أساليب ضبط الأفكار ومواجهتها
القديس نيل سورسكي
معروف في أدبنا النسكي وفي كتابات آبائنا القديسين أن الفكر البسيط ليصل إلى طور التنفيذ والفكر والواقع يمر قبل ذلك بمراحل عدة. هكذا يميز الآباء تلك المراحل إلى ما يلي: أولاً الاثارة, ثم الحوار, وبعده القبول, يلي ذلك العبودية, وأخيراً وخامساً يأتي فعل الهوى والتنفيذ.
اولا الإثارة:
القديس يوحنا السلمي وأيضاً فيلوثيوس السينائي وغيرهما كثيرون كتبوا أن الاثارة هي الفكر فقط في بدايته, أو أنها الانطباع حال حضوره في الذهن, أي الانطباع والتأثر الذي يدخل إلى القلب لسبب ما ومنه يصعد إلى الذهن. يقول القديس غريغوريوس السينائي: إن الاثارة هي تذكير أو ذكرى يجلبها العدو إلى ذهننا موعزاً ‘إعمل هذا أو ذاك’, كما ظهر تماماً للرب يسوع ودعاه لأن ‘يقول لذلك الحجر أن يصير خبزاً’ (متى 3,4) الاثارة هي عامة أي فكرة يدخلها الشيطان إلى فكر الانسان. وهذه المرحلة من حربنا الروحية, كما يشدد الآباء هي بلا خطيئة ولا مسؤولية لنا فيها, لأنها إثارة ذهنية من الشيطان عدّو خلاصنا. وكما يقول القديس سمعان اللاهوتي الحديث, إن هذه الاثارة ليست منّا وبالتالي يجب ألا تزعجنا وألا تقلقنا. هكذا بدأ الشيطان مع الجدين الأولين لكنه بعد البداية نجح معهما حتى قدر بالنهاية على طردهما من الفردوس وابعادهما عن الله بإيقاعهما في المعصية وبتنفيذ تلك الفكرة التي زرعها فيهما, وهكذا بنفس الاسلوب يستطيع أن يحارب بعدهما كل إنسان آخر ببث الأفكار الشريرة والسيئة فيه. يقدر الكاملون فقط أن يبقوا بعد مرحلة الإثارة غير متزعزعين, رغم أن الشيطان نجح مرات عدة حتى مع هؤلاء إلى ما بعد هذه المرحلة.
ثانيا الحوار:
إن الحوار مع الفكر, كما يوضِّح لنا الآباء القديسون, قد يكون حيادياً لا ذنب ولا خطيئة أو هوىً فيه, أو يكون على العكس منقاداً لأهوائنا الداخلية. وهذا يعود إلى خيارنا الشخصي وإلى جوابنا الحر على الفكر الذي ظهر في ذهننا الذي زرعه العدو. فالحوار هو المناقشة التي تدور مع الفكر والانشغال الأولي معه. حتى هذه المرحلة لا خطيئة ولا مسؤولية علينا بعد. ومطوَّب فعلاً من يستطيع أن يصلح أفكاره السيئة في هذه المرحلة, بمعونة الرب. هكذا إن لم يوقف الانسان الأفكار الشريرة ويردها هنا في هذه المرحلة, عندها سيبدأ الشيطان بمحاورته والمحاولة معه إلى أن يقود ذلك الإنسان إلى فعل الخطيئة بعينه. لهذا علينا أن نجاهد ونتيقَّظ بحيث نصلح في هذه المرحلة أفكارنا وأن نميل بذهننا إلى الموقف والرد والفكر السليمين. وكيف يمكننا ذلك!؟ هذا ما سوف نوضحه فيما بعد
ثالثا التوافق
التوافق مع الفكر, كما يقول آباؤنا القديسون, هو الاستسلام لتلك الاثارة وذلك بدافع الأهواء الداخلية ونتيجة الميل إلى اللذات واتباع رغباتها. هكذا نتعرض إلى الخضوع لأفكارنا السيئة والتوافق معها بعد أن نكون قد قبلنا تلك التخيلات أو الذكريات التي يثيرها فينا العدو, الذي سيجرنا رويداً رويداً بعد ذلك على تنفيذ إثاراته وإيعازاته السابقة.
