ثم أخذ متري المرّ يتطور، وحين أحس بضرورة إصلاح الكتب الطقسية أخذ يصرخ مطالبا بضرورة تعين لجنة لوضع ترجمة صالحة سليمة اللغة وصالحة موسيقيا . ولما لم يتحقق من هذا الشيء قام في الخمسينات وبدأ يعمل وحده بجد ونشاط على تحسين لغة الترتيل ويضع ألحانها ويدونها على قدر ما وهبه الله من نعم ومواهب. التزم متري المرّ التقيد بالتقليد الموسيقى الحي في الكنسية بطريق كبار الموسيقيين الذين أخذ عنهم ودرس مؤلفاتهم الفنية ولم يخرج عن المألوف البيزنطي في مقاطع الجمل ونهايتها ولم يتلاعب في النغمات الأساسية لكل لحن من الألحان الثمانية، وكان حريصا على الأداء الكيفي للنغمات. وزاد على ذلك ما رآه هو نموا طبيعيا لهذا التقليد الموسيقى البيزنطية ومقبولا في بيئتنا الشرقية الانطاكية واستساغ الشعب الأرثوذكسي بسهولة تجديده لبعض التراتيل القديمة وقد مهد لذلك انتشار تلامذته من الاكليريكيين وسواهم في مختلف الكرسي الانطاكي المقدس . متري المر هو بمثابة بطرس البياوبونيسي بالنسبة إلى الترتيل الكنسي البيزنطي ، وسيظل أعجوبة فريدة في تاريخنا الترتيلي ومجرى موسيقيا عذبا يستقي منه المرتلون وينهجون نهجه ويمشون على خطاه لذا فان قيمة متري المرّ الفنية تقوم على كونه باعث التراث الانطاكي ومكمله . وبعكس ذلك لا يمكن تقييمه كفنان موسيقي، والذين يمارسون ترتيل الحان كبار ملحني القرون الماضية، من المرتلين الأولين للكنسية العظمى في القسطنطينية، أمثال الكريتي ( 1816 ) وبطرس البيلوبينيسي ( 1777 ) وبطرس الافسسي ( 1840 ) والمطران خريسانتوس مطران بروسه (1843 ) وغيرهم، ويقارنوا الحان متري المر بألحانهم إذ يجدون انه تأثر بهم ومشى على نهجهم مضيفا إليها إبداع شخصية، يسندها صوته في بيئة دينية هكذا كان متري المر ذا شخصية فنية بارزة وفذة حيث شخصيته سمت على بقية المرتلين على انه خلاّق قد أعطى فنا موسيقيا انطاكيا خالصا، داخل الأنغام والجمل الموسيقية التي ترتاح إليها أذن الشرقي في زمنه، بدون أن يخرج عن جو الموسيقى البيزنطية التقليدي، الذي تمتد أصوله إلى العهود الزاهرة للكرسي الانطاكي. أن التراث الذي تركه متري المرّ يتألف من تراتيل بيزنطية ذات طابع انطاكي وأناشيد وطنيّة وقصائد ملحّنة إلا أن ألحانه حفظت عن طريق تسجيلها على اسطوانات وهي بصوت متري المرّ وأيضا حفظت تراتيله الكنسيّة أغلبيتها بواسطة جوقات التي كانت ترتل في قداديس وفي مناسبات وأعياد المختلفة وأيضا حفظت عن طريق تنويطها أي تدوين الموسيقي([1]) . أن دراسته الموسيقية مكنته من الوقوف على أسرار العلامات في الموسيقى الغربية، إذ نراه يقرأ الموسيقى ويكتبها بالطريقتين البيزنطية والغربية . كان متري المرّ يجيد نظم الشعر ويقال ا نه كتب حوالي 130 قصيدة تعد من عيون الشعر العربي، ولا يعرف اليوم من شعره إلا الكلمات التي وضعها لبعض أناشيده وأغنياته 0 ومن أناشيده: " نادت الأوطان هيا " هو من بين الألحان التي وضعها في عهد فيصل وقد اعتبر آنذاك نشيد سورية الرسمي وذلك بناء على قرار اتخذه المؤتمر