عائلة يوحنا الدمشقي ومكانتها في الدولة الاموية الاسلامية
عمد العرب الى حصار دمشق في شهر اذار في العام 635 ،فاستسلمت اليهم المدينة في ايلول بعد ان اخلتها الحامية البيزنطية . اما الذي فاوض على الاستسلام فهو منصور بن سرجون الذي لعب دورا مهما في شؤون تلك المدينة اذ كان من قبل الفتح العربي بسنين كثيرة مدير للمالية في ولاية فينيفية اللبنانية التي كانت دمشق اهم مدنها.
ان هذين الاسمين ، منصور وسرجون ، اللذين ذكرهما لنا المؤرخون اليونان والسريان والعرب هما غريبان عن كل تسمية يونانية. وكانا شائعين بين عرب سوريا المسيحيين،فهناك افراد من قبيلة اياد عرفوا باسم منصور مثل منصور بن يقدم بن اقصى بن دعمي بن اياد ، ويذكر لنا الرواة اشخاصا من قبيلتي ربيعة وقضاعة حملوا هذا الاسم . من المعروف ان قضاعة قبيلة كبيرة ومهمة سكنت بين حمص وسلمية وفي صحراء سوريا(تدمر) وقد سكنوا في جبال القلمون قرب دمشق وكثر عددهم كثيرا واعتنق بنو قضاعة الديانة المسيحية من زمن بعيد ونذكر منهم منصور بن جمهور.
لقد توطئت اسرة المنصور دمشق قبل القرن السادس ونعمت هناك باحترام ونفوذ كبيرين، واسندت الى اعضائها مناصب رفيعة في ادارة ولاية فينيقية اللبنانية ، يقول ابن البطريق بان المنصور شغل مركز مدير المالية في عهد الملك موريس (582- 602) في ولاية دمشق .
استنادا الى ابن البطريق(ج2 ص 13- 16) وابن العميد (ص23) ان الذي فاوض في فتح دمشق هو المنصور بالرغم من ان الروايات متعددة في هذا الخصوص . قال ابن البطريق :" فلما جهد اهل دمشق الحصار ، صعد منصور عامل هرقل على باب شرقي فكلَم خالد بن الوليد ان يعطيه الامام له ولاهله ولمن معه ولاهل دمشق سوى الروم ، حتى يفتح ابواب دمشق فاجابه خالد بن الوليد الى ما سأل وكتب له امانا هذه نسخته " من خالد بن الوليد الى اهل دمشق اني امنتكم على دماكم ودياركم واموالكم وكنائسكم ان لا تهدم او تسكن . ودفع اليه الامر ففتح منصور باب شرقي لخالد .ودخل خالد المدينة وصاح على اصحابه اغمدوا السيوف . فلما دخل اصحاب خالد كبَروا فسمع الروم المقيمون على الابواب التكبير ،فعلموا ان منصور قد فتح الباب وادخل العرب المدينة تركوا الابواب وهربوا " .
ما هو الدافع لعمل ابن سرجون .لقد نظرت بيزنطية دوما بعين الاحتقار والاستخفاف الى اقليم سوريا ، والحالة هذه اذا بغض السوريون الحكم البيزنطي وتمنوا زواله لعلهم ينعمون حالا ويجدون في حكم اخر انصافا وسعدا . في مناطق عديدة اعتبر السكان الجيش العربي كمنفذ لهم من جور بيزنطية فغلب عندهم الشعور القومي والاخوة الدموية على عرى الدين التي جمعتهم بيزنطية وآثر ابن سرجون الانضمام الى العرب على مساعدة الروم .
ربما ظن ابن سرجون ان العرب الفاتحين قد لايطول حكمهم في البلاد وانهم آتون للغزو والكسب . لانهم كانوا متأكدين ان الامبراطورية البيزنطية وهي اقوى دول العالم المتمدن انذآك سوف تكسر شوكة هؤلاة المجتاحين ، هذه الاسباب التي ربما جعلت ابن سرجون وشخصيات دمشق على اتخاذ موقفهم المعروف في وقت عصيب لم يمكنهم الاعتماد فيه الا على ذواتهم اذ اخذت الحامية البيزنطية بالفرار وتركتهم بين مخالب الفجيعة
بعد انتصار اليرموك خضعت دمشق ثانية، مما اتاح للعرب ان يعيدوا النظر في شروط التسليم الاولى ، وقد ابقيت البنود المهمة على حالها انما اجبر المسيحيون على التخلي عن بعض معابدهم، وقد احتفظوا بخمسة عشر من بينها كنيسة القديس يوحنا المعمدان الكبرى .ومنذ ذلك الوقت اصبح لعائلة المنصور تدخل عملي في حياة السلالة الاموية العامة والخاصة .
