سر الشكر في العهد الجديد
في العهد الجديد تورد نصوص أربعة حول تأسيس الإفخارستيا: ( متى 26: 26- 29، مرقس 14 : 22- 25، لوقا 22: 15- 20، 1 كورنتس 11: 23- 25)، وإن ما "ينقله" بولس هكذا بعد أن "تسلمه" ، يبدو بالأحرى تقليداً ليتورجياً، وينبغي أن نفهم على هذا النحو أيضاً نصوص الأناجيل الإزائية، فهي تطغى بأسلوبها المقتضب على القرينة، فإنما هي انعكاسات ثمينة للأسلوب الذي به كانت الكنائس الأولى تحتفل بعشاء الرب. وتفسير ما نجد بين هذه النصوص من تشابه أو اختلاف، مرجعه أصلها هذا. فصياغة نص مرقس ذات الطابع الآرامي البارز، قد تنقل لنا التقليد الفلسطيني، بينما صياغة نصّ بولس- وهي ذات طابع أكثر هللينستيّة – قد تعكس لنا تقليد كنائس انطاكية أو آسية الصغرى، فيما صياغة نص متى يمثل لنا على الأرجح تقليد مرقس نفسه، مع بعض الاختلافات البسيطة أو الإضافات التي قد ترجع أيضاًً، إلى أصل ليتورجي. أما بالنسبة إلى لوقا، فإنه يثير مشاكل دقيقة، عرضت لها حلول متنوعة متضاربة : فآياته من 15- 18 قد تمثِّل تقيداً قديماً، مختلفاً عن الآخرين، أو على الأرجح، إسهاباً استمده لوقا نفسه من مرقس 14: 25. وفيما يتعلق بالآيتين 19- 20، اللتين ينبغي اعتبارهما أصليتين، بخلاف الشهود التي تهمل الآيتين 19 ب و.2، فإنهما تعتبران تارةً بمثابة توفيق بين نص مرقس ونص كورنثوس الأولى، جاء به لوقا بنفسه، وتارةً كصورةٍ أخرى لتقليد الكنائس الهللينستيّة يقوم به شاهد ليتورجي ثالث ، إلى جانب شاهد مرقس/ متى، وشاهد كورنثوس الأولى.
على أن الاختلافات البسيطة بين هذه النصوص المتنوعة ضئيلة الأهمية، فيما عدا أمر يسوع بالتكرار الذي أغفل في مرقس/ متى، فهو يحملنا على اعتباره، منذ البداية، الشاهد القائم في كورنثس الأولى/ لوقا، مرجحاً بذلك الاحتمال الباطني على أنه عريق في القدم.
وثمة مسألة أخرى يتعلق بها تفسير هذه النصوص، وهي إطارها التاريخي . فبالنسبة إلى الأناجيل الإزائية ، كان ذلك في عشاء فصحي (مرقس 14: 12- 16). ولكن بحسب يوحنا 18: 28، 19: 4 1 و 31، لم يجر الاحتفال بالفصح إلا في اليوم التالي، أي في مساء الجمعة، وقد بُذلت كل المحاولات لتفسير هذا الاختلاف ، وذلك إما باعتبار يوحنا أنـه قد أخطـأ فأورد التأخير يوماً (في العشاء الفصحي) بقصد التوصل إلى هذه الرمزية بأن يسوع يموت ساعة ذبح حمل الفصح (يوحنا 19: 14 و 36)، وإما بالقول إنّ الفصح قد أقيم تلك السنة يومي الخميس والجمعة في جماعات مختلفة من اليهود، وإما أخيراً بافتراض أن يسوع قد أقام الفصح مساء الثلاثاء طبقاً لتقويم الأسّينيين. ولكن الأفضل أن نتصوّر بدون شك أن يسوع، وهو يعلم بأنه سيموت في وقت الفصح بالذات، قد بادر فأقامه في اليوم السابق له، مستحضراً في عشائه الأخير طقس الفصح بصورة يمكنه معها أن يدمج فيه طقسه الجديد، الذي سيصير طقس الفصح في العهد الجديد: وهذا الحل يحترم ترتيب يوحنا الزمني للأحداث، ويقيم اعتباراً كافياً لأسلوب العرض في الأناجيل الإزائية .
