التجسد والكنيسة
تقول كنيستنا المقدّسة في تراتيل برامون عيد ميلاد المسيح: “لقد ولدت أيها المخلص متنكراً في مغارة. إلا أنّ السماء كرزت بك للجميع، إذ جعلت النجم في منزلة فم لها… “. إن سرّ التقوى العظيم وهو مجيء الله بالجسد كان سرّاً بمعنى الكلمة.
كانت السموات تبشّر بولادة الربّ على الأرض ولكن هذه العظة كانت صامتة مهيبة لأن النجم هو الذي تكلّم. والحدث الذي يحتفل به اليوم كل العالم المسيحي كان قد مضى في وقته دون أن يلاحظه كثيرون. هل كان يعرف العالم اليوناني الروماني أو هل كان يشعر العالم اليهودي بأنه في مغارة متواضعة في بيت لحم تجسّد الإله نفسه واتّحد بالطبيعة البشرية بلا انقسام أو تحوّل أو انفصال أو اختلاط وهل انتبهت البشرية بسرعة إلى أعظم حدث في تاريخها؟ كان لا بدّ من أن تمضي عقود بل مئات السنين حتى يبدأ المفكّرون الكبار يتأملون في سرّ التجسّد وأهمّيته بالنسبة للبشرية.
لا نعرف شيئاً عن الطفولة المقدّسة للطفل الإله، ولا نجد محاولة لملأ فراغ السنوات الثلاثين إلا في الأناجيل المنحولة التي تحاول أن تملأها بالمعجزات. وتتبيّن العزّة الإلهية للطفل يسوع من خلال الأحداث التي تذكرها الأبوكريفا بينما الأناجيل القانونية لا تتناول هذا الموضوع.
بل على العكس نجد الأناجيل كأنها تسعى إلى إخفاء لاهوت المسيح. كان المسيح على الأرض إلهاً متخفياً، وكان يطلب عدم البوح بمعجزاته، ولم يقل مباشرة عن نفسه إنه هو الله.
تمّ سرّ التجسد في المغارة، وخرجت البشارة…. وجمع المسيح صيادي الناس الذين تركوا شباك الصيد وألقوا شباك الإنجيل في بحر البشرية. أما لاهوت معلّمهم فكان بالنسبة لهم لا يزال غير مدرك في دائرة الحسّ، فإن تجسد الله وأهمّيته كان حتى ذلك الوقت سرّاً.
ولكن ها هي المرة الأولى التي يتحدث فيها المسيح مع تلاميذه حول التجسّد ويشير إلى نتائجه. أين كان ذلك؟ بعيداً عن الناس وعن المدن في أقصى شمال أرض الميعاد في نواحي قيصرية فيلبس حيث كان المسيح مع تلاميذه وحدهم. وسألهم بطريقة غير مباشرة: “من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان”، أي المسيح نفسه؟ وقد دعا نفسه ابن الإنسان مشيراً إلى رغبته في اعتراف الناس بتجسّده. فأجاب التلاميذ: “يوحنا المعمدان، إيليا، إرميا، أو أحد الأنبياء”. ولكن ليس هذا ما يريد الرب أن يسمعه من أقرب أتباعه فيسأل: “وأنتم، من تقولون إني أنا؟” أي أنّ رأيكم لا بدّ أن يكون أسمى من رأي الآخرين. فأسرع بطرس بالإجابة قبل غيره: “أنت هو المسيح، ابن الله الحيّ” (مت 16: 13-16).
