الصليب، خشبة الحياة، هو بحسب فعله السري في كيان الإنسان والجسد محيي حقاً، فإذا استطعت أن تحتوي الصليب في قلبك كهدية حياة من السماء، فلا الباطل الذي في العالم يستطيع أن يغشاك ولاظلمة العالم تستطيع أن تطفيء نور الحياة داخلك، ولا أي ضيقة في العالم أو خطية تستطيع أن تحصرك أو تربطك. هذا لو قبلت الصليب كقوة غلبة وخلاص في شخص المسيح المصلوب. وهذه هي حقيقة الإنجيل كله: " قوة الله للخلاص " و " قوة الله " و"حكمة الله " و " مجد الله ".
وهذه الحقيقة هي التي انكشفت لجميع الشهداء والقديسين، فأقبلوا حاملين الصليب بفرح من أجل ما وراءه من سرور ونصرة. لهذا فإن كل من أدرك سر الصليب فإنه لايعود يتهرب من الضيق أو يخشى الظلم أو يخور تحت الإضطهاد.
فسرُّ الصليب قوة وُهبت لنا لتسكن داخل قلبنا وأجسادنا لتحوِّل كل مافينا وكل ماهو خارجنا لحساب مجد الله. وهي كهدية، تظل بلا قيمة إلى أن ندخل الضيقة، أو إلى أن تتضافر ضدنا قوى الظلام، حيث يبدأ الصليب يعمل عمله ليتمجد الله في موتنا وحياتنا.
فلو أنت تصورت معي موقف إنسان مظلوم بشبه ظلم المسيح أمام حنَّان وقيافا أو أمام بيلاطس وجنوده، وابتدأ هذا الإنسان المظلوم يرفض الظلم ويثور مطالباً بحقه ومهدداً باستخدام القوة والقانون،
إذا كان لأحد حق وأراد أن يأخذه بالقانون والمحاكم، فهذا ليس خطية ولاعيباً، ولكن لن يكون للمسيح المصلوب مكان في هذه المحكمة، بل سيقف بعيداً ويترك الحق يطالب به المحامي الشاطر وعلى قدر فلوسك، والقضية تسير وفقاً لرأي القاضي والقانون وعدل الإنسان. أما إذا تُرك الحق الضائع للمسيح فهو يستطيع أن يردَّه ويزيده دون أن ينجرح الصليب.
إذا رضينا بالنكران والخسارة حباً في صليب المسيح، فلن يرضاها لنا القائم من الأموات، بل سيعطي عوض النكران كرامة وعوض الخسارة بركة، ويظل الصليب هو المحكمة الإلهية العليا التي تنصف المظلومين والمنسحقين تحت حد السيف أو المنشار
خبرة الصليب هذه، أعتقد أنه لايوجد أحد منا لم يذُقها، فكلنا ظُلمنا، وكلنا قبلنا المرض والتعب والإهانة والمهانة وإنكار حقوقنا وكرامتنا. ولكن قليلُّ منا من سار في درب الصليب حتى النهاية، لم يشتكِ أو لم يتظلَّم أو لم يئن. هذه هي قوة الصليب الفعالة في جسم الكنيسة الحاملة عار المسيح والمرشحة للمجد الأسنى.
وقوة الصليب ومفاعيله متعددة وكثيرة، نأخذ منها كنموذج :
كيف ينقلنا الصليب من البغضة إلى المحبة :
إنسان مظلوم يحقد ويبغض ويهدد، هذا في الحقيقة انحصر عنه نور الصليب لأن روح العالم استطاع أن يحتويه. والإنسان الذي ينفتح كيانه لحركة العداوة والحقد يلبسه روح العالم في الحال، لأن العداوة تتغلغل النفس والجسد والعقل والأعصاب ويصير وكأن سحابة مظلمة تخيِّم عليه. وكما يقول القديس يوحنا الرسول: " في الظلمة يسلك ولايعلم أين يمضي " (1يو11:2).
أكبر حاجز يحجز نور الحب الإلهي عن الإنسان هو العداوة والبغضة حينما تكون دفينة في القلب. الصليب وحده هو القوة الإلهية التي هدمت العداوة التي جاء المسيح لكي يرفعها في جميع صورها، سواء بين الإنسان والله أو بين الإنسان والإنسان.
" هكذا أحب الله العالم حتى بذل إبنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية " (يو16:3). هنا حب الله للعالم لم يكمله إلا صليب المسيح، فالحب لايملك القلوب إلا بالصليب. ففي الحقيقة إن الحب والصليب لايمكن أن يفصلهما عن بعض إلا العداوة. والعداوة والبغضة تلغيان قوة الحب وقوة الصليب معاً، لذلك حينما تدخل البغضة تفصل الإنسان نهائياً عن الصليب، وبالتالي عن كل ما يختص بالفداء والخلاص.
الله حينما أراد أن يصالح الإنسان بنفسه، صالحه بالصليب!! لايمكن أن ترتفع البغضة من قلب الإنسان إلا إذا قَبِلَ أن يموت عن مبغضيه – أي قَبِلَ الصليب. لابد أن يكون الإنسان في استعداد هذا الموت دائماً وكاملاً عن العالم وكل ما في العالم، لينفتح أمامه باب الحياة.
فإنسان يترك قلبه للبغضة معناه أنه لم يمت عن العالم بعد، لم يذُقْ هِبة محبة الآب للعالم أي الصليب!! هبة الآب للعالم هي بذل إبنه الوحيد على الصليب. فالصليب بحقِّ هو قوة حوَّلت حالة العالم كله من تحت الغضب الإلهي إلى محبة أبوية فائقة. الله الآب استطاع بالصليب أن يصالح كل العالم لنفسه بالمسيح على الصليب متغاضياً عن جهالة الإنسان (2كو19:5).
