مارون الارثوذكسي
ناسك انجيلي
تعيد كنيستي الانطاكية الارثوذكسية المقدسة في الرابع عشر من شهر شباط بعيد القديس البار الكاهن مارون المتوشح بالله .
جاء في تاريخ القديسين ذكر قديس ناسك اسمه مارون رقد في بدايات القرن الخامس الميلادي ، لان تحديد تاريخ رقاده غير معلوم البعض يقول 435 والبعض يجعل رقادجه عام 410 ، ومارون في السريانية يعني تصغير للفظ " مار" الذي يعني :" السيد " .
مصدرنا الوحيد عن قديسنا مارون الارثوذكسي الانطاكي هو ما كتبه ثيئوذويتطس في كتابه : " تاريخ اصفياء الله " عام 444 وهو كتاب يؤرخ فيه مؤلفه سير الرهبان معاصريه. ولكن لم يحرص على اعطائنا سيرة كاملة للقديسين ، بل حرص على رسم لوحة رائعة عن القداسة النسكية في المناطق التي أتى على ذكرها متغنيا في بضع كلمات بامجاد النسك في مصر الى فلسطين فشمال سوريا ، لذلك لم يرو لنا قصة كاملة لا عن ميلاد مارون الارثوذكسي وحياته ولا عن احواله ولا يذكر ثيئوذوريطس في اي نقطة جغرافية من سورية تنسك مارون الارثوذكسي ، فهو يقول :" ان القديس الذي كان زينة في جوقة القديسين الالهيين " اتخذ له رابية كانت في الماضي كريمة لدى قوم من الكافرين حيث كان هيكل لشياطين فحول ما فيه الى عبادة الله ثم ابتنى لنفسه منسكا حقيرا يلجأ اليه .
وضمن التراث الابائي الارثوذكسي وصلنا رسالة بعثها القديس الانطاكي العظيم يوحنا الذهبي الفم الى القديس البار مارون الارثوذكسي ، يذكر فيها بالصداقة القديمة ويوصيه بان يصلي لاجله . فيقول يوحنا في هذه الرسالة التي دونت على الارجح بين عامي ( 404 – 405 ) " اننا لمرتبطون معك برباط المحبة حتى لو كان بعيد ين بالجسد نواصل التفكير بما يختص بنشاطك … " .
اذا كان القديس مارون ارثوذكسي الهوية والانتماء والممارسة وتوفي ارثوذكسي من المؤكد ان قديسنا مارون الارثوذكسي قد توفي قبل نشوء الكنيسة المارونية المقدسة ، ان تسمية الكنيسة المارونية فتعود الى دير القديس مارون الذي بناه اتباع القديس مارون وتلاميذه في منطقة أفاميا المعروفة الآن باسم قلعة المضيق قرب مدينة السقلبية قرب حماهفي سورية على ضفاف نهر العاصي . يقر الاختصاصيون لقديس مارون الارثوذكسي بانه زعيم حركة الحبساء والمتوحدين والنساك في القورشية . وقد استقى ثيئوذوريطس معلوماته عن القديس مارون الارثوذكسي من تلميذي يعقوب وليمنينوس .
ان منطقة قورش القديمة معرفة الآن باسم " قلعة النبي هودي" في منطقة مجاورة لمنطقتي عفرين واعزاز في محافظة حلب وهي منطقة جبلية جارتها منطقة دير القديس سمعان العمودي.
يعتقد المؤرخون ان القديس مارون الارثوذكسي اختار هذه المنطقة "( قورش) لنسكه في جبل اسمه الآن " برساداغ" يبعد 10 كلم عن عمود القديس سمعان . كان مكرسا لعبادة ارطاميس برسيئا ، يرتفع عن سطح البحر 850 مترا . المنطقة ممتازة للنسك بفضل مشارفها الجبلية .
كان القديس مارون الارثوذكسي يعيش في العراء. وكان يتوقى الثلج والمطر بارتداء جلد الماعز. وكان مُجلـِّياً في ميدان النسك، فقطع أشواطاً بعيدة الأغوار أحرز فيها قصب السبق على سواه. فابتكر ألواناً من التقشف وشظف المعيشة. وكلل الله جهاداته بفيض غزير جداً من البركات والنِعم والمواهب. وإن كانت العجائب لا تدلّ على قداسة الحياة الشخصية، إلا أنها إكليل في جملة أكاليل الأبرار.
