” ولما حان ملء الزمان.. ”
دراسة علمية
في تجسد المسيح
للأسقف استيفانوس حداد
ضمن المكتبة التي وهبها المثلث الرحمات الأسقف استفانوس حداد إلى دير القديس جاورجيوس ـ الحرف ، كانت هذه الصفحات المخطوطة بيده الكريمة، ونظراً لأهميتها وبعد أن قمت بالاتفاق وتسليمها للأخ منير حداد ـ ابن شقيق سيدنا ـ والذي قام مشكوراً بطباعتها ، فإنني أقوم بنشرها هنا توثيقاً لها وكتحية حب ووفاء وتقدير لسيادة الأسقف استفانوس حداد .
اليان جرجي خباز
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
” ولما حان ملء الزمان.. ”
في تجسد المسيح
إن اللاهوت المعاصر مع قوة عقائديته الأصيلية, ينطبع بطابع علمي يماشيه العلم بكل تطوراته وادعاءاته وأشكاله, يماشيه التاريخ والنقد وعلم الآثار والفنون والفلسفة وعلم النفس والطب والفلك فيساهم ذلك في توضيح وتثبيت العقائد اللاهوتية القائمة على النصوص, فيزيدها متانة ومناعة في التصدي لكل من يتجاسر على مسّها ونقدها والانتقاص منها.
وليس عبثاً قول الرسول بولس :
” إننا نهدم كل علّو يرتفع ضدنا, ونسبي كل بصيرة إلى طاعة المسيح “.
وقديماً استخدمت الفلسفة عند آباء الكنيسة المسيحية في توضيح وتثبيت العقيدة، بل خضوع العلم للديانة وخدمتها، وقد قال القديس يوحنا الذهبي الفم : ” وصارت الحكمة الخارجية عبدةً بين يدي الحكمة الداخلية, جاريةً لا تتجاسر أن تدخل إلى صدر المجلس وتطـّلع على أسرار أسيادها “.
ومن يقول أننا اليوم سندرس سر التجسد العظيم الإلهي بطريقة علمية تحليلية تعتمد على الفرع الجديد المحدث في جامعة اللاهوت : ” تاريخ عصر المسيح ” ( أو مجيء المسيح ) واضعين العناوين والآيات التالية موضوعاً لمحاضرتنا : ” ولما حان ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة, مولوداً تحت الناموس لننال التبني ” (افسس 4 : 4 ) و” كما اختارنا فيه من قبل إنشاء العالم “، و” إذ أعلمنا سر مشيئته على حسب مرضاته التي سبق فقصدها فيه لتدبير ملء الأزمنة كي يجمع ويجدد في المسيح كل شيء في السموات وما على الأرض ” (1; 10:9 ) و” على حسب قصد الدهور, القصد الذي أجراه في المسيح يسوع ربنا ” ( 11:3 ) و ” كلمة السر المكتوم منذ الدهور والأجيال , وقد أعلن الآن لقديسيه ” (كوا26:1) و” إن الله بعد أن كلم الآباء بالأنبياء قديماً بطرائق متعددة ومختلفة , كلمنا في آخر الأيام بابنه ” (عبر1 : 1).