لكن حينما يتجاهل الإنسان ذبيحة المسيح على الصليب التي أكمل بها المصالحة وأسِّس بها الحب ثم يعود ويُملِّك العداوة والبغضة في قلبه، فإن هذا يكون بمثابة إعطاء تصريح رسمي للشيطان ليعود بنا مرة أخرى إلى حالة الغضب الإلهي.
إذن، فغياب المحبة معناه غياب الصليب وبالتالي غياب محبة الله وسلامه.
لقد عبَّر القديس بولس الرسول عن قوة المصالحة الكامنة في الصليب هكذا: " يصالح الإثنين في جسد واحد مع الله بالصليب قاتلاً العداوة به " (أف16:2).
كما لمَّا أراد الله أن يحب العالم، بذل إبنه على الصليب، هكذا إن أردت أن تُحب، فلابد أن يكون حبك على أساس البذل لتحيا نفسك والعالم حولك.
من أجل هذا كان همُّ القديس بولس الرسول الأول من جهة ثبوت الكنائس في إيمان المسيح أن يكون الصليب حقيقة حيَّة وقوة محرِّكة: " لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً " (1كو2:2)، ليس يسوع المسيح فقط وإنما يسوع المسيح مصلوباً.
ممكن أن تكون مسيحياً ولا تحتمل الظلم والإضطهاد والإهانة فتكون حينئذ غير مدرك لمعنى الإيمان بالمسيح المصلوب – " لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً " معناها أني أريد أن يكون إيمانكم قائماً على أساس المسيح الذي مات من أجلكم وأن يكون ثمر هذا الإيمان فيكم استعدادكم أيضاً للموت حباً له وللآخرين.
إن كان إنسان ما قد استطاع أن يُظهِر ولو قليلاً جداً من رائحة المسيح الذكية، فهذا يكون بسبب وجود المحبة الباذلة.
لو ارتفع معيار هذه المحبة للمستوى الذي صُلب به المسيح الذي وهبه لنا في سر الكنيسة سواء في سر المعمودية أو التناول أو بقية الأسرار، لاستطعنا أن نقدم المسيح للعالم كله دون أن نتحرك من مكاننا!!
لأن كل من حاز على سر الصليب في قلبه وحياته، صار هو بدوره قوة في العالم لا تنتهي لتحويل البغضة إلى المحبة. لأن الذي يصنع سلاماً ويصالح إثنين، إبن السلام يُدعى. ولكن من ذا الذي يستطيع أن يصالح إثنين متخاصمين إلا من كان على استعداد أن يبذل حياته عنهما؟
العالم اليوم محتاج لإنسان المصالحة، إنسان الصليب، الذي يستطيع أن يكرز بالحب والصلح والسلام والحياة.
إني أتكلم يا أخوة بروح الإنجيل؛ هذا صوت القديس يوحنا الرسول: يا أحبائي من هو الإنسان الذي انتقل من الموت إلى الحياة؟ أليس هو الذي أحب الإخوة؟!! (راجع1يو14:3).
أليس هذا عجيباً، وأليس هذا هو ما تحتاجه الكنيسة والعالم اليوم؟ عندما نُحب الإخوة ننتقل من الموت إلى الحياة. نعم، ومن يستطيع أن يحب الإخوة إلا الذي هو على استعداد أن يموت كل يوم على صليب ربنا يسوع المسيح، الذي أخذ في نفسه قوة أن يغلب الشر بالخير وقدرة أن يقتل العداوة بالحب؟ هذا هو الذي انتقل من الموت إلى الحياة، واستطاع بالتالي أن يحوِّل الموت في الآخرين إلى حياة.
هل رأيتم كم نحن في إحتياج لنعيش في سرّ الصليب وقوته اليوم ليست الحاجة كما قيل في القديم: " لا جوعاً للخبز ولا عطشاً للماء بل لاستماع كلمة الرب " (عا11:8). هذا كان قديماً، ولكن ليست الحاجة اليوم تبدو كما كانت قديماً إلى كلمة الله، وإنما الحاجة ماسة جداً إلى الصليب – ضياع الصليب هو السمة الشاهدة على ضعفنا ، إذ لا يوجد قبول عملي للصليب. كل إنسان يتململ من تجربته، كل إنسان يشتكي من ضيقته، كل إنسان يصرخ من الظلم الواقع عليه، والكل يلوم الله.
هذه السمة هي سمة الجيل كله. ورئيس هذا العالم بدوره ينتهز هذه الفرصة النادرة فيبدأ بتخطيط ماهر للغاية لكي يذيق كل أولاد الله أنواعاً متعددة من الإضطهادات والمظالم والأمراض والأوبئة والجوع، لكي يرتفع صراخ الكنيسة وشكواها وتذمرها. وهكذا يتقلص معنى الصليب وتتبدد قوته من داخل القلوب ومن الأرض كلها، وينشغل المؤمنون بالمطالبة بالحقوق الضائعة!
ولكن متى كان العالم أو بالحري رئيس هذا العالم مستعداً أن يرد حقوقاً هو هو الذي ضيَّعها؟، أو متى كان الله نفسه مستعداً أن يوسع طريق الخلاص ويفرشه بالراحات وبالخيرات الزمنية ؟
لقد كاد يتلاشى من حياتنا معنى الصليب وضرورته، الإحتمال، الصبر، طول الأناة مع الشكر والحب رغم الظلم والإضطهاد والضيق، حتى يتجلى المسيح وتأتي المعجزات.
نحن كلنا يعوزنا اليوم أن نحمل صليب المسيح بالروح والحق