خطاب الأربعين شهيداً
لأبينا النبيل في القديسين باسيليوس الكبير
رئيس أساقفة قيصرية الكبادوك
مدح به موكب المسيح الحسن الظفر الأربعين شهيداً يُقرأُ في نهار تذكارهم الموافق لليوم التاسع من شهر آذار
ألا أنه لا شبع لمحبّ الشهداءِ من ذكرهم. لا سيما إذا كان إكرام الأخيار ممن يشاركهم في العبودية دليلاً على اعتقاد الولاءِ للسيد الذي هم شركاءُ في طاعته. ولامرٌ معلوم أن من يقتبل الإجلال من الرجال بحبّ وحسن قبول لا يتأخر في الأوقات الموافقة لأوقات جهادهم عن التشبه بهم. فبالغ يا صاحِ في إعطاءِ الطوبى لمن قد استشهد حتى تصير بالنية شهيداً وتفوز بذلك من غير نارٍ ولا سياط. وتؤهَّل لما قد نالهُ الشهداءُ. ونحن الآن ما حضرنا لنتعجب من واحدٍ ولا من اثنين وليس عدد الذين نغبطهم يقف عند العشرة بل هم أربعون رجلاً نفس واحدة في جسوم متعددة. نفسٌ واحدة في اتفاق الرأي. نفسٌ واحدة في الإيمان كان صبرهم على المصائب والشدائد واحداً وكانت مقاوتهم عن الحق أيضاً واحدة. وكان جميعهم يقرب بعضهم من بعضٍ في اختيارٍ واحدٍ. وهمتهم واحدة. وجهادهم واحداً. فوصلوا من ثمَّ الى أكلَّة من المجد متساوية في الكرامة فأي كلامٍ يصل الى وصفهم بما يستحقونهُ. ولو كان لمادحهم أربعون لساناً لما كفتهُ لمديح فضيلة هؤلاءِ الرجال وتعظيمها. على أننا نحن لو كان الذي يعجب بهِ واحداً لكفى في مصارعة قوة كلامنا فضلاً عن أن تكون الجملة على هذه الصورة من الكثرة ويكونون مصفّاً من الصناديد كاملاً وجمعاً من المجاهدين لا يرام ولا يرتدُّ. فحالهم في بعد الوصول الى مقدارهم من الأوصاف شبيهٌ ببعدهم من الاستيلاءِ عليهم في الحروب سالفاً. فهلموا لنورد من التذكر بهم منفعة عامَّة كافية لجميع من حضر من حيث أننا نبين فضل هؤلاءِ الرجال ومبالغتهم في الجهاد ونجعلهم كصورة صحيفة. لأن الشجاعة في الحروب قد اعتنى بها وبذويها من يؤَلّف الكتب ويصوّر الصوَر. فالأول من الفريقين يبالغون في ترتيبهم بالوصف والكلام. والثاني يستفرغون جهدهم وقوَّة صناعتهم في تحسين صورة أفعالهم على الدفوف. وقد دفع كلُّ فريقٍ من هذين جماعة الى الشجاعة في الدخول الى الجهاد. لأن المصور إذا أخذ جملة الخبر في مسامعهِ أخرج تصوير شبههِ بالحكاية وهو صامت. فعلى هذه الصفة يجب علينا أن نذكر من حضر بفضل هؤلاءِ الرجال ونجعل أفعالهم كأنها نصب أعيننا فنحرك الأجلاد الذين يحضُّهم ثباتهم على التشبُّه بهم وذلك هو أجلُّ الأوصاف والمدائح أعني تحريك المجتمعين واستدعاءَهم الى الفضيلة. ومع ذلك فلا يقتضي وصف القديسين أن نستخدم أساليب المادحين لأن هؤلاءِ إنما يأخذون الوسيلة ومبدأ الوصف من أحوال العالم وأما الذين قد انصلب عنهم العالم فكيف يمكن أن