الافخارستيا – القداس الالهي
(سر الشكر)
المقدمة
اعتبر المسيحيون الأوائل أن يسوع هو الرب – كيريوس – وهم بذلك كانوا يعلنون أن يسوع لا ينتمي فقط إلى ماضي في تاريخ الخلاص ، انه ليس فقط موضوع انتظار مستقبلي لكن هو حقيقة حية فاعلة في الحاضر 0 فهو سيد متسلط يدخل في علاقة مع جماعته ومع كل واحد من أعضائها 0 لذا آمان المسيحيون بان قيامة المسيح هي بداية لزمن الأخير 0 لذلك كانوا يؤمنون بأنه سيأتي مرة أخرى فهكذا قال لهم أثناء حياته على الأرض 0 إذن فان عمله لا بد أن يستمر فيما بين القيامة والمجيء 0
إذا استشعر المسيحيون بهذا العمل الذي يربطهم بالمسيح القائم باجتماع العبادة وبالأخص في الافخارستيا لقد كان الهدف من الاجتماعات أن تصبح الشركة مع هذا القائم ممكنة ، كما كان يظهر وسطهم بعد القيامة فألان هذا يحدث بطريقة غير منظورة.
عبّر المسيحيون عن هذا الايمان في صلاة القديمة : " مار أن آثا " ، " تعال أيها الرب " ،" μαπανα Φα " ( 1 كورنثوس 16 – 22 ) و ( رؤيا 22 – 20 ) ولذلك من خلال الافخارستيا التي أصبحت مركز الصلوات والعبادة وسببها وغايتها حتى أصبحت مصدر روحيا عميقا للحياة مع المسيح شخصيا ومصدر إشعاع لاهوتي للفهم والأيمان والشكر بالفداء والخلاص على أساس الممارسة الفعلية والعيش به لأنها هي أساس عبادة الله وأساس الشركة مع الله الآب واساس العقيدة وأساس الشكر لله 0
تعني كلمة "إفخارستيا" مبدئياً: عرفان الجميل والامتنان، وبالتالي إبداء الشكر. هذا المعنى، وهو الأكثر تداولاً في اللغة اليونانية العادية، نجده أيضاً في النص اليوناني للكتاب المقدس، خاصة في مجال العلاقات الإنسانية. (حكمة 18: 2، 2 مكابيين 2: 27، 12: 31، أعمال 24: 3، رومة 16: 4). أما في العلاقة بالله، فإن الشكر (2 مكابيين 1: 11، 1 تسالونيكي 3: 9، 1 كورنثوس 1: 14، كولسي 1: 12) يأخذ عادة شكل صلاة (حكمة 16: 28، 1 تسالونيكي 5: 17- 18، 2 كورنثوس 1: 11، كولسي 1: 17، الخ)، كما في بداية رسائل بولس الرسول (مثل 1 تسالونيكي 1: 2). فهو يتصل هكذا، بطبيعة الحال، بالبركة التي تحتفل بعجائب الله، إذ تتبدى هذه العجائب للإنسان بمثابة هبات تزيّن حمد الشكران. وبذلك يكون الشكر مصحوباً "بتذكار"، تستحضر به الذاكرة الماضي (يهوديت 8: 25- 26، رؤيا 11: 17- 18)، ويكون الشكر eucharistein مرادفاً للتسبيح eulogein ) 1كورنثوس 14: 6- 18). وهذا التسبيح- الشكر نصادفه على الخصوص في المآدب اليهودية، حيث البركات تسبِّح الله وتشكره على الأطعمة التي منحها للبشر، وبهذا المعنى يتحدث بولس عن تناول الأكل "بشكر" (رومية 14: 6، 1 كورنثوس 10: 30، 1 تيموثاوس 4: 3- 4).
في معجزة تكثير الخبز الأولى، ينطق يسوع "ببركة" على ما ورد في الأناجيل الإزائية، (متى 14: 19)، و "بشكر" على ما ورد في يوحنا (6 : 11 و23). وفي معجزة التكثير الثانية، ما يذكره (متى15: 36) هو "شكر"، بينما يتحدث مرقس 8: 6- 7 عن "شكر" على الخبز، وعن "بركة" على السمك. هذا التعادل عملياً بين اللفظين يصرفنا عن التمييز، في العشاء الأخير، بين "البركة" على الخبز (متى 26: 26)، راجع (لوقا 24: 30) و "الشكر" على الكأس (متى 26: 27). ومن جهة أخرى يتحدث بولس بالعكس عن "الشكر" على الخبز (1 كورنتس 11: 24)، و "البركة" على الكأس (1 كورنثوس 10: 16). وفي الواقع هي كلمة "إفخارستيا" التي سادت في الاستخدام المسيحي للدلالة على العمل الذي أسَّسه يسوع عشية موته.