وهذا ما يحصل مع كل واحد منا عندما لا يكون يقظاً روحياً أو عندما لا يحيا حياة روحية حية ونسكية. فإننا عندما لا نحيا حياة نسكية ونجاهد الجهاد الحسن نفقد يقظتنا الداخلية وروح التمييز. فبينما أعطانا الله القدرة على مواجهة أفكارنا وإصلاحها فإننا على العكس نعيش في الكسل والتهاون فنخضع لتلك الأفكار بدل أن نسود عليها. لهذا نحن لا نبرأ من خطيئتنا لأننا نتهاون في صدِّ وإيقاف الأفكار الشريرة التي نرضى بها. وإن كان أحدنا أو أحد الرهبان المبتدئين غير قادر على تمييز الأفكار ولا يعرف إسلوب صدها وإصلاحها عليه أن يلجأ فوراً إلى الله متضرِّعاً طالباً مساعدته, فقد كتب: ‘إعترفوا للرب وادعو باسمه القدوس’. (مزمور 1,84)، }إدعوا: هنا تعني استنجدوا والله العظيم الرحمة سوف يسامح ضعفنا, هذا ما علمنا إياه آباؤنا بخصوص من تغلبه أفكاره الشريرة إلى حين قبولها وذلك رغماً عنه من قوة التجربة. ومع ذلك, كما يقول القديس غريغوريوس السينائي: ‘علينا في مثل هذه الحالة أن نجاهد لئلا نقترف الخطيئة وألا ننفذ بعدئذٍ ذلك الفكر بافعل والواقع‘.
رابعا العبودية:
أو السبي, وهو الاستسلام للفكر والسير متوافقين معه. لهذا كما يقول القديس غريغوريوس السابق ذكره: ‘من يتقبل الفكر الشرير ويحاوره ويوافقه فقد غُلب بالواقع منه, لأنه توقف عملياً عن مقاومته وبات يشتهي فعله وتطبيقه, ولو كان ذلك ليسَ سهلاً على أرض الواقع. فمرات كثيرة قد لا يلائمه الظرف أو الزمان أو المكان, أو يعيق تطبيقه أي مانع آخر‘.
هذا التقدم الطوعي والإرادي مع الفكر لفعل الشرّ هو بالطبع خطيئة وسنعاقب عليه. العبودية للهوى والفكر هو ميل يتولد في القلب فَيُعْمي بصيرتنا الروحية ويقيد حريتنا. لأن فكرنا يغدو عندها عبداً لهذا الفكر. لهذا عندما يسيطر على القلب فكر ونبدأ ننجر إلى فعله عملياً بإرادتنا, عندها لا توجد قوة شخصية يمكنها أن توقفه, فنعمة الله هي وحدها فقط القادرة في مثل هذه الحالة على أن تعيدنا إلى الحالة الأولى السليمة. وإذا تزايدت الأفكار الشريرة تضيع النفس وتغدو كمركب تتقاذفه أمواج البحر وتقوده كما تشاء, فتفقد النفس حريتها وهدوءها وسلامها الداخليين, هكذا الأفكار الشريرة تولد ضياعاً داخلياً في الانسان.
لكن الحكم على قبول هذه الأفكار وقت الصلاة هو غير الحكم على قبولها في ساعات وأوقات أخرى. والحكم يختلف أيضاً حسب نوعية هذا الفكر. فقبول فكر شرير في ساعة صلاة, أي بوقت علينا فيه الاتجاه نحو الله واليقظة والانتباه هو غير قبول ذلك الفكر في ظروف صعبة للحياة اليومية العملية. على كلٍّ علينا أن نتيقظ دائماً وأن نسعى لطرد كل فكر شرير.
خامسا فعل الهوى:
الهوى, كما يقول الأباء هو مرض يعشّش في النفس وذلك بسبب العادة. فقبول أفكار ما, يزرعها الشيطان فينا, بشكل متكرر ومتواصل يجعل هذه الأفكار تصير هوىً يروح ويقوى وينمو ويصير يقلقنا وتغدو بعدئذٍ تلك الخطيئة عادةً لدينا. هذه العادة تقوى كثيراً إما من تكرار الفعل عينه أو من تخيله أيضاً. أضف إلى ذلك أن العدو لن يفتأ ولن يكل عن تجربتنا بأعمال تشعل فينا ذلك الهوى. أيضاً تزداد قوة تلك العادة عندما يقوم الانسان لوحده بمحاورتها وقبولها إما عن عدم وعي أو طوعاً بإرادته إذا كان لا يملك فيه أي رادع, لا الخوف من العذابات الأبدية ولا الرغبة في التوبة, أي لا تبدو له عادته هذه شراً ولا يصلي ولا يطلب التخلص من عادته هذه. عندما نقول أن إنساناً سيعذب بالنار الأبدية هذا لا يعني أن عذاباته هذه هي عقوبة على تجربته وإنما نتيجة عدم توبته بعد تجربته. لأنه لولا ذلك لما كان لأي إنسان خلاص.
وبقدر ما يستعبد الانسان لهوى بقدر ما عليه أن يجاهد أكثر في مقاومته. على سبيل المثال إن غُلب انسان ما من هوى الزنى عليه أن يبتعد بالكلية عن أسباب هذا الهوى وعن الظروف التي تسببه أو عن الشخص وعن كل ما يذكره بهواه هذا أو يشعله داخله لأنه إن لم يقِ الانسان ذاته من كل تلك الأسباب سوف يعود للإنغلاب من هذه الأفكار التي سوف تعود وتلتهب داخله مستغلة تلك العادة وتلك الظروف مالئةً ذهنه بهذه الأفكار ومسيطرة عليه كوحش ثائر