الشرُّ وَالخطيئَة الأصلية (2)
القِسم الثَاني
هل يكون الشرّ نتيجة الخطيئة الاصلية؟
الخطيئة الأصليّة في كتابات المغبوط أوغوسطينوس:
هناك تفسير للشرّ بدأ في المسيحية في القرن الخامس مع أوغوسطينوس، وساد الفكر المسيحي الغربي طوال قرون عديدة، وتأثرت به عقليتنا الشرقية، في حين كان في البداية غريباً عن تفكير آباء الكنيسة الشرقية القدامى.
يقول أوغوسطينوس ان آدم هو، كما يروي سفر التكوين، أول إنسان خلقه الله على الأرض. وهذا الانسان قد ارتكب الخطيئة الأولى التي يروي الفصل الثالث من سفر التكوين أحداثها. وبسبب وضعه المميّز في الفردوس ومسؤوليته الشاملة كجدّ للبشرية كلها، فقد انتقلت الخطيئة بالوراثة منه إلى جميع الناس. وفي رأي أوغوسطينوس أن الهوة الجنسيّة ليست من صُلب الطبيعة البشرية، أي ان الله لم يضعها في الانسان عندما خلقه، بل هي نتيجة خطيئة آدم وحواء. وبما أنها نتجت من الخطيئة فهي تقود حتماً إلى الخطيئة. لذلك كل انسان يولد إنما هو ثمرة الشهوة وبالتالي ثمرة الخطيئة. بخطيئة آدم لم تصبح البشرية خاطئة وحسب، بل فوق ذلك أصبحت تولّد أُناساً خاطئين. فآدم هو الأصل الذي كان الجنس البشري بجملته حاضراً فيه عندما ارتكب خطيئته. فخطيئته هي الأصل والسبب لجميع الخطايا التي ارتكبها البشر على مدى التاريخ. لذلك يدعو أوغوسطينوس خطيئة آدم "الخطيئة الأصلية".
لا يمكننا فهم تفسير أوغوسطينوس هذا إلا إذا وضعناه في إطاره التاريخي. فهذا التفسير ليس إلا جواباً على تعاليم المبتدع بيلاجيوس، الذي كان يدَّعي أن طبيعة الانسان ليست خاطئة ولا فاسدة، وأنّ كل إنسان بالتالي يستطيع الحصول على الخلاص ودخولَ الملكوت بأعماله البشرية، دون أي حاجة إلى فداء المسيح. فالمسيح لم يفتدِ الناس، بل كان لهم مجرّد معلّم ومثال. لا ريب في أن تعاليم بيلاجيوس هذه تقتلع سرّ الفداء من جذوره، إذ تزيل عن المسيح كل وساطة في الخلاص؛ لذلك ثار عليها أوغوسطينوس؛ إلا أن تفسيره للخطيئة الأصلية كان متطرّفاً إذ حمّل آدم وحده مسؤولية كل ميل إلى الخطيئة في الانسان.
وتبع معظم اللاهوتيين الغربيين نهج أوغوسطينوس وأضافوا إليه، فلم يكتفوا بتحميل آدم مسؤولية الميل إلى الخطيئة وحسب، بل حمّلوه فوق ذلك مسؤولية المرض والموت وسائر الشرور الطبيعية التي اعتبروها أيضاً من نتائج الخطيئة الأصلية.
ماذا يقول لنا الكتاب المقدّس عن خطيئة آدم هذه؟
الخطيئة الأصلية في سفر التكوين:
ان رواية خطيئة آدم وحواء في الفردوس متعلقة بالرواية الثانية للخلق، التي نجدها في الفصل الثاني منّ سفر التكوين. فبعد رواية خلق الانسان، يقول الكاتب:
"وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقاً، وجعل هناك الانسان الذي جبله. وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة حسنة المنظر وطيّبة المأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة، وشجرة معرفة الخير والشر… وأمر الرب الإله الانسان قائلاً: من جميع شجر الجنة تأكل، وأما شجرة معرفة الخير والشرّ فلا تأكل منها، فانك يوم تأكل منها تموت موتاً" (2: 8، 9، 16، 17).
ثم يتابع الكاتب في الفصل الثالث رواية الخطيئة:
التجربة
"وكانت الحيّة أحْيَل جميع حيوان البرية الذي صنعه الرب الإله، فقالت للمرأة: أيقيناً قال الله لا تأكلا من جميع شجر الجنّة؟ فقالت المرأة للحيّة: من ثمر شجر الجنّة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنّة، فقال الله لا تأكلا منه ولا تمسّاه كي لا تموتا. فقالت الحيّة للمرأة: لن تموتا! إنما الله عالم أنكما في يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتصيران كآلهة عارفي الخير والشرّ. ورأت المرأة أن الشجرة طيبة للمأكل وشهيّة للعيون، وان الشجرة منية للعقل،
السقوط في التجربة،
فأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت بعلها أيضاً معها فأكل، فانفتحت أعينهما فعلِما أنهما عريانان، فخاطا من ورق التين وصنعا لهما منه مآزر".