ولكن يلاحظ أن هذه الكلمة تعبّر عن حمد لعجائب الله بقدر ما تعبّر، بل أكثر، عن شكر على الخير الذي يحصل عليه البشر من العجائب. بهذا العمل الحاسم أضفى يسوع على أطعمةٍ (بسيطة) القيمة الأبدية القائمة على موته الفدائي، وبذلك أكمل يسوع وحدّد، لمدى الأجيال، تقدمة ذاته وجميع المخلوقات لله، وهو عمل يعدُّ جوهر تدبيره الخلاصي: ففي تقديم يسوع نفسه على الصليب وفي الإفخارستيا، إنما تحقق الإنسانية كلّها، ومعها الكون الذي يحيط بها، عودتها إلى الآب. وهذا الغنى الذي تتضمنه الإفخارستيا، والذي يقوم عليه محور العبادة المسيحية.
هكذا نجد أنفسنا في سر الافخارستيا أمام عطاءين موحِّدين للوجود : عطاء الله يعطي الإنسان أجمل وأصلح وأكمل ما عنده ، صورة حبه ، ابنه الحبيب يسوع المسيح وعطاء الإنسان يعترف لله بفيض خيره شاكر أو ملتزما تجاهه بعطاء مماثل فيرد كل ما أبدع وما أعطى بابنه يسوع المسيح الذي صار ذبيحة الفداء لانه جاء ليخدم " وبذل نفسه فداء عن كثيرين " 0 ( مرقس 10 – 45 ) 0 هنا إذا أصبحت الافخارستيا محصورة بسر الشكر الإلهي الذي بذل المسيح نفسه على الصليب وفي الافخارستيا 0 "انه لواجب وحق أن نسبحك ونباركك ونحمدك ونشكرك 000 " من يسبح ويبارك ويحمد بقلب صادق يقف ، في أعماقه ، موقف الشكر .
ولكن الشيء الجديد تماماً والذي لم يبق له مثيل، هو أن يسوع يذّخر ثراءَ هذه الذبيحة في أطعمة. لقد جرت العادة في إسرائيل ، كما لدي جميع الشعوب القديمة ، على الحصول على ثمار الذبيحة من خلال الأكل من الذبيحة، هكذا كان يقوم الاتحاد بالتقدمة، وبالله الذي يقبلها (1 كورنتس 10: 18- 21). فبأكل جسد يسوع الضحية، وبشرب دمه، سوف يشترك المؤمنون في ذبيحته، فيجعلون تقدمة حبه هو تقدمتهم، وينتفعون من العودة في النعمة التي تحققها التقدمة. ومن أجل أن يتمكّنوا من أن يفعلوا ذلك في أي مكان أو زمان، قد اختار يسوع أطعمةً عادية جداً ليصنع منها جسده ودمه مبذولين ذبيحة، وأمر تلاميذه أن ينطقوا في إثره، العبارات التي، بسلطانه (وبحلول الروح القدس) ستحدث هذا التحول. وبهذا يمنحهم مشاركة بالتفويض في كهنوته.
ومنذئذ، ففي كل مرة يعيد المسيحيون إتمام هذا الفعل، أو يشتركون فيه ، " يخبرون بموت الرب إلى أن يأتي " (1 كورنتس 11: 26)، لأن الحضور سرياً الذي يحققونه، هو حضور المسيح في حالته كضحية. إنهم يصنعون ذلك " ذكراً له " (1 كورنتس 11: 25، لوقا 22: 19)، بمعنى أنهم بالإيمان يتذكرون عمله الخلاصي، أو لعلهم بالأحرى يستعيدونه ليتذكره الرب ( لاويين 24: 7، عدد 10: 9- 10 ، سيراخ 50: 16، أعمال 10: 4 و31) ، كتقدمة متجددة باستمرار تستدعي نعمته. إنها " تذكار" ينطوي على استحضارٍ مطبوع على الانبهار والعرفان لعجائب الله، وأعظم هذه العجائب هي تضحية ابنه المبذولة لاستعادة الخلاص للبشر. إنها أعجوبة محبة يشترك هؤلاء فيها باتحادهم بالشركةْ في جسد الرب، وبه يتحدون مع جميع أعضائه (1 كورنتس 10: 14- 22) . إن الإفخارستيا سرّ ذبيحة المسيح، سرّ المحبة، سر الوحدةْ في جسد المسيحْ .