شهر ايلول شهر الصليب المحيي في الكنيسة الشرقية
مع بداية السنة الكنسية الجديدة في أول شهر أيلول تضع الكنيسة المقدسة أمام أعيننا الهدف الذي يسعى اليه كل مؤمن وهو الوصول الى الخلاص الذي تحقق بالصليب. لذلك تهتم الكنيسة الارثوذكسية بالصليب اهتماما عظيما اذ تعيَد الكنيسة المقدسة في الرابع عشر من ايلول من كل عام لرفع وظهور الصليب الذي صلب عليه رب المجد والذي عبره تحقق الخلاص لما بسط الرب يسوع يديه على الصليب.كذلك خصصت الكنيسة له احدين : " الاحد قبل رفع الصليب" و"الاحد بعد رفع الصليب".
لذلك الكنيسة الارثوذكسية المقدسة تعتبر عيد رفع الصليب" المحيي" من أكبر أعيادها ولهذا كان يعرض الصليب المقدس على المؤمنين للسجود له قبل العيد بثلاثة ايام،ولم تكتف الكنيسة الارثوذكسية بتعيَده ليوم واحد بل خصصت له يومين آخرين بالسجود للصليب،وهو الاحد الثالث من الصوم الكبير ،والاول من شهرآب، دفعا للامراض .
يعود سبب نشؤ عيد رفع الصليب "المحيي" الى اكتشاف الصليب المقدس على يد الملكة القديسة هيلانة والدة الامبراطور القديس قسطنطين وتكريس بناء كنيسة القيامة،ايضا السبب الثاني لعيد رفع الصليب " المحيي" هو ظهور علامة الصليب في السماء مع عبارة " بهذه العلامة ستنتصر" التي ظهرت للامبراطور قسطنطين عندما كان يحارب خصومه والذي انتصر في الحرب والسبب الثالث هو استرجاع خشبة الصليب من الفرس على يد الامبراطور هرقل حيث رفع الصليب في مكانه الاصلي ليجسد له كل المؤمنين.
أول من أشار إلى حادثة اكتشاف خشبة الصليب بواسطة القديسة هيلانة، القديس امبرسيوس أسقف ميلان ( 339 – 397 م ) ، وقد ذكرها في إحدى عظاته عن ( انتقال ثيوذوسيوس ) سنة ( 395 م ) ، وأيضاً نقل قصة اكتشاف خشبة الصليب عن القديس امبرسيوس كل من القديس يوحنا الذهبي الفم ( 347 – 407 م ) ، والقديس يولينوس ( 353 _ 431 م). لكن الأسقف كيرلس الأورشليمي ، هو أكثر من استفاض في ذكر اكتشاف خشبة الصليب في عظاته التي ألقاها سنة ( 348 م ) ، وكان يخاطب المؤمنين وهو داخل كنيسة القيامة مشيراً إلى التابوت الموضوع فيه الصليب وكان قد مرّ على اكتشافه ما يقرب 25 سنة ، إذ قال في إحدى عظاته : " لقد صلب المسيح حقاً ، ونحن إن كنّا ننكر ذلك فهذه الجلجلة تناقضني ، التي نحن مجتمعون حولها الآن . وها هي خشبة الصليب أيضاً تناقضني التي وزّع منها على كلّ العالم "
لقَبت الكنيسة الصليب بلقب " المحيي " لانه صليب ربنا هو قوة حقيقية للخلاص،هذا هو ايماننا الذي تسلمناه من الرسول الالهي بولس( 1 كورنثوس 1- 18). كما أن كلمة "قوة" تأتي في اللغة اليونانية من الأصل "ديناموس " والتي تأتي منها كلمة "دينامو Dynamo" ومن المعروف أن الدينامو هو مولد الطاقة، والصليب بهذا المعنى هو مصدر ومولد الطاقة لحياتنا المسيحية.كذلك كلمـة "ديناموس " اليونانيـة والتي تُترجم قــوة، تأتي منها الكلمـة Dynamite ديناميت"؛ وجميعنا يعرف ما للديناميت من قوة، وهنا يستخدم الرسول بولس لكلمة قوة الله، ذات الكلمة اليونانية "ديناموس"، فيقول: "فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ"، فالصليب قوة للتفجير والخلاص من الخطية وأثارها وفي ذات الوقت مولد للطاقة
ان كلمة الصليب في ذاتها تستحضر للذاكرة الإنسانية مشاهد الموت والقتل، وهذا ما كانت تعنيه كلمة الصليب عند اليهود واليونانيين، لذلك فإن الرسول بولس لم يكن يقصد بكلماته هذه "صليب من خشب" أي كان نوع الخشب المستخدم في صنعه، ولم تكن كلمة الصليب بهذا المعنى لتصبح عثرة لليهود، أو اليونانيين. من الواضح والطبيعي أن الرسول بولس لم يكن يقصد خشبة الصليب، لكنه قصده الأساسي بقوله كلمة الصليب: "شخص المصلوب ذاته"، "رسالة الصليب"، إنه شخص المسيح المصلوب الذي عُلق على خشبة، وآمن به تلاميذه، ونادوا بأنه هو المسيح المنتظر، الذي جاء ليخلص البشرية من خطيتها ويفتح طريقاً للخاطئ ليعود لله، كانت هذه الرسالة هي العثرة أمام أفكار اليهود، وأذهان وعلم وحكمة اليونانيين. وحافز للاستمرار والنمو في الحياة المسيحية.
