الصوم والبشاشة :
كثيراً ما يرتبط الصوم بالأعياد في العهد القديم، إذ هو طريق التقاء الإنسان مع الله بكونه عيده الدائم ومصدر فرحه الداخلي – فالمؤمن الحقيقي في صومه لا يعرف العبوسة بل البشاشة كانعكاس لفرحه الداخلي.
دعونا نتصرّف كما تعلّمنا – فلا نظهر عابسي الوجه في أيام الصوم القادمة، لكن علينا أن نظهر بوجه بشوش كما يليق بالقديسين. فعديم الشفقة لا يُتوج، ولا عابس الوجه يحتفل بنصر. فلا يليق أن أفرح وأسعى نحو صحة النفس، بينما ينتابني حزن بسبب تغيير الأطعمة في فترة الصوم، لماذا أفرح وأهتم براحة الجسد، في الوقت الذي لا أبالي براحة النفس؟! فالحقيقة أن الرفاهية تعوق استمتاع البطن بالمأكولات، أما الصوم فيجلب فائدة إلى النفس. لهذا ينبغي عليك أن تفرح إذ أعطي لك دواءً فعالاً من الطبيب، دواءً يُمحى الخطية. لأنه كما تموت الديدان التي تحيا في أمعاء الأطفال بدواءٍ فعّال، هكذا الصوم عندما يدخل إلى عمق النفس فإنه يميت الخطية التي تسكن فيها.
الصوم والرياء :
لا تضع قناعًا على وجهك بل عش على حقيقتك.لا تتملق وتظهر بوجه عابس، لتقتنص مجدًا ليس لك. فبالإحسان الذي تفعله علنًا وبالصوم الذي لا تتوانى في إعلانه جهارًا لن تستفيد شيئًا، لأن أمور النفاق والتملّق التي تمارسها بطريقة ظاهرة لا تثمر ثمارًا للحياة الأبدية، فأنت تُفسد الثمار بقبولك لمديح الناس. أسرع إذًا بفرح إلى نعمة الصوم. فالصوم هو عطية وُهبت لنا منذ القِدَم وهو لا يهرم ولا يشيخ. بل يتجدد دائمًا وينمو ويزهر لكي يأتي بثمارٍ ناضجة.
يا لعظمة الصوم!
الصوم حارس للنفس، ورفيق أمين للجسد،
الصوم سلاح الشجعان، ومدرب النُساك،
الصوم يصَّد التجارب، ويُمهد الطريق للتقوى،
إنه رفيق الهدوء وصانع العفة
الصوم يعمل أعمالاً باهرة في الحروب،
ويُعلَّم السكينة في وقت السلام
الصوم يُقدِّس النذير ويجعل الكاهن كاملاً.
الصوم يجعل العاقر تلد أولادًا،
ويصنع الأقوياء، ويجعل المشرّعين حكماء
لأنه كيف للكاهن أن يصلي بدون صوم؟ لقد كانت ممارسة الصوم أمرًا ضروريًا ليس فقط في عبادة العهد الجديد السرائرية ولكن أيضًا بالنسبة للعبادة الناموسية.
الصوم يعَّلم الوحوش :
دانيال الرجل إلى لم يأكل خبزًا لمدة ثلاثة أسابيع ولم يشرب ماء (انظر دا 10: 2-3) علّم الأسود أن تصوم عندما نزل جُب الأسود (انظر دا 6: 16-22). والأسود لم تستطع أن تلتهمه بأسنانها وكأن جسده مصنوع من الحجر الصلد أو النحاس أو من أي معدن آخر صلب. هكذا يُقوَّي الصوم الجسد ليصير مثل الحديد مما جعل الأسود لا تقوى عليه. لأنهم لم يستطيعوا أن يفتحوا أفواههم أما القديس. فالصوم "أطفأ قوة النار وسد أفواه الأسود"
بركات الصوم بالنسبة للجسد :
vألا تلاحظ أن لون بشرة الصائم هو جميل وهادئ، فوجه الصائم لا يعتريه أي احمرار من الخجل. إنه مزيّن بالحشمة والأدب، عيناه وديعتان، تصرفاته حكيمة، وجهه مشرق، ابتسامته رزينة، كلامه موزون، قلبه طاهر ونقي..
