في الفصول 1- 11 من كتاب يشوع نقرأ عن الابادة الجماعية التي امر بها الله القائد يشوع ليقوم بها لعدد من المدن والقرى والجماعات :
1- مدينة اريحا ومدينة عاي ( 6: 21 و 8:24 و26 )
2- مجموعة من المدن والقرى 10: 28 – 41 )
3- بلدة حاصور ( 11: 20 )
4- مدن القسم الشمالي ( 11: 1- 12)
5- العناقيون ومدنهم ( 11:21)
من دلالات الكلمة " حرم" هي انه لا يجوز استعمال الشيء او الشخص موضوع التحريم ( لاويين 27: 28- 29 ) وانه مقضي عليه بالهلاك ( تثنية 13: 16) وقد استعمل التحريم في درجات متفاوتة.
ان الايات الواردة اعلاه هي جزء من بعض المقاطع الواردة في كتب التثنية ويشوع واللاويين من العهد القديم والتي تتحدث عن الحرب والقتل والابادة . ان قراءة هذه الايات وما شابهها من قبل اي انسان عادي، لا بد لان تثير في نفسه الاشمئزاز من هذه المشاهد الدموية الرهيبة.
مثل هذه الصور المؤلمة سمعنا عنها ورايناها في كفرقاسم ودير ياسين وقانا و غزة … مثل هذه الصور تقض مضاجعنا منطالب باحترام حياة الانسان وضمان امانهم وسلامتهم وامنهم . مثل هذه الصور توجب على كل انسان ان يدينها بشدة . ولكن كيف يمكن ان يدينها الانسان الانسان بشدة اذا كان الله الذي يعبده هذا الانسان هو الذي يأمر بتنفيذها ؟ وهل يعقل ان الله المحب يصدرمثل هذه الاوامر للفتك والقتل والابادة الجماعية؟
القول بان الانسان النتجرد من انسانيته قد يرتكب بمثل هذه الاعمال الوحشية ليحقق مشيئة الله وينفذ اوامره امر اخر . فما هو الحل لهذه المعضلة الاخلاقية ؟
شكلت هذه المعضلة عائقا ليس في فهم العهد القديم فحسب ، بل في فهم هوية اله العهد القديم وهي بالتالي تترك تأثير هاما في فهم علاقة العهد القديم بالعهد الجديد. ولكن لا بد من الاعتراف مسبقا ان هذه المعضلة معقدة وليس بالامكان الوصول الى اجابة كافية ووافية بشأن حلها ولكن لا بد م المحاولة .
الحل الاول :
يبدو ان اسهل طريقة لمواجهة هذه المعضلة هو الاعتقاد بان هناك عدم استمرارية بارزة ونهائية بين العهد القديم والعهد الجديدوبموجب هذه النظرية فان اله العهد القديم هو اله القتل والدمار اما العهد الجديد فهو اله الرحمة والمحبة . وبالتالي على المسيحي النظر الى يسوع المسيح اله العهد الجديد وليس الى اله العهد القديم ليستمد منه فقط قيمه الاخلاقية .
اعتقد ان هذه النظرية هي محاولة للهروب من المعضلة اكثر منها محاولة لواجتها ان انكار وجود اي استمرارية بين العد القديم والعهد الجديد بما يتعلق بالله وطبيعته وصفاته لهو امر لا يقر به العهد العهد الجديد .. وهذه النظرية عاجزة عن ان توفق بين ما تدعيه عن اله العهد القديم السادي والقاتل وبين ما يوصف به اله العهد القديم من محبة ورحمة ورأفة وحنان
الحل الثاني:
يركز هذا الحل على النظرية بان الشعوب التي كانت مقيمة في ارض كنعان امتازت بالشر والفساد الادبي والاخلاقي الى اقصىدركات الانحطاط ، مما اوجب غضب الله ودينونة عليها ولذلك استخدم الله شعب اسرائيل لينزل عقابه ودينوته بتلك الشعوب .
