محبَّة القريب: "لكِ خيراتٌ كثيرة"
(لوقا 12: 16-21)
القديس باسيليوس الكبير
كان رجل غني أغلَّت له أرضه، ففكّر في نفسه قائلاً: "ماذا أصنع فانّ ليس لي موضع أخزن فيه غلالي. ثم قال أصنع هذا، أهدم أهرائي وأبني أكبر منها.." (لوقا 12/16). لماذا يا ترى أرض هذا الغني أغلّت كثيراً وفي قلبه رفْضٌ لخدمة الآخرين رغم وفرتها عنده. هذا، دون شكّ ليظهر بجلاء صبر الله الذي تشمل رحمته بشراً يشبهون مثل هذا اﻹنسان. "إنه الرب الذي يطلع شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين." (متى 5/45).
…تأملوا ماذا يصنع الرب مع اﻹنسان. سكب الأمطار غزيرة على أرض تزرعها أيدٍ بخيلة، وأطلع شمسه لكي ينمو الزرع ولكي تكثر الأثمار في الأشجار، وزاد خصباً تلك الأرض. كل هذه الخيرات هي منّة من الله: خصب الأرض وطيب المناخ، وفرة الزرع، قوة البقر في الفلاحة، باﻹختصار كل الخيرات التي تساعد على خصب الأرض.
هذا كلّه كان من الله. وكيف قابل اﻹنسان الذي حكى عنه اﻹنجيل عطايا الرب. قابله بطبع رديء وبحقد على الآخرين، وبأنانية تحب اﻹستئثار وترفض المشاركة. نسيَ هذا اﻹنسان الصلة الطبيعية التي تربط اﻹنسان بأخيه اﻹنسان، ونسيَ الواجب المحتم عليه بأن يوزع على الفقراء ما يفضل عنه، كما قال الكتاب: لا تمنع اﻹحسان عن أهله إذا كان في يدك طاقة أن تصنعه." (أمثال 3/27) "لا تفارقك الرحمة والحق بل أشددهما في عنقك واكتبهما على لوح قلبك." (أمثال 3/3) "أكسر للجائع خبزك…". (اشعيا 58/7).
…إمتلأت أهراء هذا الانسان حتى ضاقت بالقمح، لكن قلبه ظلّ فارغاً من المحبة. عدا ذلك أوقعته وفرة الخيرات بالحيرة فصرخ ماذا أصنع…
…أيها الغني اسمع أقوال السيّد الذي رزقك كلّ هذه الخيرات. تأمل في نفسك، واذكر من أنت، وافحص جيداً مستفسراً عن الذي أعطاك كل هذه العطايا. إسأل نفسك. أُعطيت أنت الشيء الكثير، بينما آخرون قد حُرموا منها…
عندما تقرر أن تعمل شيئاً ما بهذه الخيرات التي بين يديك أُذكر أنها كلها ليست لك.
نعم إنها توفر لك السعادة برهة من الزمن، لكن سرعان ما تتبخّر، ورغم ذلك انك ستؤدي حساباً عنها. انك تكدّس المال وتخزنه في مكان أمين بحراسة أبواب محكمة الأقفال. لكنك لا تغمض لك عين بسبب همومك، إذ أنت دائم التفكير بالخيرات. تقول ماذا أعمل. إنه لأسهل عليك أن تقول: "سأغمر البائسين بالخير، سأفتح أبواب أهرائي، سأدعو الفقراء والمساكين، سأتشبّه بيوسف فأكون مثله بطل الصلاح والرحمة وأقول: "تعالوا إليَّ أيها الجائعون الى الخبز، ستكون لكم حصة في كل ما أسبغه الرب عليَّ من خيرات، ستنالون، كمن ينبوع خير لا ينضب جميع ما تحتاجون إليه."
