التسّجد والاتضاع
اليوم وفي خضم البرود الروحي الذي يعيشه المجتمع المسيحي نحو كنيسة الله فبالكاد يستطيع البعض أن يفهموا بشكل كامل كيف تحتفل الكنيسة بتذكار “تجسّد ربنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح”. ربّما خاصية واحدة فقط لم تُهمل ألا وهي كطفاسيات الميلاد “المسيح ولد فمجّدوه…” التي تبدأ الكنيسة بترتيلها قبل أكثر من شهر من الميلاد. ولكن الكنيسة تكرّس أسابيع كاملة للتحضير للعيد.
قد لا نلاحظ في كنائس الرعايا موعد اقتراب هذا العيد العظيم لأن نظام الخدم الإلهية في هذه الكنائس قد فقد كل جماله ومحتواه اللاهوتي العميق، فالعيد هنا يأتي دفعة واحدة تقريباً. كما أن اقتراب هذا العيد يظهر في حياة العلمانيين من خلال ازدياد انشغالاتهم وترتيباتهم فقط. إن البيئة الحقيقية للحياة الكنسية لا نلمسها حالياً إلا في الأديرة وبالأخصّ في اللافرات حيث يتمّ الالتزام بكافة القوانين ولا يُفرّط بستيشيرة واحدة، بل تُسمع هذه التراتيل الكنسية (في لافرا كييف مثلاً) وتصدح جهاراً في قباب الكنائس وتملأ بمحتواها عقول الحاضرين. لذلك فإن وعي المؤمنين هناك يرتفع عن الأرضيات ليس قبل ساعات أو يوم من موعد العيد كما في كنائس الرعايا وإنما قبل العيد بوقت طويل ويبقى محلّقاً في الأجواء الروحية وفي البهجة الروحية أسبوعاً كاملاً تقريباً.
إن احتفال الكنيسة بعيد الميلاد لا يضاهيه سوى الاحتفال بعيد الفصح، ولكن خدمة الميلاد قد تفوق خدمة الفصح من بعض النواحي لأنها تحمل في طيّاتها طابعاً مميّزاً. خدمة الفصح هي عبارة عن ترنيمة كنسية احتفالية مُبهحة ومُفرحة للرب القائم من الأموات. أمّا خدمة الميلاد فهي عبارة عن جو لاهوتي خاصّ، ففي كل كتب الخدم الكنسية لن تجد خدمة أخرى تزخر بمحتوى لاهوتي أكثر من خدمة الميلاد. ففيها ومن خلال عبارات قصيرة ولكن قوية تكمن الفكرة الأساسية للمسيحية وهي تجديد الطبيعة البشرية القابلة للفساد بتجسّد ابن الله.
هنا على سبيل المثال هذا الإرمس الذي لا مثيل له من قانون عشية تقدمة عيد الميلاد والذي للأسف هو مجهول اليوم في كنائس الرعايا: “لا تنذهلي الآن يا أمّي عند مشاهدتك إياي طفلاً، أنا الذي ولده الآب من البطن قبل كوكب الصبح. فإني إنما أتيت لا مَراءَ، لكي أبعث وأمجّد معي طبيعة البشر الساقطة، فتعظمّك بإيمانٍ ولهفةٍ”.
كما في هذه الكلمات القصيرة هكذا أيضاً في كل خدمة الميلاد تتكشّف لنا الفكرة الأساسية للمسيحية التي يتوجب أن يخرج منها كل اللاهوت المسيحي. إن فكرة التجسّد الإلهي من أجل تجديد الطبيعة البشرية الساقطة لم تشغل في مناهج المدارس الإكليريكية حيّزاً يليق بعظمتها ولكن هذه الفكرة كانت هي أساس كل شيء في تعاليم الآباء العظام ومعلّمي الكنيسة. انظروا على سبيل المثال مقالة القديس أثناسيوس الكبير “حول تجسّد الإله الكلمة وحضوره إلينا بالجسد”. هذه الفكرة عاشتها الكنيسة القديمة بتوتر أكثر ممّا تعيشها كنيستنا اليوم، لقد جاهدت الكنيسة القديمة من أجل هذه الفكرة وعانت الكثير من أجلها وكانت تعلن الخونة أناثيما من أجلها.