الوطني، وعند توقيع المعاهدة السورية – الفرنسية سنة 1936 أصبح من جديد نشيد سورية الرسمي وبقي على هذه الحال حتى نفضت فرنسا المعاهدة في آذار 1939. في سنة 1943، عندما أقيم الحكم الوطني، استبدل النشيد المذكور بنشيد " حماة الديار " نظم خليل مردم بك وتلحين فليفل إخوان. إلى عهد فيصل يعود نشيد " يا بلادي يا بلادي " وهو من نظمه وسجل بصوته وقد اعتبر في تلك المرحلة نشيد الجيش السوري ويقال ان جيوش يوسف العظمة كانت تردده في ميسلون سنة 1920. أما نشيد " نادى بنو فينيقيا " الذي هو من نظمه ومسجل بصوته، فقد أعدّه ليكون النشيد اللبناني الرسمي . من نظمه نشيد " لبنان السامي " .. أيضا هناك نشيد " أنت سورية بلادي" من ألحانه ونظم فخري البارودي ونشيد الشهداء الوطن " نظم خير الدين الزركلي الذي مطلعه " أبت العين أن تذوق المناما " ، ونشيد : نحن خواص عوامر الموت " نظم معروف الرصافي ، ونشيد " حنت مها غسان " نظم وديع عقلا ، بالإضافة إلى نشيد الملك فيصل([2]) ومطلعه " سورية يا مهد السلام " ونشيد " يا فلسطين ابنة الأسود امنعي الأعداء أن تسود . أما القصائد التي لحّنها قصيدة " تعالي اليّ فؤادي يناديك " نظم خليل تقي الدين وهي من أقوى ألحانه والمعروف أن الموسيقار محمد عبد الوهاب ، عندما سمعها ، أعجب كثيرا بها وقصيدة " ظبية الأنس اليّ " نظم المطران ابيفانيوس زائد وكلتاهما عرفتا انتشارا كبيرا . ثم هناك قصيدة " صداح يا مؤنسي " وقصيدة " كيف أنسى " وهما من نظم الاخطل الصغير وقصيدة " تناثري " نظم ميخائيل نعيمة وقصيدة " حرمتني المنام " نظم شبلي ملاط " وشهدت سقمي الليالي " وكم هاجني من الشآم " و " البدر في أفق الليالي ، وقصيدة " اذكري أيام كنا في سمر " وقصيدة " أهيف صاد قلبي " وقصيدة " هل تخبريني يا منى " . لحّن متري المرّ بعض الموشحات منها : " ليه قلبك قاسي يا غصن البان " و" القمر في الجنينا شعشع نوره علينا " و " ربيع القلب " وله أيضا مجموعة من الأناشيد والأغاني المدرسيّة وعدة ألحان وضعها لروايات تمثيليّة غنائيّة 0 كما أن متري المرّ لحّن نشيد للحركة الشبيبة الأرثوذكسية في عام 1943 ، مطلعه " يا غيدو يا فتيان " من نظم جرجي عطية . من بعض أناشيده الوطنية : نشيد : " يا فلسطين ابنة الاسود امنعي الاعداء ان تسود "، نشيد : " انت سوريا بلادي " نظم فخري البارودي، نشيد :" حنت مها غسان " نظم وديع عقل ، نشيد : " لبنان السامي " ، نشيد : " سورية يا مهد السلام " ، نشيد : " نحن خواض عوامر الموت " نظم معروف الرصافي، نشيد شهداء الوطن ومطلعه : " ابت العين ان تذوق المنايا " نظم خير الدين الزركلي. بعض الأغنيات الأدبية ( قصائد ) : أغنية : " ظبية الانس اليّ " نظم المطران ابيفانيوس زائد، اغنية :" تناثري " نظم الاديب الكبير ميخائيل نعيمة ، اغنية : " صداح يا مؤنسي " نظم الاخطل الصغير. اغنية : " حرمتني المنام يا ناعس الجفون " نظم شبلي ملاط ،اغنية : " هل تخبريني يا منى " ويقال انها آخر ما لحّن . أن اكثر الأهمية في مؤلفات متري المرّ هو