لما حان ملء الزمان أرسل الله ابنه… ماذا نقول أيها الأخوة في هذا التدبير الإلهي المرتبط بالزمان من الله الكائن فوق الزمان والمكان ؟
هل التجسد , ثمرة الثمار , نضجت , بعد أن تعاقبت عليها الفصول وتفاعلت فيها ومعها عوامل الطبيعة , من شتاء وربيع وصيف وخريف وزوابع وأعاصير ورياح وبرد ودفء وعطش وري حتى استكملت نضجها , وأتت أكلها. أم هو, كما نقول اليوم تكافؤ فرص موضوعية تكاملت عناصرها ومقوماتها في تاريخ البشرية حتى صارت مهيأة لتقبل سر التجسد العظيم عبر الزمان , ما هذه الكلمة ؟ وما هو ملء الزمان ؟ وما هذا التدبير ؟ وأين هي مظاهره ؟ ما هذه المقدمة وأين هو موضوعها ؟ ما علاقة الزمان بعمل الله , والله فوق الزمان والمكان , والتجسد عملية إلهية , والله قادر على كل شيء ؟
إننا ونحن أمام تجسد الكلمة وعمل الخلاص , كأننا أمام عملية جديدة في خلق
جديد , بل قل أننا أمام سِفر جديد لتكوين جديد هيأ الله فيه كونا” سديميا” ثم هندسه ونظمه ورتبه في خلق نور وجلد ونجوم وكواكب وليل ونهار ويابسة وبحار ودبابات وزحافات في البر والبحر ونبات وزرع وبقل وأخيرا” يخلق الإنسان مهيئا” له الكون مسكنا” ومكان سيادة.
إن الأمم والشعوب التي سبقت التجسد , والتي خفقت فيها النسائم الإلهية وتحركت في أرضها نسوغ بذار الكلمة ( اللوغُس ) , كما قال اقليمس الاسكندري , واستضاءت مع الزمن بشيء من نور شمس الدهور المنعكس على ليلها الحالك قبل بزوغ الفجر , هي الأمم التي يجب أن نلقي الأضواء على تاريخها , ونماشيها في هذا التاريخ , لنفهم تهيؤها لخدمة سر التجسد العظيم , وكم فيها من رموز وألغاز وأسرار ورؤى تكشف الحجاب عن ظهور السر الذي منذ الدهور. وفي مقدمة هذه الأمم , الأمة اليونانية التي نشرت الحضارة والتي بلُغتها كتبت الأناجيل المقدسة
وسائر أسفار العهد الجديد والليتورجيا والآباء : وكأنها مسخرة بالعناية الإلهية ,
وماضية في خدمة سر التجسد وبشارة الملكوت والعهد الجديد.
هناك يعود التفات العالم في منعطفات التاريخ إلى الحروب الفارسية اليونانية قبل المسيح , حيث يقف السائحون من أميركا وروسيا وكل الغرب , والعالم كله يقفون على تلة فيها عظام جنود ماراثونا وثرموبيلى وسلامينا , يقفون ليقولوا كلمة السر التاريخية : من هنا تقرر مصير تاريخ الإنسانية والحضارة , إذ كيف لأمة يونانية صغيرة بقوةٍ ضئيلةٍ جدا” أن تغلب وتهزم في البر والبحر قوات ٍ فارسية تفوقها أضعاف الأضعاف جاءت لتمحق هذه الأمة الصغيرة , وتزيل اليونان من خارطة الوجود , ولو أزيلت ما سمح الله , فمن أين هذا التراث ومجرى الحضارة عبر هذه الأمة ؟ وقد مثلت الحرص على استبقاء هذه الأمة رمزا” للحضارة والتاريخ والديانة , مثلت كلمة تشرشل في آخر الحرب الكونية الثانية مهددا” الروس والشيوعية بقوله : إذا تشيعتْ اليونان فالكلمة للمدفع. ثم نتأمل كيف توحدت اليونان نفسها على يد الأسرة المكدونية التي منها الاسكندر المكدوني الكبير ! توحدت على الرغم من عناد أهل أثينا وخطيبها ديموسثينس المعارض بشدة لهذه الوحدة ! أجل توحدت لتنطلق في قوة صغيرة جدا” نسبيا” بقيادة الاسكندر الكبير لتكتسح الشرق إلى الهند والصين , وتطوي علم الدولة الفارسية وسائر الممالك , وتزاوج بين الشرق والغرب , وتنشر اللغة اليونانية ( اندنوسيا ) حتى تصير لغة عالمية ( انترناسيونال ) بحيث يمكن تفاهم العالم بها , ويتسهل بالتالي نشر كلمة الإنجيل. واعتبر الاسكندر سابق المسيح ( برودروم ) حتى شاع القول المأثور : إن الغرب قدم للشرق الاسكندر الكبير هدية ” , فرد الشرق هديته ببولس الرسول.