الصوم طريق للنصرة على الشيطان :
أساس كل شيء هو ربنا يسوع المسيح الذي صام – إذ اتخذ جسدًا – لأجلنا وانتصر على الشيطان لكي يعلّمنا أنه بالصوم نجهز أنفسنا لمواجهة محاربات الشيطان، كأنك تضع لجامًا لخصمك. لأنك عندما تسمو بالصوم لا يستطيع العدو أن يقترب منك.
بالصوم نقترب من الله :
لقد اقترب موسى من الجبل بعد أن صام (خر 24: 8)، إذ لم تكن له الجرأة لأن يقترب من قمة الجبل الذي كان يدخن، ولم تكن له الشجاعة أن يأتي إلى الضباب إن لم يكن قد تسلّح بسلاح الصوم. لقد قَبِل موسى الناموس بعد أن صام، ذلك الناموس الذي كُتب على لوحي الشريعة بإصبع الله. وبينما صار الصوم أعلى الجبل سببًا لإعطاء الشريعة، تسبب شراهة شعب أسفل الجبل في الوقوع في عبادة الأصنام، إذ "جلس الشعب للأكل والشراب ثم قاموا للعب" (خر 32: 6). لقد أفسد إدمان الخمر ما كان ينتظره موسى من صومه وصلاته لأن النبي رأى أن شعب الله المخمور لم يكن يستحق هذه الشرائع خلال الأربعون يومًا. وهكذا نرى وكأن الخمر قد كسر لوحي الشريعة اللذان كُتبا بإصبع الله. هذا الشعب الذي عرف الله من خلال معجزات عظيمة حدثت له – في لحظة – بسبب الشراهة في عبادة الأصنام. قارن إذَا بين الحالتين كيف أن الصوم يقود إلى الله، وكيف أن الشراهة تقود إلى الهلاك.
vالصوم هو الذي جعل إيليا النبي يشاهد رؤى إلهية. إذ صام مدة أربعين يومًا وتنقت نفسه واستحق أن يرى الرب على جبل حوريب (1 مل 19: 8-23)، الأمر الذي هو صعب الحدوث لأي إنسان. بالصوم أعاد إيليا الحياة إلى ابن الأرملة، فأقامه وسلّمه إليها، إذ بواسطة الصوم برهن أنه أقوي من الموت.
vإذا أردت أن تستمتع بالطعام عليك أن تمارس الصوم. عليك أن ترى الشيء ونقيضه حتى تشعر بنعمة الشيء الذي تحصل عليه. هكذا الخالق قصد أن توجد أمور متنوعة في الحياة لكي نشعر ونُقدر الأشياء التي أُعطيت لنا. ألم ترى كيف تبدو الشمس أكثر لمعانًا بعد الليل المظلم؟ ألا تشعر بأن اليقظة حلوة بعد النوم الطويل، وأن قيمة الصحة عظيمة بعد اجتياز أزمات صحية؟ وهكذا تصير المائدة أكثر بهجة بعد الصوم.