التراتيل الكنسيّة البيزنطية باللغة العربية المبنية على ثمانية الحان والذي له طابع خاص تميز به متري المرّ . إذ دوّن متري المر تراتيله الدينية في كتابه " القيثارة الروحية " الذي صدر في 3 – 4 – 1955 ، الذي يعتبر من أهم ما دونته براعته في تثبيت صلوات الكنيسة الأرثوذكسية على أساس ربط ألحانها البيزنطية الرائعة بروح الموسيقى العربية وتراتيلها التي كان يحياها بحسه ومشاعره . أيضا صدر له كتاب : " تراتيل مديح السيدة " ( 1957 ) ، كتاب : " الكنوز الروحية " ( 1964 ) بالإضافة إلى كتابه : " زاد المسافر " حيث ضبطت الطقوس والصلوات بلغة عربية سليمة ، أيضا صدر له كتاب : " الأسبوع العظيم" . وقد تابع ابنه البكر فؤاد بعد وفاة والده نشر ألحانه ، فاصدر كتاب : " القياميات " ( 1970 ) وكتاب : " المزمار الروحي " في ثلاث مجلدات ( 1972 ) وكتاب : " الكنوز الموسيقية البيزنطية " ( 1981 ) . أن تدوين الموسيقي الصحيح لمتري المرّ وكتابته للنوطة الموسيقية بحسب الأصول والقواعد النظرية للكتابة الموسيقية فلا يقدر على موازنتها كبار مرتلي العالم الأرثوذكسي . انه المرتل الوحيد الذي دخلت أعماله الكتب الموسيقية اليونانية بالرغم من كونه غير يوناني ، حيث أن بعض ألحانه دخل إلى جبل المقدس ( آثوس ) . أن فرادات متري المرّ ، ليس فقط على صعيد انطاكيا وانما على صعيد العالم الأرثوذكسي ، انه كان موسيقيّا شرقيا استطاع أن يخضع المقامات العربية لخدمة الموسيقى الكنسيّة استفاد منها لكنه لم يتأثر بها بمعنى أنها لوّنته أو خضع لها . معرفته لأسرار المقامات الشرقية ساعدته على صحة تنويطه البيزنطي وقوته وأغنت خطوطه الموسيقيّة . أيضا تميز متري المرّ في انه لم ينسخ عن اليونانية ، تمايزه يظهر بشكل خاص في شاروبيكونات الألحان الثمانية ، في مقدمتها ومطولاتها بشكل خاص ، أيضا في ذكسولوجياته المطولة ( حجاز كار ) ، ويقابلها أيضا باليونانية ذكسولوجية حجاز كار ، لكن الواحدة لا تمت إلى الأخرى . وهذا دليل على أن متري المرّ ألّف ولم ينسخ ، خلق ولم ينقل، أيضا تميز متري المرّ ظهر في الكلام الجوهري . متري المر له مميزات يعتز بها كل أبناء الكرسي الانطاكي المقدس في الوطن والمهجر، لقد أعطاهم كل الثقة بكنيستهم وبروحانيتها وأعاد الثقة إلى نفوس المؤمنين وبث روح التجدد في الكنيسة وجعل لهم مدرسة للموسيقى البيزنطية باللغة الضاد وأسس قاعدة للتعليم الموسيقى ثابتة تدفع بهم قدما إلى الأمام . لقد تفرد متري المر بألحانه وأناشيده الوطنية والأغاني العربية العريقة، إذ عمل متري المر كما يقول الأستاذ الدكتور " وليد غلمية ": " .. أحيا وأعاد الرونق للنغم البيزنطي باللغة العربية بعد أن كاد ان ينحصر في بعض الأديرة والأشخاص والمناسبات ….، بعد ان طغى طغيان مدرسة التلحين المصري ( أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، سيد درويش …) ..