في الحقيقة يبدو من خلال نصوص تأسيس الإفخارستيا، أن هناك هدفاَ فصحياً أكثر منه مقصداً بإقامة مأدبة يهودية احتفالية، بل مأدبة إسّينية، على نحو ما زعم بعضهم لتفسير تلك النصوص. فإن تعاقب الخبز والخمر مباشرة في العشاء الأخير، كما كان يحدث في مآدب قمران، لا يدل على شيء من ذلك، ولا صلة له بشيء من ذلك؟ فقد يكون وارداً في النصوص الإنجيلية من باب الاختزال في الليتورجيا، احتفاظاً فقط بالعنصرين الهامّين في عشاء يسوع الأخير: الخبز في البداية، والكأس الثالثة في النهاية، مع حذف كل ما عساه قد وقع في الفترة الفاصلة بينهما. ومن جهة أخرى، فلدينا أثر كاشف لهذه الفترة الفاصلة، في عبارة "بعد العشاء" الواردة في (1 كورنثوس 11: )25)، قبل ذكر الكأس.
وفضلاً عن ذلك، فمآدب قمران الإسينيّة يعوزها المضمون اللاهوتي الفصحي الذي تعبر عنه كلمات يسوع . وليس من سند يبرر اعتبار هذا المضمون عنصراً جاء لاحقا بتأثير بولس أو الكنائس الهللينستيّة. أما ترتيب المأدبة الإسينيّة الدقيق، المشابه لترتيب العديد من مآدب الجماعات اليهودية في ذلك العصر، فقد يذكّر على أحسن تقدير، بما كانت عليه الوجبات العادية التي تناولها يسوع مع تلاميذه، وبما كانت عليه بعدها وجبات هؤلاء عقب القيامة، حينما كانوا يلتئمون حول القائم من الموت . أسوةً بالتئامهم فيما سبق حول المعلّم، واثقين على كل حال من وجوده في وسطهم دوماً، بوصفه الرب الذي قام من بين الأموات حياً إلى الأبد.
وليس لنا في الواقع ما يشير إلى أن الإفخارستيا قد أقيمت باستمرار خلال تلك الوجبات اليومية التي كان يتناولها إخوة أورشليم الأوائل بفرح، مع كسر الخبز في بيوتهم ( أعمال 2: 42, 46). فإن "كسر الخبز" هذا قد لا يكون إلا مأدبة عادية ، دينية على الأرجح أسوة بكل مأدبة من المآدب السامية، مع تركيزها حول ذكرى المعلم القائم من بين الأموات وحول انتظاره على أن تضاف إليها الإفخارستيا بالمعنى الدقيق عندما كانوا يستعيدون كلمات السيد وأفعاله، طلباً للاشتراك في حضوره السرّي في صورة الخبز والخمر، مما تتحول معه المأدبة العادية إلى "عشاء الرب" (1 كورنثوس 11: 2- 34). أما وقد تحررت الإفخارستيا من الترتيب الطقسي اليهودي، فقد أصبحت تقام بالتأكيد أكثر من مرة في السنة، بل فيما يبدو أسبوعياً (أعمال 20: 7 و 11)0 كما أننا في العديد من النصوص، لا نستطيع أن نجزم هل كان الأمر يتعلق "بكسر خبز" عاديّ، أو بالإفخارستيا بمعناها الدقيق (أعمال 27: 35 ومن ذلك الحين لوقا 24: 30 و35).
لذا لم يبق للإنسان إلا أن يسبح ويشكر المسيح بعد أن فتح لنا أبواب الفردوس ، ولذا الشكر هو كمال المعرفة وكمال الحرية التي قال عنها المسيح : " تعرفون الحق والحق يحرركم " ( يوحنا 8 – 32 ) 0 لان كل من ولد من لدن الله وكل من عرفه ويعرب له عن شكره فهو وحده يشكر العلي على نعمه 0
لذا الافخارستيا (الشكر) عمل يجدد الإنسان ويلده ثانية ، ففيه نتعرف من جديد ونعترف بمصدر الحياة نفسها ومصيرها الإلهيين ولهذا فالشكر يعود بنا إلى عرس الملكوت ويسمح لنا بمعاينة وجه الله وخليقته في سمائها وأرضها وتحقيق مجده 0
هكذا يبدو لنا سرالشكر( الافخارستيا) قوة وحياة وتوق ورضى ومحبة تحول كل الأشياء التي منحنا إياها الله في العالم إلى معرفة الله وشركة معه في الافخارستيا نقف أمام الله ونتذكر كل ما صنعه لاجلنا إذ نشكره على كل إحساناته ، نكتشف أن مضمون هذا الشكر كله هو المسيح ، وكل شكر هو شكر على المسيح 0 " فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس " 0