ما الذي قاله بطرس؟ لقد اعترف بتجسّد ابن الله. عبّر بطرس عن نفس الشيء الذي كتبه لاحقاً في إنجيله الروحانيّ يوحنا عندما حلّق عقله مثل النسر فوق عالم الخليقة المنظورة: “والكلمة صار جسداً وحلّ بيننا” (يو 1: 14)، مع أنّ مجد الكلمة وعزّته وطبيعته كان مجد المولود من الآب. إنّ السرّ العظيم قبل أن يصبح متعارفاً عليه ومعترفاً به كان قد تم الاعتراف به من فم بطرس نيابة عن جميع الرسل. أما الكلام : “أنت المسيح ابن الله” (لو 4: 41) فيدلّ على اتحاد الطبيعتين الذي حققه ابن الله من أجل خلاصنا. إن اعتراف بطرس تكمن فيه بذرة الخريستولوجيا الكنسية اللاحقة. كان كثير من اللاهوتيين البارزين يشرحون التعليم الخريستولوجي عن عمق، ولكن الحقيقة الخريستولوجية كان قد تم التعبير عنها باختصار وبدقّة فائقة قبل مجمع خلقدونية بوقت طويل عندما اجتمع الرسل حول المسيح في نواحي قيصرية فيلبس.
وهذه الحقيقة العظيمة لم يعلنها للرسول بطرس اللحم والدم بحسب قول المسيح. إن اللحم والدم اليهودي لم يكن يقبل مفهوم التجسّد: “لسنا نرجمك لأجل عمل حسن، بل لأجل تجديف، فإنّك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً” (يو 10: 33). ومزّق رئيس الكهنة ثيابه وقال: “قد جدّف! ها قد سمعتم تجديفه! ماذا ترون؟ فأجابوا وقالوا: إنه مستوجب الموت” (مت 26: 65-66). ويقول اليهودي في الحوار مع يوستينوس: “كلّنا نتوقّع أن المسيا سيكون بشراً من البشر”. وخلال فترة طويلة كانت هرطقات خريستولوجية تأتي من طرف المسيحيين من اليهود. كان القدّيس إيريناوس أسقف ليون يشكو من أنّ الأبيونيين لا يقبلون في نفوسهم بالإيمان اتحاد الله والإنسان”. كان هناك تعليم شائع حول اللوجوس في العالم القديم ولكن هذا العالم لم يستطع أن يقول إن الكلمة صار جسداً. اليهودي كان ربوبيّاً، أما اليوناني فكان وهو يتأمل في موضوع اللوجوس يميل إلى وحدة الوجود. وحتى المدرسة اللاهوتية للإسكندرية لم تتجنب طرفيْ النقيض هذين. وقد بدأ عصر جديد للتعليم حول اللوجوس، وخضعت الفلسفة لعلم اللاهوت، وأصبح اللوجوس المتجسد يسكن في العالم وفي البشر.
ولكن جواب المسيح لم يقتصر على ذلك، بل أشار هو نفسه إلى الأهمية التي سيكتسبها بالنسبة للبشرية تجسّد ابن الله: “وأنا أقول لك أيضاً: أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي” (مت 16: 18). إنّ اسمك هو الصخرة، والتجسّد الذي قد اعترفتَ به يكون صخرة أيضاً تُبنى عليها كنيستي. كان إشعيا وداود قد تنبّآ عن الصخرة، ولذلك كان من السهل على الرسل أن يفهموا كلام المسيح في ضوء هذه النبوءات. وقد استوعب الرسل كلامه جيداً وكان الرسول بطرس وبعده بولس يطلقان على المسيح نفسه حجراً، فإنّ المسيح هو الحجر الذي بُنيت عليه الكنيسة.
ولكن ماذا يعني بناء الكنيسة على المسيح؟ يقول كثير من الآباء القديسين إن الكنيسة مبنية على اعتراف بطرس وإيمان بطرس. فما معنى ذلك؟ كيف يمكن إنشاء شيء على أساس الاعتراف النظري لحقيقةٍ ما؟ وخاصة إذا كان يتم إنشاء حياة جديدة للبشرية وإنشاء بشرية جديدة نفسها. لا يمكن إنشاء حياة جديدة وخليقة جديدة بناء على أساس الحقيقة النظرية. إن المسيح هو أساس الكنيسة بالمعنى الذي اعترف به الرسول بطرس، وكان قد اعترف بتجسّد ابن الله. فأصبح ابن الله المتجسد أساساً للكنيسة. يمكن اعتبار اعتراف بطرس أساساً للكنيسة انطلاقاً من معناه الواقعي كونه يحتوي على الاعتراف بحقيقة تجسّد الله. ليس فكرة التجسّد بل التجسّد نفسه يشكّل أساس الكنيسة. فبالتالي يمكن اعتبار الكنيسة كأنها استمرار مباشر للتجسّد، كما يمكن اعتبار المبنى اسمراراً للقاعدة. كان هرماس (صاحب كتاب “الراعي”) يرى الكنيسة في صورة برج يُبنى. كانت بعض الحجارة فيه ملتصقة ببعضها البعض إلى درجة أنه لم يكن من الممكن ملاحظة الحد بينها، وكان يبدو أن البرج مبني من حجر واحد. وفور دخول كل حجر في هيكل البرج أصبح يلمع ويتغيّر شكله الطبيعي. فهكذا الكنيسة بحسب بولس الرسول هي خليقة جديدة.