أهمية الصوم:
vهل من السهل أن ينقذ القائد سفينة تجارية محملّة بأثقال كثيرة أم سفينة مُحملة بأحمال خفيفة؟! إن السفينة المحملّة بأثقال كثيرة عندما تتعرض لنوة بحرية صغيرة فإنها تغرق بسهولة، أما تلك التي بها أحمال معقولة ومتوازنة فإنها تعبر النوة البحرية طالما لا يعوقها شيء عن الارتفاع واجتياز هذه النوة. هكذا أجساد البشر عندما تتثقل بالتخمة المستمرة فإنها تُصاب بسهولة بأمراض كثيرة. لكن عندما تصير هذه الأجساد منضبطة بتناولها أطعمة خفيفة فإنها تتجنب الإصابة بالأمراض حتى تلك التي يسببها المناخ السيئ، ولا يعتريها الملل حتى لو كان مثل الدوامة في هجومه. والإنسان الذي له قوة إرادة إيجابية من السهل أن يشعر بالكفاية الذاتية والقناعة أمام ملذات العالم، بينما عندما يترك الإنسان الضعيف نفسه يتناول أطعمة كثيرة ومتنوعة وفاخرة وشهية فإنه لا يبلغ حد الكفاية فيسبب لنفسه أنواع كثيرة من الأمراض
الصوم والصلاة :
vالصوم يُصعد الصلاة إلى السماء كما لو كانت ريشة تطير نحو الأعالي. الصوم هو سبب رُقيّ وتقدم الشعوب، الصوم أصل الصحة، الصوم مربي للشباب وزينة الشيوخ، والرفيق الصالح للمسافرين. الصوم هو خيمة آمنة للذين يطلبون مأوى. فالرجل المتزوج لا يرتاب من زوجته عندما يراها تصوم دائمًا. بالمثل فالمرأة تثق في رجلها ولا تدع الغيرة تتملكها عندما تراه يصوم دائمًا.
الصوم سبت للرب :
v تكتفي بأطعمة خفيفة بسيطة. وكما أعطى السبت لليهودي، إذ يقول الكتاب " لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك" (خر 20: 10). لندع الصوم يكون فرصة راحة للخدم الذي يعملون طوال العام. أعط راحة لطباخك واسمح لخادمك بإجازة، لا تقبل دعوة من أحد لمائدة احتفالية. ليت صانع الحلوى يتوقف عن صنعها. ليت البيت يهدأ وتختفي الضوضاء والجلبة الكثيرة، ليت الدخان ورائحة الشواء يختفيا من البيت، ليت الخدم يستريحون، هؤلاء النازلون والصاعدون على السلالم ليخدموا البطون الشرهة. وكما أن محصلي الضرائب يعطون المديونين مهلة لترتيب أوضاعهم، هكذا فلُتعطي الفم مهلة لتستريح البطن، مهلة لخمسة أيام، تلك (أي البطن) التي لا تتوقف مطالبها.
قدم الصوم :
vالصوم جوهرة غالية ورثناها من الأجداد، وكل شيء قديم جدير بالوقار. ليتك تُقدّر معي أقدمية الصوم. فالصوم قديم قِدَم البشرية. لقد شُرِّع الصوم في الفردوس. فوصيّة آدم الأولى كانت: "من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً. وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها" (تك 2: 16-17).
فعبارة "لا تأكل" هي تشريع للصوم والانضباط. فلو مارست حواء الصوم وتجنبّت الأكل من ثمرة هذه الشجرة، ما كُنّا في حاجة إلى هذا الصوم لأنه "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى" (مت 9: 12). فخطيتنا هي التي جلبت علينا المرض. فدعونا إذًا لنُشفى بالتوبة، غير أن التوبة بدون ممارسة الصوم هي باطلة" ملعونة الأرض بسببك. وشوكًا وحسكًا تنبت لك وتأكل عشب الحقل" (تك 3: 17-18)[13].
ابتداع السُكر :
v كل ما ابتدعه الإنسان بفكره فيما بعد لم يكن موجودًا في الفردوس. فلم يكن شرب الخمر موجودًا بتاتًا، ولم تكن هناك ذبائح حيوانية ولا كل ما يكدّر الذهن البشري.
هكذا نوح لم يكن قد رأى أحد يشرب الخمر، ولا هو نفسه قد ذاق الخمر ثم وقع في إدمانه، إذ يقول الكتاب "وأبتدأ نوح يكون فلاحًا وغرس كرمًا. وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه" (تك 9: 20-21). وحدث ذلك الأمر لا لأن نوح كان مدمنًا خمرًا لكن لأنه لم يكن يعرف الكمية المعتدلة في الشرب. بالتالي جاء اكتشاف شرب الخمر وإدمانه بعد الطرد من الفردوس أي أن الإنسان كان قد مارس الصوم في الفردوس.
v