القديس مارون .. الارثوذكسي الانتماء
في الذكرى 1600 عام لوفاة القديس مارون الناسك لا بد من التوقف والتأمل في حياته النسكية .لهذا هناك محطة أساسية في اليوم الرابع عشر من الشهر شباط في الكنيسة الأرثوذكسية الانطاكية حيث تقيم تذكار الأب المتوشح بالله مارون المتقدس هامة نساك الأديرة في قورش .لا نعرف أية تفاصيل عن طفولة قديسنا العظيم (مارون) ولكن الدلائل كلها تشير الى انه عاش طفولة مقدسة وفي بيت مسيحي حقيقي، غرس في أعماق الطفل مبادىء وتعاليم المسيح النقية التي لم يحد عنها بعد ذلك إذ تأصلت في نفسه وكانت له السياج الذي حرسه من العثرة وكانت هي القائد الذي امسك بزمام حياته إلا ان هناك مصدران فقط يتكلمان عن القديس مارون الناسك, الأول: رسالة بعث بها القديس يوحنا الذهبي الفم من منفاه من أرمينيا حوالي 404 أو 405 الى مارون الناسك: وهذه الرسالة السادسة و الثلاثون من الرسائل القديس الذهبي الفم. حيث يقول: إننا لمرتبطون معك برباط المحبة والشعور وعليه فإننا نراك كأنك حاضر أمامنا 000فعلى قدر استطاعتنا نشيد نحن بفضلك ونعلن انك لا تبرح من ذاكرتنا حاملينك في نفسنا أينما كنا. وقيل كل شيء نطلب إليك ان تصلي لأجلنا . ان هذه الشهادة لواضحة وأكيدة فان الذهبي الفم يعرف مارون الناسك معرفة شخصية ويقدر تقواه وفضائله فيطلب من منفاه ان يذكره بصلواته .لا بد من إشارة الى ان القديس يوحنا الذهبي الفم وصف حياة الناسك بعد ان عاشها أربع سنوات من375 الى379 في جبل قريب من إنطاكية فأتخذ راهبا سوريا مرشدا له ثم عاش في عزلة تامة سنتين ولكن صحته ساءت فاضطر الى العودة الى المدينة واصفا ان الناسك يتوخى قبل كل شيء الانقطاع الى الله للتأمل ومناجاته فيعتزل الناس ويحبس نفسه . المصدر الثاني هو ما كتبه ثيوذوسيوس أسقف قورش في كتابه (الحياة الدينية) الذي ألفه عام 444 الذي حرص على رسم لوحة رائعة عن القداسة النسكية في مناطق التي أتى على ذكرها لذلك لم يرو لنا قصة كاملة لا عن ميلاد القديس مارون وحياته ولا عن أحواله إلا انه كتب فصلا خاصا عن مارون الناسك وهو الفصل السادس عشر الذي أشار الى طريقته في النسك وأيضا ذكره عندما تكلم عن بعض تلاميذه مثل يعقوب القورشي (الفصل الحادي والعشرون) وليمناوس (الفصل الثاني والعشرون) أو عن الناسك صديق لمارون اسمه زبيناس ( الفصل الرابع والعشرون) . يقول أسقف قورش ( ان مارون قد انزوى في جوار هيكل مهيأ في الماضي لخدمة الضلال القديم ونصب لذاته خيمة من الجلود المكسية بالوبر يلجأ إليها في أوقات الأمطار والثلوج . ( الفصل الحادي والعشرون ) هذا ما جاء عن ذكر مارون الناسك في مقدمة الكلام عن تلميذه يعقوب القورشي الذي عاصر القديس مارون وتلقى عنه تعاليمه. يضيف أسقف قورش ان مارون: ( قد اتخذ له رابية كانت في الماضي كريمة لدى قوم من الكافرين حيث كان هيكل للشياطين ) وهذا الجبل اسمه الآن برساداغ كان مكرسا لعبادة ارطاميس برسيا parsaia قريبا من بلدة اعزاز في حلب فكرسه القديس مارون وبنى قربه كوخا صغيرا ولكن قلّما استعمله .