرر هذه العبارة مع “أل التعريف” لهذا لم يأت تعريفها عبثا يراد منها تحديد مكان معين بالذات هي مكان نشاط الكهنة في خيمة الاجتماع حيث يحل الله فيها فالمقصود بالقدس يعني مكانين القدس ،وقدس الأقداس . أما صفة العالمي هنا لتفريغها عن الأصل الذي يمثله وهو القدس السماوي ، وأيضا لتميز عمل المسيح وخدمته الحقيقة والسماوية وليس الأرضية هذا ما جاء عن المسيح في الآية(24) : ” لان المسيح لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيد عالمي)أشباه الحقيقة(مادية)بل إلى السماء عينها”. وأيضا جاءت كلمة صفة (العالمي)لتظهر لنا ان خدمة موسى وهارون ليست فقط أرضية مقابل خدمة المسيح السماوية فحسب ولكن خدمة تختص العالم الزائل .
(9: 2) ” لأنه نصب المسكن الأول الذي يقال له القدس الذي كان فيه المنارة والمائدة وخبز التقدمة” .
ان المسكن الأول الذي أقيم هو القسم الأول من الجزئيين الذي يشير إلى (القدس ) الخارجي الأقرب بالنسبة إلى الداخل من الفناء الخارجي وفي هذه الجزء ثلاثة أشياء هي : المنارة،المائدة، وخبز التقدمة وأيضا مذبح البخور الذي لم يذكره بولس الرسول هنا (الخروج 25،27،4.) . المنارة توضع من جهة الجنوب من القدس، تتألف من سبعة أعمدة كل عمود ينتهي بما يشبه الزهرة وفي وسطها يوضع الفتيل الغارق في الزيت فحينما يشعل تشتعل العواميد السبعة . ان النور له مدلوله الرمزي في الكتاب المقدس اكثر من أي عنصر طبيعي ،نور المعرفة،نور القداسة،نور الفرح . المائدة التي عليها خبز التقدمة توضع من جهة الشمال للقدس ،فهي ترمز إلى تقدمة الطعام وشراب وأيضا تشير إلى تكريس كل طاقات وإمكانات الحياة لله لذا يجب ان تكون التقدمات طاهرة ومع ذلك فليس كل ما هو طاهر مقبول كذبيحة ففي عالم حيوان كان مسموحا بتقديم : العجول،الخراف،تيوس والحمام وفي عالم النبات كان يمكن تقديم :الزيت ،القمح والنبيذ أما مبدأ هذا الاختيار للذبيحة ينبغي له شرطان ،ان تكون من المواد التي تقيم أود من يقدمها ومن نتاج حياته . يلزم ان نعلم ،تقديم الذبائح ليست نقلا أو إضافة لشيء ذي قيمة إلى حساب الله وهي ليست هدية علما ان الرب له العالم كله بما فيه، فمن هذا الذي يعطيه ليزداد غناه؟ والذبيحة التي يقدمها الإنسان تؤكد ان الله في صلته بالإنسان لا (يرضيه شيء، اقل من تكريس الحياة كلها له .
(9: 3 ) “وراء الحجاب الثاني المسكن الذي يقال له قدس الأقداس” يبدو ان الحجاب الثاني هو الذي يفصل بين القدس ،وقدس الأقداس . ويقع في جهة الغربية من القدس “المسكن الأول” وتبين الصفة التعبيرية “قدس الأقداس” قدسيتها بصورة فائقة هذا ما يفسر إلى فصله عن المسكن الأول أي “القدس”.
(9: 4) ” فيه مبخرة من ذهب،وتابوت العهد مغشى من كل جهة بالذهب، الذي فيه قسط من ذهب فيه المن وعصا هارون التي أفرخت ولوحا العهد “ . ان البخور فهو رمز للصلوات المرفوعة لله ورمز البخور تكمن أولا في ان دخانه هو الخلاصة الصافية لهذه التقدمة كما تكمن في حركة صعوده إلى أعلى . أما قرب مذبح البخور من الحجاب أمام قدس الأقداس فهو يرمز إلى امتياز الصلاة وقربها من الله . أما رائحة البخور فقد كانت تعبيرا عن رائحة الرضى والسرور للرب . كان تابوت العهد أهم ما يحتوي قدس الأقداس وأيضا في هيكل سليمان إلا ان لم يسمع عنه شيء بعد سنة 587 ق.م عندما حطم الكلدانيون الهيكل ولم يكن في قدس الأقداس أي محتويات بعد السبي هذا ما حققه بومباي عندما اقتحم الهيكل سنة 63 ق.م . أما عصا هارون التي أزهرت وأثمرت ثمرا كانت علامة من الله ضد الذين تذمروا على رئيس الكهنة (هارون) وأيضا كانت علامة لتذكرهم بتدخل الله القوي من أجلهم .