ولكن يمكن مقارنة الخليقة الجديدة بالخليقة القديمة من بعض النواحي. كان الله قد أخذ من طين الأرض وخلق الإنسان منه. كان هذا الإنسان طيناً وسقط في الطين رغم أنه كان قد خُلق لعدم الفساد. كان البشر يحملون صورة آدم العتيق. ولكن في سرّ التجسّد يتم أخذ الطين من جديد أي أخذ الجسد من الطبيعة البشرية وإن كانت من البتول الفائقة الطهارة، ويُخلق إنسان جديد إذ أنّ البشر قد أصبحوا شركاء في الطبيعة الإلهية. كان الله قد نفخ في أنف الإنسان نسمة الحياة فصار آدم نفساً حيّة. أما في الخليقة الجديدة فنجد أيضاً نفخاً إلهياً يرافقه قول الرب: “اقبلوا الروح القدس” (يو 20: 22)، فبهبوب ريح عاصفة (أع 2: 2) امتلأ الجميع من الروح القدس. أصبح آدم الجديد روحاً محيياً. قد مضت الخليقة القديمة وجاءت الخليقة الجديدة. قد تمّ التخلّي عن نمط حياة الإنسان العتيق فلبس الإنسان آدم الجديد المخلوق على صورة الله في برّه وقداسة حقيقته. إن تجسّد ابن الله قد وضع أساساً للتجلّي التدريجي للطبيعة البشرية، أما الحياة الكنسية فتستمرّ وتكتمل هذه العملية فيها. وبالتالي يرتبط التجسّد والكنيسة ارتباطاً لا ينفصم. “إن الكلمة الذي كان عند الله والذي كان الله نفسه والذي في الأيام الأخيرة صار جسداً بمحبّته للبشر وشاركنا ذلّ طبيعتنا، اتّحد مع الإنسان من خلال طبيعته وتقبّل طبيعتنا فيه ليتأله كل ما هو بشريّ من خلال اتحاده باللاهوت ولتتقدّس طبيعتنا”.
يسمّي كل من القديس يوحنا الدمشقي ونيلوس كاباسيلاس رئيس أساقفة تسالونيكي اعتراف بطرس باللاهوت. كما أنه يمكن تسمية جواب الرب يسوع المسيح لبطرس لاهوتاً سامياً ذا معنى عميق. إنّ اعتراف بطرس وجواب المسيح إذا تناولناهما في ارتباطهما التام ببعضهما البعض يشكّلان نظاماً متكاملاً للاهوت المسيحي. ويجمع هذا النظام بصورة منطقية بين التعليم حول لاهوت المسيح (الخريستولوجيا) والتعليم حول الخلاص (السوتيريولوجيا) والتعليم حول الكنيسة (الإكليسيولوجيا). إن التجسّد وضع أساساً للخلاص، وعلى أساس التجسّد تُبنى الكنيسة والخليقة الجديدة التي تشفى من فساد الخطيئة بعمل النعمة وتنتهي إلى قياس قامة ملء المسيح.