القديس مارون طلب الكمال فاتخذ قرارا مصيريا بان يقضي حياته في العراء فسكن في ذروة الجبل ليناجي ربه في خلوات لا تنقطع هذا ما جعل العلماء على ان يؤكدوا ان القديس مارون هو مؤسس أو زعيم حركة الحبساء في القورشية, فابتكر ألوانا من التقشف وشظف المعيشة. وكلل الله جهاداته بفيض غزير جدا من البركات والنعم والمواهب وان كانت العجائب لا تدل على قداسة الحياة الشخصية الا إنها إكليل في جملة أكاليل الأبرار.لهذا خص الله القديس مارون بموهبتي شفاء الأمراض وطرد الشياطين حتى انتشرت شهرته كل الآفاق فتقاطر إليه من كل المناطق فشفى الأمراض من جميع الألوان ولم يلجأ الى أدوات وعقاقير أداته الوحيدة كانت الصلاة الطاهرة وكان لا يكتفي بشفاء عاهات الجسد فحسب بل كان أيضا يأتي للنفوس بالعلاج المفيد شافيا هذا من داء البخل وذاك من الغضب 000حتى تحولت قورش الى روضة مقدسة. هكذا برز فلاّحا مجيدا في حقل الرب-
فشفاء النفس أهم من شفاء الجسد يقول القديس مكسيموس المعترف ان إحسان الروح أهم
من الإحسان الى الجسد بما لا يقاس.مرض القديس مارون لأيام كشف وهن طبيعته البشرية وقوة وحيوية روحه . وقام نزاع شديد بين القرى المجاورة رغبة من كل منها في الاستيلاء على جثمانه، كان نزاع على أجساد القديسين كان شائعا جدا، إما تاريخ وفاة القديس مارون فمجهول التاريخ فهناك عدة أراء حول وفاته . ما يهمنا اليوم هو رسالة القديس مارون لنا وهي ان القداسة هي السر المضيء والفاعل لوجود الله المتعالي والمحول.
من هنا تأتي الصفة غير الطبيعية للقداسة: إنها في آن معا الوهية ومشاركة وكشف .القداسة هي إشعاع الشخص العلوي التي تكشف نفسها لنا لترفعنا إليها. ويهمنا أيضا من رسالة القديس مارون ان التجارب الروحية التي يبحث عنها اليوم العديد من الشباب في اليوغا أو في الماورائيات نصيبها الإخفاق إذا لم تقودهم الى المشاركة الشخصية مع الشخص المسيح (الإله- الإنسان) الذي عرف بفضل نار الروح كيف يخلص الشخص الإنساني من جحيم الوحدة.
لهذا تدعو الكنيسة الأرثوذكسية القديس مارون في صلاة المساء الكبرى ” البار المتأله العزم, المتوشح بالله, ومرشدا الى سبل الخلاص قولا و فعلا ” ثم تضيف في صلاتها “مرشد حكيما ومثالا نقيا للحياة في المسيح لكنيسة إنطاكية”
ان سيرة هذا القديس هي رسالة لنا وشهادة ( ان الرب دائما ينطلق بنا الى صحراء ما ليتحدث إلينا وجها لوجه انه يظهر ذاته للذي ينسلخ عن كل شيء وينصرف في غربة عن كل عشق وتعلق وشهوة لكي يبتغي وجه الآب )، ( القديس باسيليوس الكبير ) طوبى لمن يبتعد عن الجميع لكي يتحد بالجميع .
يشرح القديس ساروفيم ساروفسكي الروسي قائلا: عندما يوصي السيد أتباعه بان يسلكوا الطريق الضيق فهو بذلك يخاطب الجميع دون تفرقة يا بني اعطني قلبك هذه هي وصية السيد لنا لا فرق عنده بين لابسي الاسكيم أي الراهب والإنسان العادي انه يطلب منا ان نلبس اسكيما داخليا, يطلب قلوبا تحب الرب حبا جما .وعلى هذا العرش يستوي ويؤسس ملكوته .
فليمُدح مارون الالهي الذي لمع بالنسك الشريف، ونال النعمة فعل العجائب.لانه إذ عاش كملاك على الارض ظهر في النهاية مساكنا الملائكة .وهو يتشفع الى المسيح دائما ليمنحنا غفران الزلات.
الى جنة عدن مارونُ انتقل، هناك يتألق طبيعيا إذ ذبل الجسد ، ويسكن في المدينة الرحبة، بعد أن غادر الأرض في الرابع عشر من شهر شباط .