شيئاً من أشيائهِ يزيدهم فضلاً. ومع ذلك فلم يكن لهؤلاءِ القديسين وطنٌ واحد بل كلٌّ منهم كان من موضع غير موضع الآخر فماذا ينبغي أن نقول أنهُ لم تكن لهم مدينة أم نقول أنهم كانت المسكونة كلها كمدينة لهم. وما أشبه حالهم في هذا الباب بالذين يتشاركون ويجمعون فيما بينهم شيئاً فتكون الجماعة مشتركة فيهِ. فهذه صفة حال هؤلاءِ المغبوطين فإن وطن كل واحدٍ منهم كان وطناً للجماعة. كلهم من مواضع مختلفة يخص كل واحدٍ منهم صاحبهُ بوطنهِ. بل ما لي أطنبت في بابهم وأنا أذكر أوطاناً أرضية فلاتينَّ وأبيّن مدينتهم أيّة هي. إن مدينة الشهداء بالحقسقة هي مدينة الله التي هو خالفها وصانعها أورشليم الحرَّة والدة بولس ومن يقارنهُ. وأما الجنس فكلٌّ منهم كان لهُ جنس يخالف جنس صاحبهِ. وأما الجنس الروحاني فهو لجماعتهم واجدٌ ووالدهم فيهِ الذي يشتركون في أُبوَّتهِ هو الله. وهم كلهم غير مولودين من والد واحد وأمٍّ واحدة بالجسد بل من بنوَّة الروح باتفاق المودَّة ينتظم أحدهم مع الآخر فيصيرون صفّاً واحداً معدّاً ممن يسبّح للرب منذ الدهر زائداً زيادة عظيمة جدّاً. وانقضاءُ حياتهم لم يكن واحداً بعد واحدٍ بل كان انتقالهم كلهم معاً. وأما حال انتقالهم فهي أن هؤلاءِ لموضع أجسامهم وحداثة سنّهم وعنفوان شبابهم كانوا يزيدون على غيرهم ممن كان في زمانهم فرتبوا بحسب ذلك في مراتب الجندية. ولموضع نظرهم في الحروب وشجاعة نفوسهم كانت لهم من الملك الكرامات الأولى وكانوا لأجل فضيلتهم معروفين عند كل أحدٍ. إلا أنه لما خرج النداءُ الكافر البعيد من الله ونودي بهِ في كل مكان: أَلاّ يعترف أحد بالمسيح إلاّ ويذوق الوصب وينتظر العطب ووقوع التهويل في ذلك بأنواع العقوبات وأصناف التعذيبات. وكان غضب قضاة الباطل على من حسُنت عبادتهُ غضباً وحشيّاً. وكانت الاغتيالات والدغل قد أُهتمَّ بتحصيلها وتنضيدها وكانت أنواع العقوبات قد استعدت وجرى أحكامها والذين يعاقبون بها لا يندفعون والنار مستعدة والسيف مصقول والصليب منصوب والبئر محفور والبكَر جارية والسياط مضفورة. حينئذٍ كان قوم يهربون وقوم مضطربين وقوم قبل ممارسة هذه الأشياءِ منزعجين من الوعيد وحدهُ. وآخرون لما قربوا منها اعتراهم الدَوار. وقوم بعد دخولهم في الجهاد لم يطيقوا الصبر الى منتهى الجهاد ففي منتصف جهادهم انحلُّوا كالذين تلحقهم الشدَّة في نفس اللجة. عطبوا وعطب ما كان معهم من أحمال الصبر وتجارتهِ. في ذلك الحين حضر هؤلاءِ الأجلاد جند المسيح الذين لا ينحلون ولا يخورون فرموا بأنفسهم في وسط الجمهور. فأبرز الرئيس منشوراً من الملك وطالب بطاعتهِ فيما رسمهُ فأطلق الشهداءُ من أفواههم نغمة واحدة مطلقة. وبيَّنوا من قلوبهم جراءَةً وشجاعة صادقة