يطبّق الكاثوليك مفهوم الصخرة على الرسول بطرس نفسه وهم يحاولون تبرير عقيدة أولية أسقف روما في الكنيسة وعصمته بكلام المسيح، ويجادلهم اللاهوتيون الأرثوذكس حول طريقة تفسير كلام المسيح هذا. إن الشعور الديني الذي جوهره ومثاله الأعلى هو الخلاص والتألّه يرفض التفسير الكاثوليكي لأن هذا التفسير يتناول أسمى الأسرار الإلهية على أساس مبدأ البيع والشراء. ما لا يمكن قبوله أبداً هو سخافة الفكر اللاهوتي الكاثوليكي. قد كتب مؤرّخ الكنيسة يوسابيوس القيصري أنّ الإبيونيين سُميوا بهذا الاسم بسبب ضآلتهم العقلية لأن هذا الاسم معناه عند اليهود “فقير”. أما القديس إبيفانيوس القبرصي فيقول إن الذي يعترف بأن المسيح إنسان فحسب فهو فقير العقل وفقير الأمل وفقير الفعل. إن الكاثوليك هم الإبيونيون لعصرنا، ويتبيّن فقرهم الفكري من خلال تفسيرهم لجواب المسيح على أنه منح بطرس وجميع خلفائه الأولية في الكنيسة على كرسي أسقف روما. إنهم لا يريدون أن يروا إلا التركيب الكنسي والنظام الخارجي والتبعية حيث يرى العقل الأرثوذكسي الأسرار اللاهوتية العميقة المتعلقة باتحاد المسيح بالكنيسة.
ولكن علم اللاهوت عندنا لا يخلو أيضاً من فهم الكنيسة من الناحية الظاهرية. تُعتبر الكنيسة مؤسسة بشرية، ولا تدخل صلتها الميستيكية بسرّ التجسّد في دائرة النقاشات اللاهوتية. ومع ذلك فإن من يصغي بانتباه في عيد ميلاد المسيح إلى التراتيل الكنسية يفهم أين تجد الكنيسة عربون حياتها وبداية خلاص أعضائها. فإنه في هذا اليوم بالذات يتحقق سرّ عجيب حيث تتجدد الخليقة ويصبح الله إنساناً. قد ألّه ابن الله البشر المخلوق من التراب من خلال اتحاده بالطبيعة البشرية في تجسّده. وإننا نسمع في تراتيل الميلاد صدى اللاهوت الذي قد ذكرناه. بحسب قول الكنيسة، فإنه في قدّاس عيد الميلاد يتمّ تقديم “ما هو أفضل من الجزية المالية، أعني الأقوال اللاهوتية المستقيمة الرأي”إلى المسيح المولود الذي هو الله ومخلّص نفوسنا. ويكمن غنى هذا اللاهوت الأرثوذكسي في الحقائق العظيمة التي عُبّر عنها أثناء حديث الرب مع تلاميذه في قيصرية فيلبس. بحسب اللاهوت الأرثوذكسي فإن بداية خلاص الطبيعة البشرية وبداية الحياة الكنسية ترجع إلى حدث التجسّد وتأنّس الأقنوم الثاني للثالوث القدّوس. وبالتالي يرجع المضمون اللاهوتي لقدّاس عيد الميلاد إلى ذلك اليوم الذي كان فيه الرب مع تلاميذه بعيداً عن الناس في شمال فلسطين.
وُلد المسيح من العذراء الفائقة الطهارة في جنوب الأرض المقدسة بصفة سرّية، وأُعطي في شمال هذه الأرض التحديد اللاهوتي لأهمية هذه الولادة بصفة سرّية أيضاً. وفيما بعد استمرّت النقاشات اللاهوتية حول سرّ التجسّد على مدى قرون، فمن من رجال اللاهوت ليس له كلمة حول تجسّد الرب؟ حتى الميادين والأسواق كانت تدور فيها الجدالات حول هذا السر. إن سرّ التجسد يجذب البشرية لأنه لولاه لما بقي للبشرية إلا فساد الأهواء بلا تعزية وأبواب الجحيم المظلمة. إننا نمجّد تجسّد المسيح لأنه مهما أحببنا طبيعتنا الفاسدة فمع ذلك نتشوّق إلى أن نجد التعزية في التجديد.
القديس الشهيد في الكهنة هيلاريون تروئيتسكي