يخبرنا لامنس بانه اطلع في مخطوط المكتبة الشرقية رقم 552 ان المنصور لبس الاسكيم الرهباني في دير سيناء بعد استسلام دمشق، وهناك ألف كتاب شرح المزامير ، الذي يعزى عادة الى انستاسيوس السينائي الا ان المخطوط المذكور يتحدث عن باهان قائد جيش هرقل وليس عن المنصور ، فان ابن البطريق وابن العميد يوكدان هما ايضا ان باهان هرب بعد انسكار اليرموك ولخوفه من العودة الى هرقل التجأ الى طور سيناء وترهب واتخذ اسم انستاسيوس.
في حكم معاوية(600) عهد في المناصب العالية الى مسيحيين عرفوا بحكتهم ورؤيتهم لتفوقهم في العلوم الادارية والمالية على عرب الحجاز وايضا اعتمد على الجيوش العربية المسيحية ، فكلف طبيبه ابن آثال بجباية خراج حمص وابقى افراد اسرة المنصور في مراكزهم .
ويخبرنا الطبري بان سرجون بقي كاتب معاوية وصاحب امره الى تاريخ وفاته . اسباب هذه المكانة متعددة وتشعبة منها خدمات ابيه منصور ايام الفتح وولاؤه لآل سفيان واحتياج الفاتحين الى مساعدة موظفين امناء عالم ينب الامور العلمية والمبادىء الادارية مما حدا معاوية الى ابقاء العرب المسيحيين في خدمة دولته.
لقد كان معاوية سليل بيت تجارة ومال فاراد ان ينظم اموال الخزينة ويحدد الهبات العمومية فاستعان بزياد بي ابيه وبسرجون بن منصور فاوجد وزارة المالية الحق بها " ديوان المقاتلة" وعهد في رئاسة هذه الوزارة الى ابن سرجون الذي اتخذ على عاتقه تحديد الضرائب الواجبة جبايتها . فكان يفرض جزية الرقبة او خراج الاعناق على غير المسلمين والخراج على جميع الرعايا . وكان ابن سرجون يؤمن معاش جنود البحر والبر ويسهر على غذائهم ويبتاع لهم العدَة . واغتنت وزارة المالية ايضا بالانشاءات البحريةمما يدل دلالة واضحة على علو مكانة ابن سرجون في تسير شؤون الخلافة الاموية .
ومنذ عام 660 تجاوزت صلاحيات وزير المالية حدود سوريا اذ وسعت ارجاء الخلافة فامتدت من جبال طوروس الى المحيط الهندي ومن الهند الى تونس وعظمت منزلته مع اتساع الفتوحات ، فأتمرت باوامر سرجون وابنه منصور ، اي يوحنا الدمشقي في مما يتعلق بالادارة المالية العمومية اسبانيا وافريقية الشمالية واسيا الصغرى والعراق وخراسان.
لقد قام سرجون باعباء وظيفته بكل امانة واخلاص ، حتى ان معاوية وهو على سرير الموت، كلَفه ان يسيَر امور الدولة مع الضحَاك بن قيس ومسلم بت عقبة بعد موته حتى يتسنى لوريثه يزيد ان يعتلي عرش الخلافة ، اذ كان يقود حملة حربية في اسيا صغرى.وابقى يزيد (680- 683 ) لسرجون جميع الامتيازات والحقوق التي منحه اياها معاوية وهكذا فعل معاوية الثاني ( 683).
الا ان حالة المسيحيين طوال الخلافة الاموية كانت متقلبة متناقضة تتكيف كما يبدو وفق مقتضيات السياسة والاغراض الشخصية.
كما اشرنا ان معاوية قبل ارتقائه سدة الخلافة اعتمد على الجيوش العربية المسيحية في معركة صفيَن رغم استنكار علي . ويخبرنا ابن العبري انه قد ابقى حكاما مسيحيين على مقاطعات كثيرة ، والرها ظلت مدة طويلة تحت حكم انستاسيوس بن اندراوس.
لقد كان قصر الخلفاء مفتوحا ابدا للشعراء المسيحيين والمسلمين على السواء وكان الاخطل الذي كان عبد الملك يقول عنه :" لكل اسرة منشدها ومنشد الامويين الاخطل " او هذا شاعر امير المؤمنين ، هذا اشهر العرب " يبيح لنفسه حريات كثيرة في كلامه على النبي والاسلام . وكان الاخطل قد ألف ان يعلق على صدره صليبا من ذهب مما الحق به لقب " حامل الصليب" وكان يظهر في البلاط ، سامد الهامة ، ويشق صفوف النبلاء والامراء ، عارضا على جميع الانظار الصليب المعلق على عنقه.