وعملا” بوصية السيد حملت البشارة إلى كل أطراف المعمورة من كل أمة وجنس كما جاء في أمثال هرماس الراعي الذي شبه الإنجيل بشجرة عظيمة غطت السهول والجبال والأودية وكل الأرض. وكذلك اقليمس الاسكندري قال في كتابه
( الألحفة ) : إن ديانتنا لم تنحصر في فلسطين كديانة اليهود بل انسكبت وانساحت مثل الماء في الأرض كلها , بين اليونان والبربر في كل أمة ومدينة وبلدة وقرية , وفي كل بيت حتى بيوت الفلاسفة. وجاء مثل هذا القول عند كلٍ من ايريناس وترتيليان.
وعودا” إلى العوامل السابقة الممهدة للمسيحية , نمر ببداية الفلسفة والحركات الفلسفية : لاهوت أورفيفس الذي انشد الأناشيد لوحدة الآلهة في زفس ووحدة الوجود , كما نمر بالفلاسفة الطبيعيين مثل تاليس وديوجين وبيثاغورس وكسينوفون وبارمنيدس وزينن. كما نمر بالحركة المسرحية الشعرية الإنسانية مثل أشيل وسوفوكل , وايفريبيد وانتيفونا , والحركة الشعرية والتاريخية : هيرودت وبنداد وثوكيذيذس وأرستوفانس وآرتس الذي استشهد بمقطع من شعره بولس الرسول في خطابه بأثينا : « كما يقول أحد شعرائكم أننا نحن نسله وذريته ». ونورد الفلاسفة الكبار : سقراط وأفلاطون الذي تكلم عن الإله الكائن بذاته , وعن جوهره وصفاته ووحدانيته وطريقة كشفه عن ذاته بالإلهام. ويسمي آباء الكنيسة الفيلسوف أفلاطون : أفلاطون الإلهي , وأرسطو والفلسفة الرواقية الراقية التي تكلمت عن إله الآلهة والأسماء الكثيرة لمسمى” واحد : ليس له اسم , صفاته لذاته , علاقته بالعالم. كما تكلمت عن العبادة الحقيقية , وما يدور في هذه الفلسفة الرواقية من المحاورات الطريفة التي أجروها على لسان الآلهة ,والعبادات البالية , وتزييف الآلهة ومسخرتها. كما تكلموا عن وضع الأصول والمبادئ التي ينبغي أن يكون عليها الإله الحقيقي.
ومما قالوه : إن زفس إله الآلهة كسول نائم لا يسمع أصوات المظلومين ولا يرى الظالمين. وان كل ما وضع له من خصائص ومزايا إنما هي من خيال الشعراء وان بروقه ورعوده وعواصفه وصواعقه توصف بالدخان الذاهب في الفضاء. وهذا شيء يذكرنا برسالة ادميا التي تناولت أصنام بابل بالسخرية والضحك حتى
تتجنب عبادتها. ثم بحثوا في الإنسان ونفسه, وأثبتوا خلود النفس, وهكذا من بعد أفلاطون تنتهي الديانة اليهودية إلى ديانة توحيدية : المنطق والشعور يتطلبان دائما” الأفضل فيهتديان إلى اله واحد فقط الإله الصالح الحقيقي الذي هو كمال كل الفضائل والنقاوة الخلقية الذي يسمو على الكل.
وهكذا تهيأت المسكونة بالفكر اليوناني إلى المسيح , وذلك بارتفاعها وتجليها إلى افتراض الأعلى والأوحد , وبإثبات خلود النفس وكرامة الإنسان.