مما ساعد في تصوير المسيح مصلوباً هو المجمع الخلقيدوني ( 451 م ) الذي أراد مقاومة اليعاقبة الذين ينكرون الطبيعة البشرية في المسيح ، ويجحدون حقيقة ذبيحته على الصليب ، لهذا تصدّوا لهم وأكثروا من تصوير المصلوب ليقرروا الطبيعة البشرية في الرب ، من هنا نستنتج أن صورة المصلوب كثرت في الشرق بعكس الغرب ، ولم تدخل صورة المصلوب إلى الغرب إلاّ في القرن الثامن الميلادي ، على يدّ الرهبان الشرقيين عند دخولهم إلى إيطاليا.
ان عيد رفع الصليب"المحيي" هو عيد الحب الحقيقي،العيد الاكثر اهمية انه احتفال لمحبة الله الفادي لنا. عيد رفع الصليب" المحيي" عيد الحب من خلال الظهور محبة الله في المسيح التي ظهرت بوضوح على خشبة الصليب لذلك الله لم يحبّ الإنسان لأنه ذكي أو غنيّ ، الله أحبّ الإنسان لضعفاته وسقطاته ، أحبّه لأنه يعرف أن الإنسان بحاجة إلى هذه المحبة ليخلص ، المحبة هي وحدها القادرة على تخطي الضعف والسقوط ، صليب المسيح وحده أنقذ الخليقة وانتصر على الموت ، بصليب انتصر المسيح على مملكة الجحيم ، وبه ننتصر نحن على كل ضعف فينا ، لننموا إلى إنسان كامل إلى قياس قامة ملء المسيح ( أفس 4 / 13 ) . لهذا ردد يسوع : " من لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني " ( متى 16 / 24 ) .
في نصوصنا الليتورجية نقول :" لصليبك يا سيد نسجد ولقيامتك المقدسة نمجد" هذا ليس معناه إطلاقاً عبادة أوثان .. هناك فرق بين عبادة الأوثان والعبادة المسيحية (السجود للصليب ..) عندما ينفصل الله عن المادة تصير المادة وثن وعندما يتحد الله بالمادة تصير المادة مقدسة . عباد الأوثان كانوا يسجدون للأوثان (حيوانات – كواكب … الخ) بمعزل عن الله لذلك كانت عبادتهم نجسة .. أما نحن عندما نسجد لهذه المادة نعلن أن الله متجلى فيها وأن المادة في نظر الله مقدسة وأنه يمكن أن يتحد بها .. وهذا يعلن إيماننا بالتجسد، وأن التجسد ليس هو قصة وهمية إنما واقع يومي وبرهانه أن الله فينا .. وأن المادة صارت مقدسة .. وأن الله يتحد بالمادة لذلك فأنا أتقدم للمادة بكل وقار .. وأتلاقى مع الله خلال هذه المواد .. ومن يعترض على هذا الكلام فهو لا يؤمن بالتجسد ويوافق الفكر الغنوسي القائل أن المادة شر …
إن كنا نؤمن أن الله خلق المادة كما هو خلق الروح … تصير المادة مقدسة وإن كنا نؤمن أن الله تجسد فإن المادة بالأحرى أكثر قداسة لذلك يمكنني أسجد للصليب ،وعندما نسجد للصليب فنحن نسجد للمصلوب لذلك يقول القديس بولس لرسول "عاملاً الصلح بدم صليبه" المقصود هنا بدم الذى صلب على الصليب أى المصلوب بقصد الاتحاد بين الصليب والمصلوب صار كأنه اتحاد مطلق .
اذا شهر أيلول هو شهر تكريم الصليب"المحيي"،عيد رفع الصليب، هو الذي اعطى هذا الشهر طابع التكريمي العظيم للصليب. الايام الـ 13 الاولى ما هي الا تهيئة للعيد والايام اللاحقة حتى الوداع ما هي الا امتداد لهذا العيد العظيم .
بالصليب ترسم وتبدأ صلواتنا وتنتهي ،لذلك لا تنفك الكنيسة الارثوذكسية المفتداة والمرتبطة بصليب النور والخلاص تذكر قي كل صلواتها الليتورجية الصليب على مدار السنة وخاصة يوم الاربعاء والجمعة وفي الايام الاعياد التي تختص بالصليب"المحيي".ولاهمية يوم عيد رفع الصليب "المحيي" الكنيسة تصوم هذا النهار وتصلي بحرارة الى الصليب" المحيي" متذكرة آلام وصلب المسيح وقيامته.
ولاهمية هذه الحقيقة الايمانية نظَم رهبان دير رقاد السيدة في حمطورة ( الجبل المقدس) صلاة ابتهال(براكليسي) الى الصليب "المحيي" ، باعتبار الصليب استأصل الشر من جذوره وصار الصليب" اصل حياتنا" حياة جديدة في المسيح.
وترتل هذه الصلاة (ابتهال) الى الصليب"المحيي" بشكل احتفالي في الايام الـ 12 الاولى من شهر أيلول وايضا يرتل مساء كل ثلاثاء وخميس من كل اسبوع على مدار السنة مع صلاة الغروب اكراما لصليب يسوع المسيح "المحيي" .
لتكن ابتهالاتنا وسجودنا للصليب"المحيي" منهجا لحياتنا وعلامة محبة.
أيلول 2009 باسيليوس محفوض