لكن في الوعي الديني الحديث هذه الفكرة هبطت من مكانها الذي كانت تشغله في السابق وفي بعض الأحيان هذه الفكرة الأساسية للوعي الديني الحقيقي تختفي بالكامل. فهل يقدر الكثيرون الآن أن يقولوا مع القديس باسيليوس الكبير: “لا أستطيع ان أسجد للمخلوقات لأني أنا نفسي مدعو لأن أصبح إلهاً!”؟ إنكار التجسّد هو إنكار العزّة الإلهية للرب يسوع المسيح وهو أمر لا يمكن تصوّره من قِبل عضو الكنيسة، وكل مُنكر يسقط من الكنيسة. ” من هو الكذاب، إلا الذي ينكر أن يسوع هو المسيح؟ هذا هو ضدّ المسيح، الذي ينكر الآب والابن” (1يو 2: 22).
هذه الكلمات للاهوتي الأوّل الذي اتّكأ في حضن ابن الله المتجسّد، يجب ترديدها أكثر وأكثر في وقتنا الحالي عندما يتحدّث الناس كثيراً عن الإنجيل وعن تعاليم المسيح ولكنهم لا يريدون أن يعرفوه كإبن الله الوحيد المتجسّد. يتحدثون عن المسيح كما عن إنسان عظيم أو عن معلّم عظيم ويظنون بأن هذا كافٍ جداً، والباقي لا يهمّ، ومن الممكن أن تكون مسيحياً بدون الأمور الأخرى. فليعرفوا كلمات ابن الرعد هذه، بأن كل إنكار للتجسّد يجعل من الإنسان “ضدّ المسيح” وأكبر كذاب.
بالإنصات لنبض التديّن المعاصر نلاحظ بأن “ضد المسيح” يملك ويسيطر على الوعي الديني. وفي الفترة الأخيرة انطلقت موجات عاتية من النظريات العلمية نحو الصخرة التي تقوم عليها الكنيسة. في مجال علم العهد الجديد ظهرت في الفترة الأخيرة على وجه الخصوص نظريات وأفكار كثيرة جديدة ومتجدّدة وذلك نتيجة للدراسات المقارنة للأديان.
إن الاكتشافات العظيمة الجديدة تعمل على توسيع معرفتنا بالشرق القديم، وفي إطار هذه المعرفة تبدأ مناقشة الإنجيل. منذ زمن بعيد جاء حكماء المجوس من المشرق ليسجدوا للطفل الإله-الإنسان، حاملين في كنوزهم ذهباً ولباناً ومرّاً. واليوم يأتي إلى أوروبا حكماء آخرون من نفس تلك البلاد التي أتى منها حكماء المجوس قديماً. تأتي من هناك بعثات علمية بكامل أعضائها ويحملون غنيمتهم في كنوزهم الكبيرة، ليس ذهباً ولبانا ومرّاً وإنما كُتل حجرية كبيرة أو أجزاء من الحجارة المكتوب عليها كتابات غامضة. فيقرأ العلماء هذه الكتابات الغامضة في متاحف أوروبا ويحجمون عن السجود للطفل المولود. وتنتهي الدراسات المقارنة للأديان الشرقية بنتيجة مفادها إنكار تجسّد ابن الله.
في قيصرية فيلبّس سأل المسيح تلاميذه: من يقول الناس إني أنا…ابن الإنسان؟ أجابوا: بعضهم يوحنا المعمدان وآخرون إيليا وآخرون إرميا أو واحد من الأنبياء. فقال لهم: وأنتم من تقولون إني أنا؟ فأجاب سمعان بطرس قائلاً: أنت المسيح ابن الله الحي (مت 16: 13-16). السؤال كان عن قيمة وجدارة الميسيا مخلّص العالم. كان جواب التلاميذ هذا بلسان بطرس عبارة عن الخريستولوجيا الكاملة للكنيسة. مخلص العالم هو ابن الله الوحيد المتجسّد. كانت هذه الخريستولوجيا جديدة، فلم يقدر الدم واللحم الذي للوعي الديني اليهودي على إعلان حقيقة التجسد.