الأسرار والحياة الدينية السرية
وقد ساعدت الفلسفة بالأسرار على الارتقاء الروحي والعقلي الذي كان لازما” ليأتلف مع سر التجسد الواقعي , وظهور الله باقنوم يسوع المسيح التاريخي المتأنس. أجل ساعدت الأسرار التي كانت قبل المسيحية مهيئة كبار النفوس والعقول إلى الشركة السرية والحياة مع الله بيسوع المسيح المتجسد.
فالديانات السرية للشعوب القديمة اندلجت , في العصر الهلليني بالديانات السرية الشرقية التي تألفت من جديد بقالب يوناني فأثرت في نفوس الشعوب وعقولها , وعمقت حياتهم الفكرية والدينية والأخلاقية. وكان القصد المباشر من هذه الأسرار المعنية كما عرفه أرميس وبيماندرس هو: « أريد أن أعرف الكائنات وأدرك طبيعتها وأعرف الله » والغاية القصوى هي « تأله المُسار » أي الدخول في جوهر هذه الأسرار , والتشبه بالله , أو مشابهة الله , والخلاص من القذارة الأخلاقية ومن الموت ودرءُ الأخطار والعياذ من الأمراض.
وهذه الأسرار كانوا يتممونها أو يكملونها بخدمات معينة وطقوس وتراتيب وأناشيد وتراتيل , وبخور وألبسة , يستعملون فيها الذبائح الحيوانية والحليب والعسل
وسواها. واستخدموا فيها أجمل الأشعار الطوميرية وأشعار بندار وسائر الشعب الشتاء,موا الاتصال بالله والقدرة على القيامة من الموت الذي شبهوه بالشتاء , والقيامة شبهوها بالربيع ( فصحنا في الربيع ).
السنكريثزم خليط الديانات
وهناك على مسرح هذا التاريخ عامل آخر لتوحيد الشعور الديني وتصعيده هو حركة تجميع الديانات واختلاطها.
من وجود ديانات متعددة عند شعوب متعددة في بسطة الدولة العالمية الهللينية تولد اجتماع المذاهب واختلاطها بعضها ببعض. وانتهى الأمر بهذا الخليط الديني إلى تطلب اله واحد لهذا العالم الموحد , ولكن الفرق العرقي والطبيعي والطبقي بقي قائما” بين هذه الشعوب فنقضه بولس الرسول بقوله : ليس يوناني ولا يهودي , ليس ختانٌ ولا قَلف , ليس ذكر ولا أنثى , ليس عبد ولا حر , الكل في المسيح واحد.
دور الحضارة الرومانية
ثم يأتي دور الحضارة الرومانية وما ساعد على وحدة هذه الإمبراطورية العالمية القوية من التنظيم ووحدة الإدارة, ووحدة الشرائع, وتوحيد العبادة التي ألغت التعصب الديني. ووحدة النقود والعملات والأوزان والقياسات والمكاييل.
وتوحيد التقاليد والعادات وشبكة الاتصال في الطرق البرية والبحرية, والمراكب الإسكندرية, وتنظيم التوقيت وضبطه في السنة واليوم والساعة.
ثم تولد في الحضارة الرومانية الشعور بالسعادة المادية والراحة النفسية والطمأنينة بسبب السلم الروماني ( Peace Romana ) , والحياة الاجتماعية , وفسح المجال للتعليم المسيحي الجديد عن الفقراء والأغنياء والعبيد والعمال.
دور اليهود
ثم يجيء عامل الدور اليهودي من ( 722 ق.م ـ 41 ب.م ) فيه عامل السبي البابلي والآشوري إلى نينوى والكلداني والسيادة الفارسية والاحتلال اليوناني والروماني , وتشتت اليهود والتبشير اليهودي , وتشكل الجاليات اليهودية في العالم والتي كانت تتكلم اللغة اليونانية , وتسمي أسماء يونانية. ونقل التوراة إلى اليونانية على يد البطالسة بالترجمة السبعينية , وإعادة بناء الهيكل , والأعياد الكبرى التي كانت تجمع من كل الجهات المتكلمين باليونانية والرومانية. كما يدخل في ذلك عامل اضمحلال اليهودية وازدياد شوق اليهود إلى المُخلص الذي وعد بمجيئه الأنبياء حتى أنهم حددوا زمان مجيئه.