، أن أساس الموسيقى العربية هو أساس الترتيل البيزنطي … " متري المر كان ناسك متواضع يعيش ببساطة الرسل في حاجاته البشرية وعميق إيمانهم بمضمون الرسالة، وفيه من قوة الإيمان والثقة بالنفس ومعرفة العميقة بعالم الألحان وفي روحانية الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية الصافية مما جعله إنسان روحيا من الطراز الأول حيث كان يحيا الصلاة بشكل دائم ( صلوا بلا انقطاع )، هذا ما طبقه متري المر في حياته . لعل كل مرتل وقارئ للموسيقى البيزنطية وسامع لها، يندهش من هذا العالم الكبير من هذا العلم الموسيقي الروحي الراقي ( الفن الإلهي ) بفنه الموسيقي وروحه العربية، إذ كانت موهبته أصلية وأصيلة في الضاد وتحليقه في علياء سماءها بشعره وفنه وألحانه ووجدانه الصحيح . إن الذي يستمع إلى ألحانه يستمع إلى لغة سماوية وكأن التدبير الإلهي أرسله في مرحلة كانت كنيستنا الانطاكية العربية في مرحلة الغموض والغربة ، ليأكد على أصالة اللغة العربية والنغم البيزنطي الانطاكي ، ولتثبيت الدين ودعائم المؤمنين وهداية الهوية التي كانت بواسطة متري المر أثبتت أن الأرثوذكسيين الانطاكيين هم عرب اصيلون متجذرون في هذه المنطقة ، وهم شعاع ومنارة هذه البلاد . وهم ذوو حضارة عريقة في الفن وفي صناعة التاريخ وفي كل شيء. إنني لا أريد ان استرسل في الكلام عن هذا العالم الموسيقي أكثر مما ذكرته في هذه العجالة المتواضعة، لان دراسة آثار الموسيقار والمرتل الأول في الكرسي الانطاكي " متري المر "، التي لا حصر ولا عد لها – انما يحتاج إلى بحث آخر كبير، اكبر من هذا يقوم بها كل من يريد ويستطيع أن يحفظ تراث الموسيقي الانطاكي البيزنطي العربي في الكرسي الانطاكي من الضياع والنسيان . رجائي وتطلعاتي من سلطات العليا الدينية في كنيستي الانطاكية الأرثوذكسية العربية أن تعلن عن بدء بحث وتنقيب وتفنيد حياة مرتلها الأول " متري المر " . إذ استشف من هذا البحث الصغير والوضيع الذي قمت به عن حياة ذلك الرجل النابغة والفريد في تاريخ إنطاكية روح القداسة والجهاد الروحي والتعب والصبر والصدق والإيمان والتواضع، هذه صفات القديس، لم لا يأتي يوما يعلن فيه مجمعنا المقدس الانطاكي قداسة متري المر ؟ . [1] هناك بعض أغنياته غير المسجلة وغير المنوطة وصلت إلينا عن طريق مقربين إليه تعلموهامنه.
تحية الى متري المر
( بمناسبة مرور 128عاما على ولادة المرتل الأول الأستاذ "متري الياس المر " وأيضا على مرور 39 عاما على وفاته . ) بدأت نهضة الموسيقى الكنسيّة في كنيستنا الانطاكية الأرثوذكسية العربية على يد الفنان العبقري متري المرّ، فكان رائد الجيل الانطاكي في مستهل القرن العشرين وما زال حتى يومنا هذا في موسي
قى الكنسيّة ويبقى إلى ذلك إلى زمن طويل ، إذ مازال أحد الأقطاب البارزين في هذه النهضة . إذ ساير في شبابه مرتلي عصره، كما يبدو لنا من مخطوطات ألحانه التي كتبها أثناء تدريسه تلاميذ اكليركية في البلمند أوائل هذا القرن العشرين مع شيء من التعديل والتجديد ليناسب اللغة العربية بقدر الإمكان وفي العشرينات كتب ألحانا راعى فيها اللحن اليوناني إنما زاد من تعديله وتنقيحه لأداء اللفظ العربي بطريقة أوضح وأفضل .