ولم يرُعهم ما أبصروهُ ولا ذهلوا من الوعيد الذي سمعوهُ بل لما صاروا في الوسط قالوا: يا قومُ نحن مسيحيون. فيا لها من السنٍ مغبوطة وافواه سعيدة ابدت هذه النغمة وصرخت هذا الصوت الذي لما قبلهُ الهواءُ تقدَّس وسمعتهُ الملائكة ففرحت وأحسَّ بهِ إبليس المحال وشياطينهُ فتجرحوا. وعرفهُ الربُّ في سمائهِ فكتبهُ وأثبتهُ. قال كل واحدٍ وهو منفرد في الوسط: إني مسيحيٌّ. فأشبه هؤلاءِ المذكورون الذين يدخلون في مقامات الجهاد فيذكرون في أول أمرهم أسماءَهم ثم يتقدمون فيما بعد الى جهادهم وصراعهم. لأن هؤلاء في ذلك الوقت أطرحوا اسماءّهم التي سموا بها من بلادهم ودعا كلٌّ منهم ذاتهُ باسم المخلص الذي يشاركهُ فيهِ غيرهُ فكان الواحد منهم يفعل ذلك والآخر يتلوهُ فصار الاسم لجماعتهم واحداً ليس فلان وفلان بل نادوا عن أنفسهم أنهم "مسيحيُّون".
فماذا صنع حينئذٍ المتقلد في ذلك الوقت أمرهم وقد كان شديد الحيلة داهية في الحكمة ليدخل بنوع من المداراة وبنوع آخر من التهويل ألا أنه ابتدأَ في الأول بمحاولة إرخاءِ قوة حسن عبادتهم فقال: "يا قوم لا تهلكوا شبابكم. لا تبيعوا أنفسكم. لا تعتاضوا من هذه الحياة اللذيذة بموتٍ مرٍّ في غير وقتهِ. وأنهُ لأمرٌ شنع بمن كانت آثارهُ في الحروب معروفة مفضَّلة أن يموت موت الأشرار". ومع هذا وعد بأموال وأحضر بعضها وضمن عن الملك مراتب وكراماتٍ. واستعمل من هذا النوع حَيلاً كثيرةً في التدبير عليهم.
فلما لم ينسجوا الى هذا النوع من سياستهِ. انتقل الى النوع الآخر من حيلتهِ. فذكر الضرب والموت وأنواع العقوبات. هذا ما ذكرهُ هذا من وعيدهِ.
وأما جواب الشهداءِ فكان: لِمَ تروم أن تخدعنا يا محارب الله وتطلب أن تبعدنا من اله الحيّ وتجعلنا في خدمة شياطين مهلكين. وتقدم في قولك ما ذكرتهُ من الخيرات. واي شيءٍ تعطينا يكون عديلاً على السواءِ لما تريد أن تأخذهُ منا. فإني أنا واحد من هؤلاءِ. أبغض هبةً تفيدني خسارةً. ولست أقبل كرامةً هي للهوان والدة. ألعلَّك تعطي مالاً؟ إلا أنهُ لا يكون باقياً. وتبذل شرفاً زاهراً؟ إلا أنهُ يكون الى الزوال عن قريب صائراً. وتجعلني عند الملك معروفاً؟ إلا أنك تصيرني من الملك الصادق بعيداً. فما بالك تفعل فعل شحيح في بذل القليل من أحوال العالم؟ إنك لو بذلت العالم كلهُ لكان عندنا حقيراً. وكل ما يبصر فيهِ ليس ما نشتهيهِ ونرجوهُ كفوءاً وعدلاً. إلا أنهُ ليس شيءٌ من هذه الأشياءَ كلها يساوي غبطة الصديقين إذ كانت هذه الأشياءُ كلها زائلة. والتي ننتظرها نحن باقية. وشوقي أنا إنما هو الى نوال إكليل واحد وهو إكليل العدل. ولقد وُلهتُ بحبّ مجدٍ واحدٍ وهو الذي أجدهُ في ملك السماوات. وإني لشديد التباهي لكن بما في العلو من الكرامات. وإني