ومن اللازم ملاحظته أن العناية الإلهية التي أشركت كل شعب في مخطط الخلاص لم تهمل اليهود بالدرجة الأولى. فقد أيقظت منذ زمن بعيد ضمائر شخصيات كبيرة منهم ليفحصوا من جديد قضية صلب يسوع وتحقق وقوع هذا الصلب.
ففي حزيران 1931 علم العالم بأنه انعقدت في القدس محكمة من قضاة اليهود البارزين برئاسة ذروس فليرل. وبعد ادعاء المدعي العام الذي دام أربع ساعات , ودفاع دام خمس ساعات ومذاكرة طويلة , حكمت المحكمة بأكثرية أربعة ضد واحد من القضاة بأن يسوع صلب وكان بريئا”.
أيها الأخوة الأعزاء
ملء الزمان ظهر في وحدانية الله من خلال الآلهة المتعددة في الشعوب البدائية حيث يسمى الله مانا القدرة الفائقة , والإيمان بالكائن العلى في شعوب افريقية
الغربية والوسطى والجنوبية وفي استراليا وزيلاندا , الإيمان برنيو حمو القديم خالق العالم وحاكمه. ومن هنا تظهر لنا سهولة تبشير هذه الأمم التي تحتاج إلى أمثال بولس الرسول حتى ترتد إلى المسيح. وهكذا الأمر في أمريكا قبل كولمبس , حيث كان يعبد الإله الأعلى , وهو الشمس العظيمة خالق الناس الأولين , أبناء الشمس. وكذلك الأمر في شعوب الصين حيث عبادة الكاوثيوس وهو الإله الكائن الحقيقي. وكونفوشيوس كان موحدا”. وكذلك الحال عند شعوب المنغول وسائر شعوب آسيا كما يستنتج ماكس ميلر. وفي اليابان أيضا” الإله كامي الكائن الأعلى.
أما المصريون فكانوا موحدين في عبادة الإله الوحيد الذي ليس له اسم في الأصل. وكانت عندهم طبقات الحكماء والكهان , كما كان عندهم اللاهوت السري. ويذكرهم اقليمس الاسكندري في كتابه ( الألحفة ). ومنذ الألف الثالث قبل المسيح كان اللاهوت الكهنوتي في ممفيس , وكانت محاولة لصياغة اللاهوت حول الإله
الأول الذي لا يستطيع رؤية وجهه إنسان, ولذلك لا يكشف ذاته للبشر المائتين,
ولا يستطيع رؤية وجهه إنسان. وقد حفظت لنا الأناشيد والتسابيح الرائعة باسمه. ثم سموه فيما بعد امون راع. وحين يصفونه ينفون عنه الصفات والأسماء.
وكذلك البابليون , وإلههم مردوخ ( مرزوق مردك ) ابن الشمس , فوق الملوك ورب الأرباب.
والآشوريون وإلههم الواحد اسواداكور الرب العظيم وملك الآلهة والأرض بأسرها.
والكنعانيون وإلههم الواحد سيذيع الذي صاد البعل , والآراميون وإلههم الواحد ادونيس الرب ( وهو الاسم الذي اتخذه العبرانيون لتسمية الله ادوفاي السيد الرب. والعرب وإلههم الواحد الله من فعل لاة : أي خلق فالله هوالخالق.
ثم الهنود وإلههم اهور امزدا بحسب ترتيب زردشت اعني الرب الكلي الصلاح والحكمة.
وعند اليونان القدماء زفس أبو الآلهة والبشر رمز الإله الواحد. ومنه اشتق اسم تيوس داي دبي.