فاراد الله ان يحقق عدله وينزل قضاءه وعندما يعاقي الله فهو يختار وسيلة العقاب . لقد اختار سابقا ( الطوفان) ثم الكبريت والنار ( سدوم وعمورة) وهنا يختار ان يحقق مقصده بواسطة البشر . ومن ناحية اخرى كان التحريم وسيلة للدفاع عن نفس في بعض الاحيان ( يشوع 9: 1-2 و 11 : 1 – 5) وليس للهجوم دائما . ومن يعترض على حق الدفاع عن النفس ؟ .
وتؤكد هذه النظرية على عدالة الله . فالله هو قاض عادل لا يتغاطى عن فعل الشر والخطية وارتكاب الاثم والمعصية ونتايجة لازدياد شرور الناس امر الله بالطوفان ، طوفان نوح، ونتيجة لتفاقم الفساد في مدينتي سدوم وعمورة ام الله بدمار مدينتين . هل نتهم الله بالظلم وبالقيام بعمل غير لائق لانه امر بالطوفان ايام نوح زانزل الدمار على سدوم وعمورة ؟فالحق لا بد ان يظهر ، والعدل لا بد ان يأخذ مجراه ولا يمكن لمجتمع ان يستمر بدون وجود مبدأ تحمل المسؤولية ومجازاة المذنب. اذن يتطلب عدل الله انزال القصاص العادل عندما تعصى شرائعه ووصاياه وبالتالي كان التحريم بمثابة تحقيق لقضاء الله ودينوته .
هذه النظرية تحتوي على بعض الحقيقة الا وهي ان الله العادل والقدوس لا بد ان يعاقب الشر والخطية والفساد وقد يستخدم الله طرقا عديدة لتحقيق ذلك كاستخدام شعب الله طرقا عديدة لتحقيق ذلك كاستخدام اسرائيل ( شعب الله) في حالة الابادة الجماعية .
هنا نتسأل اذا كان الله يشاء ان ينزل العقاب بالخاطئ الاثيم فهل من المعقول ان يأمر اللهبقتل الاجنة وهي في بطون امهاتها . او بقتل الاطفال والاولاد الصغار؟ يجيب احد اللاهوتين الذي يدعم هذه النظرية بانه علينا قبول امر الله بالابادة الجماعية كما ورد في احداث العهد القديم دون البحث لايجاد جواب منطقي ومقنع لهذا السؤال . ويرى ان كل ما يقوم به الله هو صالح . لا يتعرض هذا اللاهوتي مباشرة الى مسألة الاجنة والاطفال ولكن لاهوتيا آخر يعلق على مسألة الاطفال بشكل مباشر فيكتي قائلا: " لا يفهم الكتاب المقدس هلاك الرجال والنساء والاطفال ودمار المدن على ان ذلك موت ابرياء فحتى اطفال لا يعتبرهم ابرياء فهم جزء من حضارة شريرة فان عاشوا سيؤثرون بشكل سلبي اخلاقيا ولاهوتيا ويلوثوا شعب الله" .
بالرغم با قداسة الله وعدالته تؤديان الى اقتصاصه من الجطية والخاطئ ولكن غير مقبول فكرة قتل الاطفال سواء بطريقة الابادة الجماعية او باية طريقة اخرى . والقول بان بقاءهم احياء" يلوث اسرايل اخلاقيا ولاهوتيا" هو قول مرفوض لانه على الرغم من ابادة هؤلاء الاطفال وربما غيرهم من الاطفال فهناك الف امكانية وامكانية لتلوث اسرائيل اخلاقيا ولاهوتيا ، وقد حدث ذلك مرارا عديدة في تاريخ اسرائيل .