أحذر عقوبة واحدة وهي عقوبة جهنم تلك التي نارها محرقة وأما النار التي تهولون أنتم بها فهي شريكة لي في العبودية وربما خَجِلَت إذا رأَتْ من استهان بالأصنام. وضرباتكم إنما هي عندي مثل سهم يرشقهُ أحد الصبيان. وأنت إنما تضرب جسماً إذا أمكنهُ الزيادة في الصبر زاد إكليلهُ في البهاءِ. وإذا سبق فتولَّى وسارع الى الانحلال فأنما ينصرف خائباً وقد كفى أذى قضاةٍ حصاب مثلكم قد دُفع إليهم السلطان على الأجسام وهم يرومون السيادة على النفوس. ومتى لم تقدروا على إبعادنا من إلهنا صار عندكم ذلك أصعب الاشياء. والغاية في المساءّة أنكم قدَّمتم لنا هذه العقوبات المفزعة وليس لكم حجة علينا سوى حسن عبادتنا غير أنكم ستجدون منَّا رجالاً لا يعتريهم جُبنٌ ولا حبُّ الحياة ولا تذهلهم كثرة الأموال. بل يستصغرونها في جانب حبّ الله فها نحن قوم قد استعدَّينا للدوران على البكَر. وللكيّ وللعصر. والشدّ الى الأوتاد. والحريق بالنار والصبر على كل صنفٍ من أصناف العذاب.
فلما سمع البربري المتجبّر هذا الكلام لم يصبر على دالَّة هؤلاءِ الرجال بل احتدم غيظاً وفكر في حيلةٍ طويلة يجدها يريد بها أن يبلغ مرادهُ منهم في مرارة موتهم فوجد لَعمري حيلةً وانظروا كيف هي صعبة.
إنهُ نظر الى طبيعة الليل أنها باردة والى ذلك الأوان من السنة أنهُ شتاءٌ ورصد لياً يطلب بهِ أن يشتدَّ عليهم فيهِ الضرُّ وكانت قد هبَّت رياح شمالية فأمر يتعذيبهم معرضين للهواءِ في وسط البحيرة التي في المدينة حتى يكون موتهم من الصقيع والتجمد. والذين ذاقوا لوعة البرد وشدة قارسهِ، يعلمون شدة هذا الصنف من العقوبة. ومن الممتنع أن يشعر بهِ إلاّ من سبق فذاق ألمهُ. فإنهُ يعرف صحة ما يقال – وذلك أن الجسم إذا تعرض للبرد صار لونهُ في أول الأمر مكمدّاً لموضع تجمد الدم. ثم تلحقهُ الرعدة ويختبط منهُ الإنسان وتتقلص منهُ الأعصاب ويتجمِع سطحهُ كلهُ بغير اختيارهِ فيعرض من هذا وجع شديد وألمٌ لا يستطاع وصفهُ. ثم يصل الى المخاخ فيحسُّ من بُلي بهِ بضيق التنفّس الى أن تتقطع أطرافهُ كما تتقطع من حريق النار. ولعمري أن الحرارة الغريزية إذا انطردت من أقطار الجسم وهربت الى جوفهِ ودواخلهِ لا تزال تكدُّه الى الموت وتسعى في جسمهِ قليلاً قليلاً بالتجميد – ففي ذلك حُكم على هؤلاءِ القديسين أن يبيتوا تحت السماءِ وكانت هناك بحيرة والمدينة حولها ففيها كان جهادهم وكانت قد صارت كبقعة تجري عليها الخيل لأن الصقيع جلَّد الماء على وجهها وصارت كأرضٍ توطيءُ ظهرها لمن يريد أن يمشي عليها وكانت الأنهار الجارية وطبيعة المياه السائلة قد تحولت الى صلابة الصخور وكانت الريح الهابة من الشمال قارسة تورد بكل حيوان ترد عليهِ مورد الموت والهلاك.