أما الرومان فقد اشتقوا اسم جوبتر من تيوس بأثير الله الأب زفس وعلى الجملة فإن شعور التوحيد القوي من خلال تعدد الآلهة يعود إلى الاينوثهيزم أي التوحيد. وهو مصطلح يرجع إلى أبي علم الديانات ماكس ميلر الذي يعتبر بالنتيجة أن كل رجل يصلي , في هذه الديانات إنما يتوجه ذهنه في ساعة الصلاة إلى اله واحد فقط لا غير مجمعا” فكره فيه , وموجها” انتباهه إليه وحده تاركا” في زاوية النسيان آلهة الآخرين. وهكذا فإن الإنسان ينفذ من عبادة كثرة الآلهة إلى عبادة الإله الواحد دون أن يعرفه وهو يحن إليه وإلى الخلاص بواسطته.
وهكذا اجتاز الإنسان الدائرة من الواحد بواسطة الكثيرين نحو الواحد.
وهو رجاء الأمم
وأخيرا”, بعد أن استقطب العالم شعور عالمي بضرورة كون الإله واحدا”, وبشريعة التوحيد, يستقطب العالم أيضا” شعور بضرورة كون الإله واحدا” وبضرورة تجسد هذا الإله المخلص, والعيش على رجاء وتوقع مجيئه كأن العالم كله أصبح شعبا” واحدا” موعود. إذن هناك رجاء عالمي شامل ينتظر تجسد هذا الإله الواحد الأعلى الذي تفتش عليه الإنسانية أحقابا” متطاولة وتحن إليه كحل وحيد للمأساة الإنسانية الشاملة أعني الانفصال بين الله والإنسان ;
وهناك مظاهر تعبيرية تمثل رجاء هذا التجسد الإلهي عند أغلبية الأمم. فهذا الإله المنتظر هو عند الصينيين القديس الذي سيأتي من الغرب.
وكان كونفوشيوس ينتظر مجيئه حين قال : سيأتي اله متجسد , وسيخلص كل الإنسانية , وهو الإله الملك.
وفي بابل كان يسود الاعتقاد بأنه سيظهر من الغرب ملك عظيم يسود كل الدنيا بالعدل والسلام والمسرة.
أما عند الشعوب الآرية, فالنظرة إلى الإله تختلف عن نظرة البابليين والساميين الذين يسود عندهم الاعتقاد الشعور بالخوف من الله والإلهيات.
أما الشعوب الآرية فيظهرون بوضوح الاتصال بالله والدالة عنده, فهم شعوب تجسديه إذا جاز التعبير. وعندهم حنين لا يصمت وتوقع شخص تاريخي مخلص في اله متأنس.
وأما الهنود فكانوا يرجون الخلاص من مخلص حقيقي يخلص العالم , وسيخطف من الجحيم ربوات الخطأة. ويتساءلون متى يولد المخلص ؟
وفي البوذية , في المهافانا : الطريق الكبير , وهو المخلص الكبير الذي سيكشف للناس عن الحقائق الكبرى , وسينشر السلام بين الناس. ولذلك كان بوذا يوصي بحفظ الصوم والعمل الصالح وكان يقول : إذا كنتم وأنتم في هذه الحياة تهيئون العمل الصالح , فسينزع منكم الحزن في الآخرة.
والإيرانيون كانوا كذلك ينتظرون تجسد الإله مساوينه باسم ميتزا عندما يأتي في ملء الزمان. وسيولد من عذراء قديسة ويسبق ولادته ظهور نجم. سيظهر في العالم ويقيم أجساد الأموات. وسيمارس الدينونة العامة مكافئا” ومعاقبا”.
وعند قدماء اليونان كان الاعتقاد بأن الآلهة تتشبه وتتجسد. ولما تقابل داريوس مع الاسكندر هم بالسجود له ظانا” أنه منحدر من الأوليمب. ويشهد بهذا المبدأ ما جرى لبولس وبرنابا في ليسترا بعد إبراء بولس المقعد من جوف أمه إذ يقول كاتب أعمال الرسل : «لما رأى الجموع ما فعل بولس رفعوا أصواتهم بلهجة ليكافئوه قائلين : « ان الآلهة تشبهت بالبشر ونزلت إلينا ».