فالقديس يوحنا السلمي ينوه بما يخصّ به اللهُ الرهبانَ من مواهب. إنما الحياة الشخصية الطاهرة الكاملة هي الأساس . وقد خصّ الله القديس مارون الارثوذكسي بموهبتي شفاء الأمراض وطرد الشياطين حتى طبَّقت شهرته الآفاق، فتقاطر إليه الناس من كل المناطق. فشفى الأمراض من جميع الألوان. ولم يكن يلجأ الى أدوات وعقاقير. أداته الوحيدة كانت الصلاة الطاهرة البارّة. كانت بركته تحلّ كالندى، فتطفئ السخونة وتهزم الشياطين، وتشفي كل مرض وسقم. وتعلق الناس بالحبساء أكثر من الأطباء، فأتوهم خاضعين مستسلمين في الأمور المستعصية وغير المستعصية .
وما كان الحبساء يحبسون أنفاسهم. فالقديس مارون الارثوذكسي أطلق العنان ليشفي مرضى النفوس من أسقامهم. فوقف مرشداً روحياً كبيراً يقود الخاطئين في سُبُل البرّ والقداسة حتى تحوّلت منطقة قورش الى روضة مقدسة تعجّ بالغروس التي غرسها، أي بالرجال الأفاضل. وهكذا برز فلاحاً مجيداً في حقل الرب. فشفاء النفوس أهم من شفاء الأجساد ، هذا ما نرى في الإنجيل، كان شفاء النفس باكورة لشفاء الجسد.
يوحنا الذهبي الفم ومكسيموس المعترف علـَّمانا أن الإحسان الى الروح أهم من الإحسان الى الجسد بما لا يُقاس. ويبدو أن القديس مارون كان ثقة حتى لدى اليهود. فكان قوم منهم قد التجأ الى سمعان القديم (هو غير العمودي)، فأجرى عجيبة على أحدهم. ثم جاء يرويها (في حضرة مار يعقوب الكبير) لقديس مارون. فنقلها يعقوب لثيئوذوريتوس الذي نعت هنا مار مارون بـ "الملهم" (6: 3). وكان القديس مارون شديد الإعجاب بالناسك القديس زيبيناس. فكان ينصح زائريه بأن يقصدوا زيبيناس ليحصلوا على بركته. وبلغ إعجابه به حداً دعاه معه: "أباه ومعلمه والنموذج الكامل لكل أنواع الفضائل. وكان يلتمس بإلحاح كبير "أن يودَع جسداهما قبراً واحداً". ولكن توفي زيبيناس قبل القديس مارون.
أما في أعماله التقشفية " فلم يكتفِ ، القديس مارون، بتمريس نفسه على المعتادة منها " كالأصوام والصلوات المستطيلة، والليالي الساهرة في ذكر الله، وإطالة الركوع والسجود، وتلاوة السواعي في مواعيدها، والتأملات في كمالات الله، ومناجاته تعالى، وحبس نفسه في منطقة محدودة لا يخرج منها إلاّ لشغل الأرض في أعمال يدوية تضني الجسم وتقمع شهواته، مع قهر الجسد باللباس الخشن والمسوح الشَّعرية، وتحريم الجلوس أحياناً، ومنع النوم ليالي بكاملها؛ ثم الانصراف إلى وعظ الزوّار وإرشادهم، وتعزية المصابين والحزانى منهم. كل هذا لم يكتفِ به مارون. "بل كان يزيد عليه ما ابتكرته حكمته جمعاً لغنى الحكمة الكاملة، لأن المجاهد يوازن بين النعمة والأعمال، فيكون جزاء المحارب على قياس عمله".