فلما سمع الشهداءُ في ذلك الوقت هذا الأمر (أنظر ههنا شدَّة بأس هؤلاءِ الرجال التي لا تغلب) طرح كل واحد منهم ثوبهُ الأخير (قميصهُ) بفرح وسرور وتسابقوا الى الموت بالبرد كأنهم قد أُمروا بغنيمة يقتسمونها. وقالوا: هل تظنون أننا ننزع عنّا ثياباً لا بل نطرح الإنسان العتيق الفاسد بشهوات الخديعة – نشكر لك يا رب عندما نطرح مع هذا الثوب الخطيئة أيضاً إذ كنا لبسناهُ من أجل الحيَّة قديماً. فعلينا أن ننزعهُ من أجل المسيح. ولا ينبغي لنا منذ الآن أن نتمسك بثياب وأطمار بل نستهين بها من أجل الفردوس الذي نريد أن نرثهُ. وبماذا نقابل ربّنا وقد كان تعرّى لأجلنا؟ وأي قَدْر كبير يكون لعبدٍ في صبرٍ صبرَ على مثلهِ مولاهُ؟ وأكثر من ذلك لعمري. إننا نحن الذين عرَّوهُ. لأن تلك الجسارة كانت من جندٍ مثلنا وهم الذين عرَّوهُ واقتسموا ثيابهُ بينهم وجعلوا علينا علامةً مكتوبة فينبغي أن نمحوها بأنفسنا: الشتاءُ قاسٍ. إلاّ أن الفردوس حلوٌ ولذيذٌ. التجمُّد أليمٌ. إلا أن الراحة في الجنان نعيم. تصبروا قليلاً. فسنحصِّل الدفاءَ في حضن ابراهيم. وينبغي لنا أن نشتري بليلةٍ واحدةٍ الدهر كلهُ وهو الذي يدوم. فلنستهن بلذع الأرجل. لنتخطر مع الملائكة بغير فتور. وتنفصل الأيدي حتى يصير لها دالَّة أن ترفع فيما بعد الى السيد. فكم جنديّ من أصحابنا سقط من المصاف في حفظهم الأمانة لملك فاسد. أَفَتَرَون لنا نحن ألاّ نسلم حياتنا عن الإيمان بالملك الحق. وكم من عمال شرورٍ صبروا على الموت وقد نالوهُ على باطلٍ وفسادٍ قد ارتكبوهُ. أفلا نصبر على موتٍ من أجل الحقّ. فإياكم أن ينثني عزمنا يا شركائي في الجندية أو نولِّي الادبار من وجه إبليس. لحماتنا لا ينبغي أن نشفق عليها. وإذ كان لا بدّ من الموت فما أولانا أن نموت موتاً يورثنا الحياة فلتكن ذبيحتنا اليوم مقبولة قدامك يا رب. ولتحسَب لنا ضحية حية مرضية لك في هذا البرد وقرباناً جيداً يحرق كلهُ وحريقهُ جديدٌ أي ليس بنار بل إنما أُحرق كلهُ من البرد.
فلم يزالوا يتعزون بمثل هذه الأقوال ويحرض أحدهم الآخر الى أن صرفوا ليلهم كلهُ كخفراء يحرسون وهم متجلدون على جميع ما أدركهم. ومسرورون بما يؤَملونه. وضاحكون على عدوهم. وكأن دعاؤُهم جميعهم واحداً وهو قولهم: ربّنا إننا دخلنا الى هذه الفرضة أربعين فاجعل تيجاننا أربعين لا تنقص من العدد أحداً. لأن هذه الكمية من العدد بأربعين يوماً من الصوم بمثلها دخل الناموس الى العالم. وبمثلها طلب إيليا الربُّ فوصل إليهِ.
