الميلاد بين المذود والصليب
شاءت الظروف أن يولد السيد المسيح في مذود حقير "لأنه لم يكن لهما موضع في المضافة"، وهذه ليست مصادفة فحسب، بل رمز للتنازل الالهي، فقد أصبح السيد المسيح شبيهاً بنا في كل شيء ما عدا الخطيئة، والكلمة صار بشراً وحل بيننا. لم يولد في قصر عظيم بل في مذود حقير، ولم يولد في بيت دافيء بل في مذود بارد هادئ صامت.
ونعرف من الأناجيل بأن مريم قمطته وأضجعته في مذود على القش وبين الحيوانات. وهذه دلالة أخرى على الفقر والتواضع. وفي الأيقونات الشرقية لقصة الميلاد، نجد أن شكل المذود يشبه شكل التابوت الخشبي الذي يسجى فيه الميت، وهذه دلالة نبوية على أن هذا الطفل الصغير ولد ليموت، وأن قصة التجسد نهايتها بسر الفداء.
وهنا نصل إلى الجلجلة، وهي تلة مرتفعة كانت على مدخل مدينة القدس، يصلب عليها اللصوص والمجرمون لكي يكونوا عبرة لمن اعتبر. فقد اختار السيد المسيح أن يموت على هذه التلة مثل اللصوص والمجرمين وهو البريء من أي ذنب، وذلك طاعة وتكفيراً عن خطايا العالم. أما أداة الموت فكانت الصليب الذي كان من أشد العقوبات في ذلك الزمان، لما كان يعانيه المصلوبون عليه من الألم والذل والاهانة أمام عيون المارة. فالصليب فوق الجلجلة علامة على الذل والألم ولكنه قمة التضحية والحب، فما من حب أعظم من حب من يبذل نفسه في سبيل أحبائه.
ويمكننا أن نربط بين المذود والصليب، بين المهد واللحد وبين الولادة والموت. لا بل يمكننا أن نربط بين شجرة معرفة الخير والشر التي أكل منها آدم وحواء فخالفا أوامر الله وعصيا ارادته فوقعا في الخطيئة، وبين طاعة آدم الجديد السيد المسيح الذي جاء ليحقق مشيئة الله فولد في المذود ومات على الصليب ليغلب بالخشبة (عود الصليب) مكفراً بذلك عن ذنب آدم القديم الذي أكل من الشجرة القديمة تلك الثمرة المحرمة.
إن هذا التفكير اللاهوتي الرمزي ليس بعيداً عن حياتنا اليومية، فحياة الانسان هي رحلة من المهد إلى اللحد، هي مغامرة بين الولادة والموت مصبوغة بعلامة المذود والصليب: فالولادة تجلب الفرح والسعادة والموت يجلب الحزن والتعاسة. ولكن المذود الذي يرمز إلى البساطة والتواضع مربوط بصفات البراءة والطهارة والعظمة، كما أن الصليب الذي يرمز إلى الألم والاذلال مربوط بمزايا الحب والتضحية والعظمة أيضاً.
وفي كلا الحالتين فإن المذود والصليب، والجلجلة، كانت الوسائل الفعالة التي استخدمها الله ليحقق مخططه الإلهي لخلاص العالم والانتصار على الخطيئة والشر والموت. كانت الوسائل بسيطة متواضعة مؤلمة ولكنها أعطت ثماراً كثيرة يانعة. إن السيد المسيح لم يستخدم الحديد والنار والسلاح، ولكنه استخدم المذود والصليب وكلاهما من خشب.
وبما أننا في أجواء مغارة الميلاد، فقد أعجبتني القصة التي يرويها البعض لبيان سبب وجود الحمار والثور في المغارة لارتباطها بموضوعنا: فبينما كان القديس يوسف ومريم في طريقهما من الناصرة إلى بيت لحم، جمع الملاك جبرائيل في السماء الحيوانات ليرى من منهم يستطيع أن يقدم خدماته للطفل يسوع الذي يوشك أن يولد في المغارة.
كان أول من تقدم الأسد، ملك الغابة، فقال للملاك مفاخراً: "هل يوجد غيري؟ فأنا ملك الحيوانات، وسأقف على باب المغارة وأفترس كل من تسول له نفسه أن يلحق الأذى بالطفل يسوع". أجاب الملاك: "شكراً، لكن لا تصلح لأنك عنيف ومفترس".
ثم تقدم الذئب: "أنا مستعد. فأنا سأحضر للطفل أجمل الفواكه وسأحمل له يومياً ما يلزمه من الحليب، وتستطيع أن تعتمد عليَّ، فأنا "ذيبك"… أجاب الملاك: "شكراً لخدماتك، لكنك في العادة لست مستقيماً ولا نزيهاً بل خداعاً ماكراً".
ثم تقدم الطاؤوس وقال للملاك: "أرسلني أنا، فسأفرش ريشي في المغارة وأجعلها قصراً يليق بملك الملوك ورب الأرباب". أجابه الملاك: "شكراً، لكنك متكبر، وهذا عكس رسالة الميلاد".
وهكذا مرت جميع الحيوانات تعرض خدماتها، ولكن الملاك لم يوافق على أي منها. لاحظ الملاك أن الحمار والثور لم يتقدما لتقديم خدماتهما، وأنهما تابعا عملهما في الحراثة بصمت، فسألهما: "ماذا تستطيعان أن تقدما للطفل الذي سيولد؟" أجاب الحمار: "نحن؟ لا شيء، فنحن لم نتعلم سوى العمل الصامت والمتواضع، وتحمل الضرب والاهانات". لكن الثور قال بصوت خجول: "ولكن إن أردت، نستطيع أن نبعد بذنبنا الذباب عن وجه الطفل يسوع ونستطيع أن ندفيه بنفسنا"… ايتسم الملاك وقال: "فليكن". وهكذا كان.
العبرة بسيطة: إن التواضع والبساطة عبرة المذود هو مفتاح القلوب يفتح الدروب ويسيطر على الشعوب. كما أن التضحية والخدمة والمحبة عبرة الصليب والجلجلة هي وسيلة الغلبة على الألم والموت وتقود إلى الحياة والانتصار.. فبيت لحم طريقنا إلى القدس، وعيد الميلاد يقودنا إلى عيد الفصح، وبينهما تتأرجح حياتنا من مهدنا إلى لحدنا، من ولادتنا إلى موتنا إلى حياتنا وقيامتنا… فلا نخافن من الصليب لأنه ظل القيامة كما أن المهد هو منبع الولادة.