ان العلاقات الشخصية بين المسلمين والمسيحيين كانت على الاجمال علاقات موَدة وصداقة حتى على عهد المروانيين الاولين لا بل حتى خلافة عمر الثاني . لقد حفظ التاريخ اسماء مسيحيات عديدات تزوجن من مسلمين وظللن مع ذلك محتفظات ممارسة دينهن وقد كانت مسيحيات كلب " نسوة من اجيب تغلو في قريش مهورها".
كان المسيحيون لا يكفَفون عن ممارسة شعائرهم الدينية لا تزعجهم السلطة ولا الشعب وكان المؤمنون يتهافتون على صلوات الليل وان المسيحيين دمشق لكي لا يعوَقوا عن الاجتماعات الليلة كانوا يرقدون في الكنائس ولم يكونوا يخفون معتقداتهم بل يعلقون جهرا في رقابهم صلبانا صغيرو او ذخائر من الصليب الكريم.
وقد فسح مأتم ابجر بن جابر ، زعيم قبيلة بني عجل فرصة لتظاهرة كبيرة ، فقد سار الصليب في مقدمة الموكب في وسك التراتيل وسحب البخور واجتاز الحشد الكوفة يتقدمه الاكليروس المسيحي ويجري وراءه من كبائر شيوخ الاسلام .
وكان كتبية الدواوين المسيحيون حتى مطلع القرن الثاني للهجرة ، لا يفأون مصرين على اثبات رسم الصليب على ظهر الرسائل الرسمية كما تشهد على ذلك مخطوطات البردي قي مصر المكتوبة باللغة اليونانية والعربية. وكان رؤساء هؤلاء الكتاب المسلمين بدل من ان يمنعوا ذلك يثبتون ختمهم الى جانب الصليب.
ان المهن اليدوية مثل البناء والخياطة وصنع الاحذية وما اليها كان المسيحيون السوريون هم الذين يزاولون هذه الحرف . وزد على ذلك كان المسيحيون هم المختصين بالمصارف وكانوا امناء اسرار الملوك واطباءهم .كانوا يتعهدون ادارة المدارس وكانوا هم القائمين على مخازن الاسلحة ومعاملها ولقد ظلوا حتى بعد اصلاحات المروانيين قابضين على اغلبية المراكز والادارات الاقتصادية .
كان سرجون من الرجال الذين لا يتنكرون لواجباتهم نحو الكنيسة و ابناءها فنسمع ثيوفانوس المؤرخ يصف سرجون بالرجل المسيحي الحقيقي ويقول عنه الراهب ميخائيل الانطاكي الذي كتب حياة القديس يوحنا الدمشقي في القرن الحادي عشر انه " كان مستنيرا بالفضيلة الرشيدة والديانة الحميدة متقيا لله تعالى عاملا بوصاياه ، غزير الحكمة ، محبا للعلم " والفقير ، ساعيا في فك الاسرى المسيحيين الذين كانوا يغنمهم المسلمون اثناء غزواتهم على الروم .
ومن خدماته لابناء رعيته بناء كنيسة جديدة في دمشق ، خارج الفراديس . واحتراما لابن المنصور وتقديرا لمكانته خفَض معاوية الثاني ثلث الضرائب التي فرضت على المسيحيين . وسعى عبد الملك لاقناع المسيحيين بوجوب تسليمه كاتدرائية يوحنا المعمدان ليحولها الى جامع، فابى المسيحيون ذلك معتمدين على المعاهدة التي ارتضاها خالد ابن الوليد ، وكانت هذه الكنيسة احدى الكنائس الخمسة عشر التي ابقاها الفاتح للمسيحيين وكان لسرجون اليد الطولى في سكوت الخليفة عنها .
قضى سرجون ايامه متنقلا بين قصر الخلافة وداره . ولقد بارك له الخليفة زواجه فوهب ابنين احدهما يوحنا وهو القديس المشهور بيوحنا الدمشقي " الدفاق الذهب" ويدعوه المسلمون منصورا مما يدل على انه كان البكر تمشيا على عادة الشرقيين الذين يطلقون اسم الجد للاب على البكر، لم يحفظ التاريخ اسم اخي يوحنا الثاني انما هو والد استفانوس السبئتي الذي اقتفى آثار عمه يوحنا وترهب في دير القديس سابا . وكان ليوحنا ابن اخ ثان يدعى غريغوريوس نسك في نفس الدير واشتهر بشعره الديني مثل عمه ،واستنادا الى شهادات ابن البطريق نظن ان اسرة ابن المنصور لم تنقطع ذريَتها بترهب المذكوريين آنفا ، اذ نعلم انه في القرن التاسع اعتلى السدة البطريركية في اورشليم اثنان من عائلته وهما سرجيوس (842- 858 ) وايليا الثالث(789- 907 ) ويؤكد لنا ابن عساكر بانه كان يعيش على ايامه اناس من نسل سرجون وهذا دليل على مركز تلم الاسرة الاجتماعي حتى القرن الثالث عشر .