قصاص الله
"فسمعا صوت الرب الإله وهو متمشٍّ في الجنّة عند نسيم النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في ما بين شجر الجنّة. فنادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت؟ قال: إني سمعت صوتك في الجنّة فخشيت لأني عريان فاختبأت. قال: فمَن أعلمك أنك عريان، هل أكلت من الشجرة التي نهيتك عن أن تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت. فقال الرب الإله للمرأة: ماذا فعلت؟ فقالت المرأة: الحية أغوتني فأكلت. فقال الرب الإله للحية: اذ صنعت هذا فأنت ملعونة من بين البهائم وجميع وحش البرية، على صدرك تسلكين وترابًا تأكلين طول أيام حياتك، وأجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، فهو يسحق رأسك وأنت ترصدين عقبه. وقال للمرأة: لأكثرنّ مشقات حملك، بالألم تلدين البنين والى بعلك تنقاد أشواقك وهو يسود عليك. وقال لآدم: اذ سمعت لصوت امرأتك فأكلت من الشجرة التي نهيتك قائلاً لا تأكل منها، فملعونة الارض بسببك، بمشقة تأكل منها طول أيام حياتك، وشوكًا وحسكًا تنبت لك، وتأكل عشب الصحراء. بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود الى الأرض التي أُخذت منها، لأنك تراب والى التراب تعود.
الطرد من الفردوس
"وسمّى آدم امرأته حوّاء لأنها أُمّ كلّ حيّ. وصنع الرب الإله لآم وامرأته أقمصة من جلد وكساهما. وقال الرب الإله: هوذا آدم قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر، والآن لعلّه يمدّ يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضاً فيحيا إلى الأبد. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليحرث الأرض التي أُخذ منها. فطرد آدم وأقام شرقي جنة عدن الكروبين وبريق سيف متقلّب لحراسة طريق شجرة الحياة".
الخطيئة رفض الله
لتعريف الخطيئة يتكلّم سفر التكوين بأسلوب روائي، في حين يتكلّم سفر تثنية الاشتراع بأسلوب تشريعي. يقول الله للشعب على لسان موسى:
"إن هذه الوصية التي أنا آمرك بها اليوم ليست فوق طاقتك ولا بعيدة منك. لا هي في السماء فتقول مَن يصعد لنا إلى السماء فيتناولها ويسمعنا إياها فنعمل بها. ولا هي في عبر البحر فتقول مَن يقطع لنا هذا البر فيتناولها ويسمعنا إياها فنعمل بها. بل الكلمة قريبة منك جداً في فيك وفي قلبك لتعمل بها. أنظر اني قد جعلت اليوم بين يديك الحياة والخير والموت والشرّ… وان زاغ قلبك ولم تسمع وملت وسجدت لآلهة أخرى وعبدتها، فقد أنبأتكم اليوم أنكم يكون تهلكون هلاكاً، ولا تطول مدّتكم في الأرض التي أنتم عابرون الاردن لتدخلوها وتمتلكوها. وقد أشهدت عليكم اليوم السماء والأرض بأني قد جعلت بين أيديكم الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لكي نحيا أنت وذريتك" (تثنية 30: 11– 20)
نرى في هذا النص التشريعي العبارات نفسها التي ترد في حكاية آدم وحواء. "فالحياة والموت"، و"الخير والشرّ" هي بين أيدي الانسان. فان سمع وصية الله حصل على الحياة، وإلا نال الموت واللعنة وهلك هلاكاً.
ان "شجرة معرفة الخير والشرّ" التي يتكلم عنها سفر التكوين لا تعني مجرد التمييز بين الخير والشرّ، فهذا من ميزات الانسان العاقل، بل بالأحرى السلطة على تقرير ما هو خير وما هو شرّ، وهذا أمر محفوظ لله الذي يعلّم الانسان ما هو خير وما هو شرّ في ما يعطيه من وصايا.
فخطيئة الانسان إذاً تقوم على التمرّد على الله ورفض وصاياه. وهنا لا بدّ من الاشارة إلى أنه لا تناقض بين وصايا الله وخير الانسان. فالله لا يوصي إلا بما يقود الانسان إلى الخير ويمنحه الحياة. لذلك مخالفة وصايا الله هي في الوقت نفسه مخالفة ما يقود الانسان إلى الخير ويمنحه الحياة.