ولا نرى في قدر هذه الحياة النسكية الكاملة،وتعداد نتائجها الخيّرة في نفس ممارسها، وفي إفادة المجموع جسدياً ونفسياً، ورفع مستواه الروحاني، خيراً من كلام تيودوريطس، نورده بنصّه، متذوقين ما فيه من نكهة البساطة وعمق التأثير. قال: "لكنَّ القديس مارون لم يقتصر على شفاء أمراض الجسد، بل كا يبرئ أيضاً أمراض النفس. فكان يشفي إنساناً من البخل، وآخر من الغضب، ويعلّم رجلاً الاقتصاد، ويعلّم غيره قانون العدل. وينهي واحداً عن استباحة المحرّمات، ويوقظ آخر من غفلة التواني" . ولنتصور تلك الجموع المحتشدة حول منسك القديس تنتظر أن يُقبل عليها ببركة أو نظرة أو كلمة يخفف فيها من أدوائها الجسدية والنفسية. فتعود بقلبٍ أقوى، وإيمان أعمر، ورجاء أوثق، إلى مناضلة الحياة في هذا الوادي وادي الدموع.
مات القديس محاطاً بجمهور من تلاميذه الذين كانوا قد أهلوا قم القورشية وأوديتها ومغاورها حتى أصبحت حديقة غنّاء مزدهرة بثمار القداسةالمتنوعة.فأوصى القديس مارون في آخر أيامه، بأن يُدفن في قبر زابينا، قاصداً البرهان على إعجابه بفضائل الشيخ الراحل، ورامياً إلى إعطاء سائر التلاميذ أمثولة اتضاع وتجرّد. إلاّ أن وصيَّته لم تنفذ، فما ان فاضت روحه، حتّى تزاحمت على جثته الجماهير المتقاطرة من القوى العديدة، و كل جمهور يودّ لو اختطف الجثمان فدفنه في قريته. وكان يؤدّي النزاع إلى العراك، ( هذا النزاع على اجساد القديسين كان شائعا جدا فبالقوة العسكرية تم نقل جثمان القديس سمعان العمودي الى انطاكية )،حتى ظفر أهل قرية من جنوبي القورشية، فنقلوا الجثة ودفنوها في قريتهم. وأقاموا على القبر تلك الكنيسة التي ذكرها ثيئوذوريطس، وجعلها بعيدة عن مركز أسقفيته أي قورش، دون أن تكون خارجةً عن الأبرشية. قال: "ومع أننا بعيدون عن القديس، فإن بركته تشملنا، وذكره يقوم لدينا مقام ذخائره". فيكون قبر القدِّيس، والكنيسة الأولى المقامة على اسمه، إنما كانا "في شمالي سورية، جنوبي قورش، في نحو نصف المسافة بينها وبين حلب"، كما يستنتج الأب لامنس.
أما تاريخ رقاد القديس مارون فمجهولة التاريخ . في حسابات Canivet كان مارون حياً في العام 406. ولا نعلم شيئاً سوى ذلك . ففي العام 406 تركه تلميذه يعقوب الكبير ليعيش في العراء، فكان ذلك في 444، عام تدوين التاريخ، أي بعد 38 سنة.
نعرف أنه في العام 536، في عهد الأمبراطور جوستينيانوس الكبير، بُني دير هام على اسم القديس مارون في "ارمناز" احتلّ المكانة الأولى في سوريا الثانية البيزنطية. وكان الأمبراطور مركيانوس قد أمر في العام 452 بإشادة دير بالقرب من أفامية على اسم مار مارون. وهناك غالباً أديرة أخرى. إلا أن أشهرها هو الدير المذكور الذي اختفت آثاره كلياً، فلا يهتدي الباحثون اليوم الى أطلاله. والجدير بالذكر أن لغة رهبانه كانت اليونانية .فالبقعة كانت خاضعة للثقافة اليونانية فضلاً عن كون الكتاب المقدس المستعمل والتراث المسيحي آنذاك يونانيَّين بالدرجة الأولى. وقد حضر رهبان منه المجمعَ الخامس المسكوني . وترأس رئيسه بولس وفد رهبان سوريا الى مجمع في القسطنطينية في العام 536 وقدّم شكاوى ضد سويروس أنطاكيا وبطرس أفاميا المعاديَين لخلقيدونيا.