ولعمري أن هذه كانت صلاتهم إلا أن واحداً منهم خار عزمهُ من الشدّة فنكص ونقص وانكفأ وارتدَّ الى الوراءِ. فخلّف لأصحابهِ القدّيسين حزناً تعزُّ فيهِ التعزية. إلاّ أن الربّ لم يخالف دعواتهم ولا ترك عددهم ينقص عن التمام. وذلك أن الذي إيتمنهُ الأشرار على حراسة الشهداءِ الأبرار كان بالقرب على مشهدٍ واقفاً يصطلي وينظر الى ما هو يكون وهو مستعدٌّ لقبول الذين يلتجئون. وكان قد احتيل بحمامٍ بالقرب معدٍّ للملتجئين بمعونة سريعة عاجلة إلا أن هذا الذي احتال بهِ الأضداد في موضع مثل هذا بقرب مشهد جهاد الأخيار ليكون قرب العزاءِ منهُ طريقاً الى انحلال صلابة المجاهدين أن هذا بعينهِ صار سبباً لزيادة بهاءِ صبر المستشهدين لأنهُ ليس على الصبور بعسير أن يجد الضروري من المطلوب بل الثابت على الصعوبة وقد تيسرت لهُ الراحة ذاك هو الفاضل الموصوف.
إلا أنهُ عندما كان الشهداءُ يجاهدون وذلك احارس يتأمّل ما يكون رأى منظراً عجيباً رأى أكلَّة قد انحدرت من السماءِ كأنها توزَّع من قِبَل ملك على الجند مع المواهب جليلة فوزعت على الشهداءِ الثابتين كلهم وترِك واحدٌ وحدهُ لم يعطَ شيئاً من الكرامات إذ لم يكن أهلاً لِمِنَح السماوات وهو الذي جَبن من الوجع فهرب الى الأضداد وصار منظراً مرحوماً عند الأبرار جنديّاً هارباً صنديداً أسيراً خروفاً من قطيع المسيح فريسة للوحوش الضارية. إن هذا تنزل عن ملكوت السموات ولم يتمتع بحياة الأرض لأن لحمهُ لما قابلتهُ السخونة انحلَّ في الحال وكان سقوطهُ بغير منفعة إلا أن الحارس لما رآهُ قد مال. والى الحمام قد سار طرح نفسهُ في موضعهِ وملاَ مكانهُ الذي كان نقص ورمى بما كان لابسهُ. وصار يصيح مع العراة بصوت القديسين نفسهِ قائلاً: "أنا مسيحي" فبسرعة انتقالهِ بغتةً أذهل جماعة الحضور. وتمّّ العدد. وأزال ما كان اعترى الشهداءَ القديسين من الغمّ والإنزعاج على المنحل بالزيادة التي منهُ بنفسهِ. ويشبَّه هذا بذوي الصفوف التي إذا أخلَّ واحدٌ منهم نصبوا للوقت بدلهُ. فإن هذا قد صنع كذلك إذ أبصر المناظر السماوية وعرف الحقَّ فلجأَ الى السيد وحصل في عدد الشهداءِ. وجدد حال التلاميذ انصرف يهوذا ودخل متياس وصار شبيهاً بولس الذي كان بالأمس مضطهداً فصار اليوم مبشراً وقد جاءَتهُ الدعوة من فوق لا من الناس وآمن باسم ربّنا يسوع المسيح وتعمد لهُ وليس من قبل غيرهِ بل من إيمان ذاتهِ وليس بالماءِ بل بدمهِ. ولما كان في صبيحة ذلك اليوم سُلّم الشهداءُ الى النار وفيهم شيءٌ من الروح والذي تبقى من بقايا أجسامهم طرح في النهر. فيما أنهم جاهدوا على الأرض وصبروا على الهواءِ وسلّموا الى النار وطُرحوا في الماءِ. صحَّ فيهم قول القائل "جزنا في النار والماءِ. وأخرجتنا الى الراحة" والأربعون هم مجتمعون كافةً وهم كلهم عند كل واحد منهم فهم كلهم الإحسان الذي لا يعتريهِ بخلٌ والنعمة التي لا تنقص والمعونة المعدَّة للمسيحيين التي لا تتأخر. جماعة من الشهداءِ. وجيش يحمل الظفر. وصفٌّ من المسيحيين.