وايضا ان القول بان قتل الاطفال كان لبلوغ هدف اسمى هو تحقيق القداسة لشعب اسرائيل وضمان حصوله على ارض كنعان تحقيقا لوعد الله فان ذلك يقدونا في متاهةاخلاقية هي " الغاية تبرر الوسيلة " . هل نقبل ان تتحقق الامور باية طريقة حتى وان كانت تنطوي على العنف والقتل والدمار من اجل تحقيق امور افضل واهداف أسمى ؟
الحل الثالث :
من اجل وضع معضلة الابادة الجماعية في اطار اللاهوت الكتابي الذي يحاول التوفيق بين العهد القديم والجديد تاتي نظرية الاعتراف بالابادة الجماعية انها تعبير عن ارادة الله، ولكن في الوقت ذاته تعتبر هذه النظرية انه علينا النظر الى العهد الجديد لمعرفة ابعاد الحرب الروحية التي تشمل شكلا من اشكال الابادة الجماعية وعندما يتم ذلك نلاحظ تدرجا من حرب دموية مادية الى حرب روحية.يين الدكتور Tremper Longman المراحل الخمس المتعلقة بمفهوم الحرب الالهية في الكتاب المقدس .
قبل تجسد المسيح :
المرحلة الاولى : الله يحارب اعداء اسرائيل ( خروج 15: 2- 2 )
المرحلة الثانية : الله يحارب اسرائيل ( ارمياء 21: 3- 7 و مراثي 2: 4- 5)
المرحلة الثالثة: رجاء يتوق الى المحارب الالهي ( فترة ما بعد السبي )( زكريا 14: 1- 3)
بعد خدمة المسيح :
المرحلة الرابعة: المسيح يحارب قوى الشر والشيطان بواسطة موته وقيامته وصعوده ( كولوسي 2: 14 – 15 )
عند مجيء المسيح الثاني
المرحلة الخامسة : المسسيح يحارب المعركة النهائية وينتصر فيها ( مرقس 13: 26 و رؤيا 19 : 11- 12 و 20 : 11- 15 )
لا شك ان هذه النظرية تحاول التوفيق بين تصرف الله في العهد القديم والعهد الجديد وبذلك تؤكد على العلاقة الوثيقة بين العهدين .فترى ان الحرب ضد الكنعانيين ما هي الا مرحلة مبكرة للحرب التي خاضها المسيح على الصليب والتي ستكمل في الدينونة الاخيرة . وهكذا ينتقل هدف غضب الله من الكنعانيين الى قوات الشر والسلاطين الروحية.
نلاحظ (روحنة) مفهوم الحرب في هذه النظرية ففي العصر الحالي يصبح المسيحي محاربا وجنديا ( افسس 6) ولكنه لا ليخوض الحروب المادية او ليرتكب العنف بل ليحارب ذاته بما فيها من شر وخبث ورياء وطمع وحقد وكبرياء.
ان ضعف او مشكلة هذه النظرية هي محاولة جمع كل انواع الحروب التي قادتها اسرائيل قديما دون التمييز بين الحروب العادية وبين الابادة الجماعية.لذا يجب ان نمييز ما بين ما يسمى ( الحرب العادلة) وبين الابادة الجماعية . فان ربط موضوع الابادة الجماعية في العهد القديم بموضوع الحرب الروحية التي يخبرنا عنها العهد الجديد ، لا يقدم تفسيرا مقنعا وكافيا عن سماح الله في العهد القديم بحدوث الابادة الجماعية خاصة للاطفال . هناك سؤال يطرح في هذه النظرية : اذا كان الله راض عن الابادة الجماعية الدموية في العهد القديم فلماذا يتحول في العهد الجديد الى الحرب الروحية ضد الشر ولا يستمر في شرعنة وترخيص الابادة الجماعية الدموية ؟ من المؤسف له بعض اتباع هذه النظرية يجيبون على هذا السؤال بالقول بان الله سوف يرمي حتى الاطفال الذين لا يتبعون المسيح في بحيرة النار في الدينونة الاخيرة .
الحل الرابع :
يبنى هذا الحل على نظرية فرضية الوثائق . يؤكد هذا الحل انه في العهد القديم ذاته ثمة مناظرة دائمة بالنسبة لمشكلتي الحرب والابادة الجماعية في العهد القديم فالكتابات الكهنوتية ( اي الوثيقة الكهنوتية) ترفض التقليد الحربي والدموي في العهد القديم بينما الكتابات التثنوية تقدم الشهوب الكنعانية كشعوب شريرة جدا لتبرير فكرة الابادة الجماعية. ردا على هذه النظرية انها تقدم امرا ايجابيا ومفيدا للمفارقات في العهد القديم المتعلقة بموضوع الحرب والابادة الجماعية.