لكن ماذا تقولون أنتم يا أصحاب الدراسات المعاصرة في مقارنة الأديان؟ من هو المسيح؟ فيجيبونك قائلين: نعتبره أي شخص تريد، لكنه ليس ابن الله المتجسد. هو بوذا، هو مردوخ أو أتيس أو أدونيس، هو ميترا إله المجوس، هو أحد آلهة الشرق، سمّيه كما تريد باستثناء ابن الله الحي. في الأبحاث الجديدة التي تعنى بدراسة مقارنة الأديان وبتقييم المسيح والمسيحية تجد هناك باباً تحت عنوان “يسوع قبل المسيحية”. كأنه كان من الممكن أن تظهر المسيحية بدون المسيح، وكان يكفي أن تُجمع وتُخلط وتُنقّى أساطير الشرق القديمة والتي في طياتها توجد الخطوط العريضة لشخصية المسيح. وكأن ليس المسيح من أنشأ المسيحية وإنما المسيحية هي من أنشأت شخصية المسيح. وهاكم النظريات الخرافية لكل من سميس ودريفس وينسن والتي يروّج لها بحماس “اتحاد الواحديين”* في كل أرجاء ألمانيا.
وهناك من يريد أن يثبت بأنه لم يكن في يوم من الأيام شخص على الأرض اسمه يسوع المسيح، وأن شخصية يسوع هي عبارة عن تجسيد لأسطورة شرقية. وها هما مجلدان لآرثر دريفس تحت عنوان “خرافة المسيح” وبجانبهما كومة من الكتيّبات تحت عنوان: “هل حقاً عاش يسوع؟”. لقد تُرجم كتاب دريفس إلى اللغة الروسية ولكن منذ شهر ونصف تمّت مصادرته. فذرفت الصحافة الليبرالية دموع التماسيح على اضطهاد العلم وقالوا بأنه لا يوجد خطر من هذا الكتاب، فهو كتاب علمي بحت. أجل، إنه علم بحت يمارس حملة دعائية ضدّ المسيحية وعلم أنشأه هواة عديمو الخبرة كما سمّاهم “ملك اللاهوت” الألماني أدولف غارناك الذي إلى وقت قصير مضى كانت محاضراته الليبرالية حول “جوهر المسيحية” قد أثارت ضجّة.
إن الوعي الديني للكنيسة القديمة انتفض استياءً من الأريوسية مع أن الأخيرة لم تنكر التجسّد. واليوم يظهر ما هو أسوأ من الأريوسية، وهو إنكار حقيقة حياة المسيح على الأرض، وتتباكى الصحافة في بلد أرثوذكسي قائلة: لماذا تمّت مصادرة كتاب دريفس “خرافة المسيح”! بينما الوعي الديني البروتستانتي لم يهتز ولم يستأ، بل قام قساوستهم يدافعون عن هذه النظريات الخرافية، والمجتمع هناك مضطرب ومهتمّ أكثر من “الرعاة”. فعلى سبيل المثال انظروا ماذا يكتب شخص متابع للمناظرة العلنية بين قساوسة البروتستانت وأتباع نظرية “وحدة الكون” عن موضوع الوجود التاريخي الحقيقي ليسوع المسيح: “على المنصّة التي جلس عليها المتحاورون ليبحثوا موضوع الوجود التاريخي ليسوع المسيح كان كل شيء هادئاً، تهامس المتناقشون بجو من المودة وأكلوا الشطائر وشربوا البيرة…”.
هل يمكن أن نتصوّر مثل هذا المنظر أثناء انعقاد المجمع المسكوني الأوّل عندما كان القديس أثناسيوس الكبير يفضح الآريوسيين الكذبة! هناك في نيقية كان هذا إنجاز عظيم للنفس البشرية وفي صراعها من أجل الحياة الأبدية لأن من له ابن الله فله حياة ومن ليس له ابن الله فليس له حياة (1يو 5: 12). أما هنا فنقاش “أكاديمي” مع الشطائر والبيرة لبرجوازيين متخمين ومغرورين.
لماذا هذا الموقف من موضوع تجسّد ابن الله؟ أعتقد بأن جذور هذا الموقف متأصّلة بعمق في الوعي المعنوي والأخلاقي للإنسان المعاصر، فهذا الوعي قبل كل شيء متكبّر. ماذا يعني الإيمان بالتجسّد؟ هذا يعني أوّلاً الاعتراف بأن الطبيعة البشرية قبل السقوط كانت حسنة جداً، وهكذا خرجت من بين يدي الخالق. لكن حرّية الإنسان هي التي جلبت الخطيئة وأحدثت خللاً في طبيعته وابتدأ “الصراع الداخلي في الطبيعة الإنسانية”، كما كتب أحد الآباء القديسين. إن الإنسان بسوء استخدامه للحرّية أفسد طبيعته لدرجة أنه لم يعد أمامه إلا أن يصرخ قائلاً: “الويل لي أنا الشقي، أنا إنسان مسكين! لا أقدر أن أخلّص نفسي بنفسي. نحن بحاجة إلى خليقة جديدة، إلى انسكاب جديد للنّعم الإلهية”.