كم كنت تتعب لتصل الى واحدٍ يشفع فيك عند الرب وهؤلاءِ هم أربعون رجلاً. والصلاة التي يوردونها عنك نطقهم بها واحد. وقد قال ربُّنا "أين ما كان اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون هناك بينهم" وحيث ما كان أربعون فمن يشك بحضور الله بينهم. فالمغموم الى أربعين يلتجئُ والمجبور إياهم يقصد. أحدهما ليجد ما يحلُّ عنهُ العقوبات. والآخر لينال ما يحفظ عليهِ الصالحات.
إلا أنهُ يوجد ههنا (أي في محفل الشهداءِ) امرأة مؤمنة بسبب ولدها داعية. عودة رجل لها غائبٍ متوسلة. وبعليل لها طالبة خلاصاُ وعافية. فلتكن مع الشهداءِ طلباتك. وذلك إن أمَّ واحدِ من أولئك المغبوطين رأت جماعتهم قد توفّوا وقضوا آجالهم من البرد ورأت في ولدها بعدُ روحاُ وهو يتنفس وقد تركهُ الأشرار بعد قوَّتهِ وصبرهِ على الجهاد بحسب قدرتهِ وفي ظنهم أنهُ ينثني عزمهُ. فهذه الإمرأة أخذت ابنها بيدها وتركتهُ على العجلة التي كان الباقون مرصوفين عليها مرسلين الى النار. فهذه على الحقيقة والدة وشهيدة إذ لم تسكب دمعة ركيكة ولا لفظت ذليلة غير جديرة بذلك الوقت. بل قالت امض يا بني بسلام. تمسَّك بالطريق الصالحة مع أقرانك مع مساكينك مع أندادك لا تتخلف عن مرافقتهم ولا تظهر لدى السيد بعدهم وتكون ثابتاً في الوقوف أمامهُ.
ولعمري أن الأصل صالح وفرعهُ صالح أيضاً ولقد بيَّنت هذه الأمُّ الشجاعة أنها كانت تغذي ولدها بالإيمان الصحيح أكثر من تغذيتها لهُ بللبن فالذي كانت قد ربتهُ هذه التربية مضى على هذه الصفة مرسلاً من جهة أمٍّ صالحة. وأما الشيطان فانصرف خازياً إذ كان قد حرَّك عليهم الخليقة كلها فخارت قوتهُ دونهم ونقصت عن فضيلة شجاعتهم. وقد كانت تلك الليلة ليلة عبوسة بصعوبة الرياح والبلد باردة والشتاءُ شديداً والفصل صعباُ وأجسام الشهداءِ عارية وقد لاقت كل صعب شديد.
فيا مصفّاً مقدساً ويا سلكاً طاهراً ويا سلسلة متصلة ويا حفَظَة لجنس البشر. أنتم المشتركون في المهمات الصالحة. أنتم المساعدون على الطلبات للحاضرين. أنتم الشفعاءُ الأقوياءُ أنتم كواكب العالم. أنتم زُهْر الكنائس. فالأرض لم تحجبكم بل السماءُ اقتبلتكم. وقد فُتحت لكم أبواب الفردوس وصرتم مشهداً للملائكة مستحقاً لرؤَساءُ الآباءِ والأنبياءِ والصديقين. وإذ كنتم رجالاً في عنفوان الشباب استهنتم بالدنيا وأحببتم الرب أكثر من الوالدين وكانت سنكم في الزمان السنَّ الذي يليق بها الحياة فاحتقرتم هذه الحاضرة لتمجّدوا الله في أعضائكم وصرتم شهيرين في العالم وعند الملائكة وعموم البشر فيقال فيكم بواجب: أنهم قد أنهضوا المنحطمين وثبتوا المرتابين وضاعفوا شوق المؤمنين وأقاموا ظفراً واحداً عن حسن العبادة فزُينوا بتاجٍ واحدٍ من البرّ بيسوع المسيح ربنا لهُ المجد إلى الأبد آمين والسبح لله دائماً سرمداً. رحم الله من كتب ومن قرأ ومن سمع ومن قال
آمين