وعند اشيل الشاعر في بروميثيوس المقيد على الصخرة , كان يقول بروميثيوس على لسانه : سيأتي مخلص ليخلصني , وسيولد من فتاة عذراء وهوابن الله واله متجسد. وكان اشيل يقول لبروميثيوس : يجب أن ينتظر نهاية آلامه على يد اله سيتقبل الاستشهاد وسينزل إلى الجحيم المظلمة وإلى أعماق طرطروس المعتمة صائرا” ضحية فدائية للخلاص.
وأما سقراط فعنده أن نزول الله قريبا” إلى الناس بشكل إنسان هو أمر من الضرورة بحيث يجب أن يتوقع بكل تأكيد. وهذا الإله سيتألم ويصلب فداء” عن البشر.
وعند الرومان فقد ذكر شيشرون أنه ورد في حكم اشبيلية مجيء ملك ينتظره الراغبون في الخلاص. وكان يتوقع عصرا” يسود فيه معلم وسيد هو الإله, ويتساءل قائلا”: عن أي إنسان, وفي أي زمان ومكان, من هو هذا الإنسان ؟
والجواب على هذا السؤال نطق به بيلاطس لما أرى يسوع للجموع
وقال : هذا هو الإنسان .
أما فرجيل سيد شعراء الرومان فيذكر في المختارة الرابعة من مختاراته قرب تحقق أحكام كيميا اشبيليا ويقول ما يأتي : لقد حل العصر الأخير من حكم كيميا… هوا ذا الزمان الملوكي قد أتى , وستلد العذراء طفلا” سيكون ملكا” لجيل جديد سعيد ,
وسيحرر المسكونة من الخوف الدائم , وستقدم المسكونة للطفل المولود هدايا من اللبان النابت من غير فلاحة. فتعال إذن يا ابن الله , يا ابنا” عظيما للعلي. ألق بنظرك إلى الإنسانية الرازحة تحت ثقل الشتاء ! ألق نظرك إلى الأرض كلها !
اطلع ان المسكون كلها تئن وتتمخض مشتاقة إلى عصرك الذهبي حتى تبلغه. وبعد هذا يتمنى الشاعر فرجيل لنفسه لو يبقى حيا” ليحتفل بتلك الأحداث الجميلة.
وينتهي إلى مخاطبة الطفل الإلهي الذي ينظر في رؤيا ابتسامته الحلوة لأمه العذراء التي تحمله على ذراعيها, وكأنه ينظر في رؤيا نبوية الطفل الإلهي يسوع الحقيقي تحتضنه والدة الإله في أيقونتنا الحاضرة.
ومن الجدير بالذكر أن الملك والقديس قسطنطين الكبير استشهد في خطابه الذي وجهه إلى مجمع القديسين ( أي آباء المجمع المسكوني الأول في نيقية ) استشهد بالمختارة الرابعة من مختارات فرجيل في ترجمة يونانية , استشهد بها كقول وعدي وفسرها تفسيرا” نبويا” مسيحيا”. وقد تقبل وجدان الكنيسة المسيحية الأولى هذا القول لفرجيل كنبوة عن ربنا ومخلصنا يسوع المسيح.
والرجاء والتوقعات تلتقي في فلسطين في مدينة رجاء الأمم ( القدس أورشليم ) والغريب أن شعوب الغرب والمتوسط كانت تنتظر ظهور الإله المتأنس المخلص من الشرق. أما شعوب الشرق فكانت تتوقع ظهوره من الغرب.
اخبر فولتير قائلا” : إنه منذ أزمان بعيدة وجد عند الهنود والصينيين تقليد يقول : إن الحكيم ( كذا ) سيأتي من الغرب وعلى العكس فإن أوروبا كانت تعتقد انه سيأتي من الشرق , وفي قول آخر أن هذا الإله الأعظم المخلص والملك سيظهر لكل شعوب أوروبا وأميركا من الشرق , ولكل شعوب الصين والهند من الغرب يعني بالضرورة أن مجيئه سيكون من ذلك المكان من الكرة الأرضية المكان الذي جاء منه المسيح.