هذا بالضبط ما يجب أن تقوله البشرية لكي تؤمن بابن الله المتجسّد. ولكن هل يمتلك الإنسان المعاصر روح الوداعة هذه؟ هل يعترف متواضعاً بضعفه وبذنبه أمام الله؟ العقل المعاصر مُشبع بأفكار نظرية التطوّر وبأفكار التقدّم وهذه الأفكار هي نفسها التي تُغذي كبرياء الإنسان. المسيحية تتطلّب عقلاً متواضعاً.
كان جدّي آدم إنساناً كاملاً، أمّا أنا (أيْ البشرية جمعاء) فزدتُ من الخطيئة والفساد. إن الكنيسة تدعونا إلى الاتضاع لمّا تذكّرنا بأن جدّنا الأوّل هو آدم. فماذا عن نظرية التطور؟ وعن نشأة الإنسان من قرد؟ حتى لو نظرنا إلى أنفسنا نظرة متواضعة ولكن مع ذلك لا نقدر أن لا نفكر ببعض الكبرياء ونقول: أنا لست قرداً لأن التقدّم قد تحقق فيّ. وهكذا، عندما تعتبر نظرية التطور أجدادنا قروداً فإنها بهذا تُغذي كبرياء الإنسان.
عند مساواة النفس بالقرد، يصبح الافتخار بالارتقاء ممكناً، ولكن لو فكّرنا في آدم الغير خاطئ قبل السقوط فإن الارتقاء والتقدّم الخارجي يفقد قيمته. التقدّم من الناحية الظاهرية موجود ولكن في نفس الوقت الخطيئة تتخذ أشكالاً أكثر تأنّقاً. إذا كانت البشرية تتقدّم إلى الأمام باستمرار فهذا يعطي الإحساس بأننا من الممكن أن نتكل على أنفسنا وأن نخلق أنفسنا. أمّا الكنيسة فتقول العكس: “لو لم يصر الغير فاسد والغير مائت مثلنا لما استطعنا نحن أن نصبح غير قابلين للفساد ونعيش أبدياً”.
إن الإيمان بالتجسّد هو الاعتراف بأن البشرية لا تساوي شيئاً بدون الله.
تحفظ الكنيسة المثال الأعلى للتألّه على مدى قرون عديدة. إن فكرة التألّه هي سامية للغاية ولكن بلوغ هذا المثال الأعلى (التأله) يتطلب من الإنسان كثيراً من الأشياء، ولا يمكن تحقيقه بدون الاعتراف بالتجسّد، وتؤدّي هذه الفكرة (التألّه) بالإنسان إلى الاتضاع بالدرجة الأولى. ولكن البشرية ترفض هذا المثال الأعلى، فهي ليست بحاجة إلى تجسّد ابن الله. فالمثال “الأعلى” الذي عند البشرية هو أدنى مستوىً بكثير، ممّا يمكّن الإنسان من التكلم عن التقدّم والافتخار بإنجازاته. وبالتالي، هناك سلسلتان من الأفكار التي تشكّل طريقتين لإدراك العالم هما الوعي الكنسي والوعي غير الكنسي. الوعي الكنسي يعترف بالسلسلة التالية: أصل الإنسان من آدم الكامل – السقوط – الحاجة إلى التجسّد – الاتضاع. أما الوعي غير الكنسي فيعترف بـ: الأصل من القرد – الارتقاء – عدم الحاجة إلى التجسّد وإنكاره – الكبرياء. إنّ الاعتراف بالتجسّد له علاقة وثيقة بالاتضاع. الكبرياء يكافح فكرة التجسّد كونه لا حاجة له إليه.
أمّا نحن فيجب علينا أثناء تعييدنا الكنسي لعيد ميلاد المسيح أن نهتف قائلين: اتضعْ أيها الإنسان المتكبّر وآمنْ بتجسّد ابن الله الوحيد!
القدّيس الشهيد في الكهنة هيلاريون (تروئيتسكي)