كان الغني يفكّر بالخيرات، كيف يكدّسها ويخزّنها في الاهراء بينما طالبو نفسه كانوا يترصّدونه، كان يفكر بالمأكل والمشرب وبالتنعّم بها بينما كانت ساعة رحيله عن هذه الأرض وتركه لكل الخيرات التي جمعها تدقّ منذرة بالموت العاجل. إنتبه لئلا يصيبك المصير نفسه. فهذا المثَل إنمّا أُعطى للموعظة وللعبرة. تأمل الأرض، فهي تحمل الثمر الكثير، إنما لا تستفيد هي منه، بل تبسطه لخدمة الناس أجمعين…
لماذا أيها الغني تغتمّ وتجتهد لتضع غِناك كلّه في حِرز أمين وراء جدران محصَّنة. "إنَّ الصيت الحَسَن هو أفضل من الغنى الكثير". (أمثال 22/1) من الأكيد أنك تحب المال لأنه يجلب لك التقدير. ففكِّر بأن شهرتك ستكون على لسان كل فم إذا دُعيت أباً ومعيلاً للأولاد. إنَّ هذا الصيت يفوق كثيراً صيت جمعك لأطنان من الذهب في أكياسك. شئت أم أبيت، ستترك يوماً ما على الأرض كل أموالك، لكن صيتك وشهرتك كعامل خير سيرافقك بعد الموت حتى تقف أمام السيّد، إذ يقف معك أمامه شعب يزدحم للدفاع عنك لدى القاضي العام داعياً إياك بأسماء تخبر بأنك أطعمته، وساعدته وأشفقت عليه…
تأمل أيها الغني في المال وأنت ترى بعينك كيف يرميه الناس عند أقدام المصارعين والممثلّين لكسب الشهرة. أفتحرص أنت على المال بينما يمكنك الوصول الى مجد عظيم. إن الله سينظر إليك برضى، والملائكة سيبتهجون بقدومك، والبشر أجمعين سيحتفلون فرحين بك، فالمكافأة التي استحققتها لأجل المحبة التي بذلت هي مجد لا يزول، وإكليل عدل وملكوت السماء. هذه جائزة إدارتك الحسنة للخيرات الزائلة…
لذلك أنصحك أيها الغني أن توزّع أموالك وغناك كله. وعندك طُرق كثيرة ومختلفة للتوزيع. وضَعْ نصب عينيك الفقراء فهم أول المحتاجين. فيُقال عنك آنئذٍ: "بدَّدَ وأعطى المساكين فبرُّه يدوم الى الأبد.." (مز111/9) "لا تحسب حساباً لضيق عام سيطرأ على المواطنين لتبيع بثمن باهظ، لا تنتظر قحطاً لتخزن في أهرائك، لأن الذي يحتكر الحنطة يلعنه الشعب.." (أمثال 11/26)، ولا ترقب زمن المجاعة لتجمع
الفضة والذهب، ولا ترقب أيضاً الشدَّة التي تحلُّ بالكثيرين لتستغني، لا تتاجر بشدائد الناس ومضايقهم، ولا تتطلع الى زمن الغضب اﻹلهي فتطمع الى المزيد في الثروة والغنى. إني أطلب منك أن لا تزيد عمقاً وألماً الجروح التي سبّبتها للناس ضيقات كالتي ذكرت…
… تقول لنفسك أيها الغني: "إنّ لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة، فكُلي واشربي وتنعَّمي.." (لوقا 12/19) يا للجنون ويا للبلاهة. إذا كانت لك نفس خنزير فهل ستعدها بشيء أحسن مما وعدت به نفسك المخلوقة على صورة الله. لأن أفكارك هي من الأرض، ولأن إلهك هو بطنك، ولأنك عبد لشهواتك الجسدية. إسمع الصفة التي يضفيها عليك الرب لا اﻹنسان: "يا جاهل. في هذه الليلة تُطلب نفسك منك فهذا الذي أعددته لمن يكون.." (لوقا 12/20).
… إعلم هذا أن اﻹنسان اذا أخذ فقط ما يكفي حاجاته وترك الفائض وغير الضروري له للفقراء لانمحى من الوجود الغني والفقير والبائس والمسكين. ويا ترى مَن هو البخيل؟ أليس هو الذي لا يكتفي بالضروري من الأشياء، ومَن هو السارق؟ أليس الذي يحرم الآخرين من الخيرات التي هي لهم؟ وأنت ألست بخيلاً وسارقاً عندما تختص لنفسك ما أؤتمنت أنت عليه كوكيل. انَّ أخذ ثياب الغير هو سرقة. هذا هو اللقب الذي يستحقّه الذي يقدر أن يكسو العراة ويمتنع عن ذلك. إن الخبز الذي تحتفظ به هو يخصّ الفقراء، والرداء التي أودعتها هو لكسوة العاريين، والأحذية التي تهترئ وتُتلف بسبب العفونة هي للحفاة، والمال الذي تخبِّئه هو للمحتاج. لا تسيء الى الأشخاص الذين كان بامكانك مساعدتهم…
ستفرح في يوم الدينونة عندما تسمع كلمات المسيح الديّان العادل: "تعالوا يا مباركي أبي رِثوا المُلك المُعدّ لكم منذ انشاء العالم لأني جِعتُ فأطعمتموني وعطِشتُ فسقيتموني وكنتُ غريباً فآويتموني وعرياناً فكسوتموني ومريضاً فعُدتموني ومحبوساً فأتيتم إليَّ.." (متى 25/34