فإلى شخص يسوع المسيح اتجهت كل الأمم والشعوب متلاقية ومتحدة في التحقق العام , إن هذا هو المنتظر , التقى فيه الرجاء اليهودي الموعود ورجاء كل الأمم بالإله الإنسان : الإيمان الهلليني باله سيد الكون , والإيمان الروماني بأن الإله الأبدي يكشف عن ذاته على الأرض , التقيا مع المفهوم الروماني واليوناني عن القيصر الإمبراطور كملك مخلص ومحسن.
كل هذه التوقعات والمفاهيم هيأت المسكونة للمسيح. وظهوره جاء الجواب الشافي لطلب البشرية وجلاء الحنين الخلاصي المسكوني. وكان حال الإنسانية قبيل الحدث العظيم يشبه برعم الزهر المتفتح المستعد أن يقبل اللقاح المحيي.
تهيأت حتى الكلمات والمصطلحات أيضا”. كانت هذه المصطلحات واردة” قبلاً , وكلنها جوفاء المحتوى والمعنى , فاتخذت بالرب يسوع مضموناً كاملاً , ومعنى ً لم يكن من الممكن التعبير عنه إلا بكلمات موجودة قبلا اتخذت معنى جديدا ً.
الإمبراطور كان يدعى ” ابن الله “. وعبادة صورة الله البولسية هي هللينية المصدر.
” ومخلص ” مصطلح دعي به في العصر الهلليني زفس وأثينا واسكليبيوس وابولُسن وايركليس في الإخطار البحرية , كما دعي به خلفاء الاسكندر. ولقب
” ملك الملوك ورب الأرباب ” الذي يستعمله بولس الرسول كان موجودا” عند الشعوب الشرقية وكلمات الليتورجيا…
ولما تم الحدث العظيم بشّر الملائكة الرعاة بذلك ومجدوا ظهوره لمسرة البشر.
وجاء مجوس وسجدوا له ممثلين رجاء البشرية كلها فيه. ثم يأتي دور سمعان الشيخ ممثلا ً كل المسكون أيضا ً : لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته نورا ً للوثنيين معلنا ً, وقبله على ذراعيه كأن المسكونة كلها قبلته , وقامت حنة بنت فنوئيل تسبح الرب وتفصح عن تحقق أملها وآمال كل المتوقعين الخلاص في أورشليم. وجالس المسيح الحكماء وعلماء الناموس , وهو ابن اثنتي عشرة سنة حتى دهشوا وقالوا : من أين لهذا هذه الحكمة والقوات ؟ هذا وإلى أن يعلن يوحنا السابق : وأنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله. ويعترف يوحنا الحبيب الإنجيلي باسم البشرية جمعاء قائلا ً : الذي كان منذ البدء الذي سمعناه ورأيناه بأعيننا ولامسته أيدينا.
رجاء الأمم يصير واقعا ً تاريخيا ً
وليس عبثا ً قول بولس الرسول : أما المولود فإله , وأما الأم فعذراء. فهل شهدت الخليقة أمرا ً جديدا ً كهذا ؟
وأخيرا ً أيها الأخوة هو ذا نحن أمام الحدث العظيم حدث التجسد الإلهي الذي قدمنا له هذه الدراسة العلمية ملخصة من كتاب ضخم في هذا الباب , دراسة ينتفي بها ومعها أي شك حتى يسطع الحق بالبرهان ويلتزم كل متبرم متباعد متشكك بالحقائق المبرهنة يلتزم بها , لا أن يكون شكه وتساؤله مجرد فضول وجهل وطاقات حية تريدان أن تتفجر ليحل فيها الفراغ. وقديما ً قيل: تعلّم قبل أن تتكلم.