الحل الخامس:
العناصر الرئيسية لهذا للحل تقوم :
1- ان لغة الحديث عن الابادة الجماعية تتصف بالمبالغة والمغالاة .
2- ان حدث الابادة الجماعية لم يحصل بشكل واقعي في زمن تاريخي معين، على الرغم من حدوث الحروب على مستوى ما .
3- ان ما يصفه كاتب احداث الابادة الجماعية هو ماذا كان ينبغي ان يحدث ، وليس ما حدث فعلا.
يشير العالم في الكتاب المقدس خرستفور وايت الى شيوع عنصر التهويل والمبالغة في لغة الحروب في الشرق الادنى، ويلاحظ ان هذا العنصر متوافر بشكل واضح في العهد القديم ففي كتاب يشوع نقرأ عن انه تم احتلال كل الارض وتمت هزيمة كل الملوك وتم القضاء على كل الاعداء( 10: 40- 42 و 11: 16- 20 ). ويصف الدكتةر رايت انه لا يجوز ان يدفعنا ذلك الشك في مصداقية العهد القديم بل الى ادراكنا بان الاسلوب الكتابة في العهد القديم هو جزء لا يتجزا من الاسلوب الادبي المتبع في الشرق الادنى القديم .
لم تتم كتابة كتب العهد القديم في وقت واحد بل خضعت عملية كتابتها لتطور مديد في الجمع والتوثيق والكتابة والتحرير والتنقيح خاصة في فترة السبي وبعده وصولا الى عهد القائدين عزرا ونحميا ( حوالي 400 ق م ) . ان العهد القديم لا يتضمن تاريخا بالمعنى الدقيق لمفهوم التاريخ كما نعرفه في عصرنا الحاضر،بل نستطيع ان نطلق عليه اسم التاريخ اللاهوتي اي ان الاحداث التاريخية في العهد القديم تم تصويرها وتدوينها من وجهة نظر لاهوتية معينة .
ينكر الكثير من اللاهوتين ان الله كان وراء وجهة النظر اللاهوتية هذه وان ما لدينا في العهد القديم هو مجرد انطباعات البشر وآرائهم . وايضا هناك اللاهوتيون يؤمنون بتدخل الله في تقرير وتةجيه هذا " التاريخ اللاهوتي" لخدمة مقاصده السامية ومشيئته الصالحة لبني البشر . كيف يساعدنا مفهوم " التاريخ اللاهوتي" في اقتراح الحل لمعضلة الابادة الجماعية؟
خلال فترة السبي وخاصة بعد انتهائها برز في اسرائيل شعور وطني قوي، وكان لهذا الشعور الوطني القوي تأثيره على الحياة الدينية والاجتماعية للشعب وخاصة من ناحية التعامل مع الاجانب وبالاخص الزواج من اجنبيات يعبر القائد نحميا ، الذي قاد اصلاحا وطنيا ودينيا انظر ( نحميا 13: 23 – 30 ).
ان ما اراده محرر نصوص الحرب المتضمنة احداث الابادة الجماعية هو ان يظهروا للشعب في فترة السبي او بعدها او في فترات لاحقة من تاريخ اسرائيل ، بان عدم قيام يشوع وغيره بواجباتهم التي اوصاهم الله بها بشدة ، والمتمثلة هنا بالقضاء النهائي على كل الشعوب الغريبة المحيطة باسرائيل ، هو احد الاسباب الرئيسة لما عانى الشعب في السبي وما يعانيه الان من صعوبان . ان هذه النصوص هي جزء من الدعاية ضد الاجانب ، هذه الظاهرة التي انتشرت في فترة السبي وبعدها. وليس من الضروري ان يكون القضاء حربي ودموي ومادي، بل بامكانه ان يتخذ شكلا غير عادي يتمثل بالابتعاد عن ممارسات هذه الشعوب التي تتنافى مع شريعة الله.
نقلا وبتصرف عن دراسة بعنوان:" لماذا لا نقرأ الكتاب الذي قرأه المسيح نحو فهم افضل للعهد القديم "