المجيء الثاني
"وأيضاً يأتي بمجدٍ عظيم ليدين الأحياءَ والأموات، الذي لا فناء لملكه".
نعلن في قانون الإيمان أنّ يسوع الذي مات وقام وصعد الى السماوات سوف يأتي من جديد ليدين الأحياء والأموات. هذا ما يدعوه التقليد الكنسي "المجيء الثاني"، بالنسبة إلى المجيء الأوّل أي إلى الزمن الذي قضاه يسوع على الأرض. ماذا يعني هذا الإيمان بالمجيء الثاني؟
لا بدّ لنا أوّلاً من التذكير انّ الإيمان ليس علماً يكشف لنا بالتدقيق غوامض الماضي فيعلمنا كيف نشأ الكون ووجد الانسان، ولا غوامض المستقبل فينبئنا كيف ستكون نهاية العالم وحياة الانسان بعد الموت. فإنّمَا الإيمان علاقة حياة بين الانسان والله. فالمؤمن يرى أنّ الله مبدأ وجوده ومصير حياته؛ والمسيحي يؤمن أنّ الله قد ظهر في العالم ظهوراً نهائياً (أو، حسب التعبير اللاهوتي اليوناني، ظهوراً إسختولوجياً) في شخص يسوع المسيح. فالمسيح هو "الألف والياء، الأوّل والآخر، المبدأ والغاية" (رؤيا 22: 13). لذلك تبدأ الإسختولوجيا، أي الأزمنة الأخيرة والنهائية، بمجيء المسيح الأوّل. فلِمَ اذاً المجيء الثاني؟ ماذا نعني بهذه العبارة؟ ماذا نعني بقولنا انّ يسوع سيأتي ليدين الأحياء والأموات؟ وكيف يصوّر الكتاب المقدس هذا المجيء؟
1- المجيء الثاني هو تأكيد الانتصار النهائي للمحبة
لفهم معنى المجيء الثاني لا بدّ من تذكار تلك الحقيقة الاساسية في إيماننا: انّ يسوع قد جاء أوّلاً مرسلاً من قبل الله، مخلِّصاً ومنقذاً العالم: "فلقد أحبّ الله العالم حتى انّه بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة" (يو 3: 16). وبولس يؤكّد: "ان الله قد برهن على محبته لنا بأنّ المسيح قد مات عنّا ونحن بعد خطأة. فكم بالأحرى، وقد بُرّرنا الآن بدمه، نخلص به من الغضب" (روم 5: 8).
انّ حياة يسوع وموته هما الدليل الثابت على محبة الله وأمانته. قد يبدو القول ان الله محبة قولاً نظرياً، إلاّ أنّ يسوع الذي عاش بين البشر وأحبّ، وتعذّب واحتمل الظلم، وبقي محباً للجميع، ليس كائناً نظرياً، بل هو الحقيقة الحيّة والمحسوسة لمحبة الله لنا. عندما ننظر اليه تستنير النواحي القاتمة من الحياة البشرية. وحتى العذاب الذي لا معنى له، والشرّ الذي كثيراً ما يهدم إرادة الخير، يأخذان معنى على ضوء صليب المسيح. فالله قد أقام المصلوب ورفعه اليه وجعله راعي الحياة والبكر الأوّل من بين اخوة كثيرين. لذلك نشهد أنّ يسوع المسيح، المصلوب والقائم من بين الأموات، هو رجاء العالم ورجاء التاريخ ورجاء كلّ مؤمن.
ء) المسيح رجاء العالم والتاريخ
المجيء الثاني هو ترقّب ما سيصنعه الله للعالم في المستقبل على ضوء ما صنعه لأجله في الماضي. في مجيء يسوع الأوّل وفي كل أحداث حياته وموته أظهر لنا الله محبته ظهوراً خفياً وجزئياً في بقعة من الأرض وفي قلوب عدد يسير من المؤمنين. إيماننا بالمجيء الثاني هو الإيمان بأنّ تلك المحبة ستظهر ظهوراً علانياً نهائياً شاملاً: "يشبه ملكوت السماوات حبّة خردل أخذها انسان وزرعها في حقله. انّها أصغر البذور جميعاً؛ بيد أنّها اذا نمت تصير أكبر البقول جميعاً؛ ثم تصبح شجرة حتى انّ طيور السماء تأني وتعشّش في أغصانها" (متى 13: 31، 32).
إيماننا بالمجيء الثاني هو الإيمان بأنّ تاريخ العالم القاتم سيصل الى نهايته حيث ستشرق عليه محبة الله. ايماننا بالمجيء الثاني هو تفسير للتاريخ انطلاقاً من الإيمان، ولكن هذا التفسير ليس تفسيراً اعتباطياً، بل يستند الى التاريخ: الى حياة يسوع التي أظهرت قوة الخير، والى موته الذي أعلن قوة المحبة الفدائية. بموت يسوع وقيامته دمّرت سلطة الشر، وبدا أنّ المحبّة أقوى من الموت وأقوى من الحقد. تلك هي العقيدة التي خطّها المسيح بدمه على أخاديد التاريخ. الغلبة هي في النهاية للحياة على الموت وللمحبة على الحقد والشر. ذلك هو اليقين الذي يرسخ في كياننا من بعد قيامة المسيح. وهذا اليقين هوما يؤكّده الايمان بالمجيء الثاني.
ب) المسيح رجاء كل مؤمن
يسوع هو اذاً رجاء العالم ومستقبل التاريخ. وهو أيضاً رجاء كل واحد منا، في حياته وموته نجد معنى حياتنا وموتنا، وفي قيامته نضع رجاء قيامتنا. لقد أظهر لنا الله في مصير يسوع المسيح مصير كلّ منا. انّه أخونا البكر الذي فتح لنا طريق الحياة التي لا نهاية لها: "منيتي اذاً، يقول بولس الرسول، هي أن أعرفه هو، وأعرف قدرة قيامته، والشركة في آلامه، فأصير على صورته في الموت، على رجاء البلوغ الى القيامة من بين الأموات" (في 3: 10، 11).
مجيء يسوع الثاني يعني لكل من يؤمن بيسوع الانتصارعلى مصيرالموت، ورجاء حياة تكتمل فيها الحياة التي نقضيها على الأرض.