(9: 5) ” وفوقه كاروبا المجد مظللين الغطاء أشياء ليس لنا الآن ان نتكلم عنها بالتفصيل “ . وظيفة كاروبيم “الشاروبيم” هو خدمة مجد الله وإعلانه ،ان كلمة المجد في اللغة العربية تعني حضرة الله المضيئة الساكن في وسط شعبه بالمجد وكانت الشاروبيم بصورتها وبأجنحتها تمثل العاصفة التي يتراءى الرب فوقها (تثنية الاشتراع:33-26) . الكلمة المترجمة بالغطاء باللغة العبرية “كايوريت” مأخوذة من الفعل الأكبر وتعني ان هذا الغطاء له علاقة كبيرة بطقس يوم الكفارة ذلك لان هذا الجزء من التابوت الذي كان يرش بالدم ،من ذبيحة الكفارة،يوم الكفارة من قبل رئيس الكهنة . فيكفر عن خطاياه وخطايا الشعب فكان هذا الغطاء عرش النعمة إن الرحمة . ولهذا السبب استعملت في رومية ،:” الذي قدمه لله كفارة بالإيمان بدمه لإظهاره بره من اجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله “(رومية 3: 25)، بالمعنى متعلق بموت المسيح ولكن بولس الرسول لا يستخدم الكلمة بمعنى روحي إن لاهوتي المهم في هذا النص يبرز مجد النظام القديم .
(9: 6) “ثم إذ صارت هذه مهيأة هكذا يدخل الكهنة إلى المسكن الأول كل حين صانعين الخدمة” . لم يكن ممكنا للإسرائيليين ان يتقربوا مباشرة من المسكن الأول “قدس” بل عليهم ان يأتوا عن طريق ممثليهم . وحتى هولاء فمنهم واحد فقط هو الذي بإمكانه ان يدخل إلى قدس الأقداس مرة في السنة لذا لم يكن الطريق مفتوحا وقريبا إلى الله كما صار فيما بعد عن طريق المسيح :” فإذا لنا أيها الاخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع طريقا كرسه لنا حديثا حيا بالحجاب أي جسده” (عبرانيين 1.:19-2.) . إذا يدخل الكهنة إلى المسكن الأول “القدس ” ليؤدوا خدماتهم الصباحية والمسائية يوميا يحرقون البخور ويصلحون المنارة ويضعون الزيت يعني انهم كانوا يقدمون صلاة الشكر والتسبيح باسم الخليقة بأسرها لله . ونتذكر من خلال هذا الكلام زكريا والد يوحنا المعمدان الذي دخل القدس لأجل تقديم البخور ولرفع صلاة الشكر عندئذ ظهر له الملاك واخبره ببشارة ميلاد يوحنا ،وكانت هذه آخر تجليات الله داخل الهيكل القديم .
(9: 7) “وأما إلى الثاني فرئيس الكهنة فقطط مرة في السنة،ليس بلا دم يقدمه عن نفسه وعن جهالات الشعب” . يستمر بولس الرسول في شرح الخدمة حول المسكن الثاني أي”قدس الأقداس” حيث يدخل رئيس الكهنة مرة واحدة في السنة وذلك في يوم الكفارة لكن بالرغم من قلة السماح في الدخول ،هناك شروط ينبغي على رئيس الكهنة ان يفعلها وهي ان يحصل على حياة آخر أي الذبائح التي تذبح ويدخل بدمها حيث النفس في الدم (لاويين17: 11) .
هذا كله رمزا للحياة المقصود بها حياة ابن الله والدم دم الابن الوحيد ، الواحد الوحيد الذي هو وحده المعين منذ الأزل وسيط بين الله والإنسان . “جهالات الشعب” تعني عدم المعرفة بأصول التعامل مع الناموس لهذا دم الحيوانات يغفر خطايا الجهل فقط أما الأخطاء الإرادة والمعرفة فليس لها ذبيحة ولا غفران بل الموت المحتم مهما كان حتى لو استعملت الرحمة في طريق الموت .