في صبيحة الميلاد
يوحنا الذهبي الفم
كيف تجسَّد الكلمة؟ ولماذا تجسَّد؟ وما هي حكمة ميلاده من عذراء؟ وما هي المشابهة بين موقف حواء والعذراء مريم؟ كل هذا في أسلوب بسيط مؤيَّد ببرهان الروح، وبكلمات دقيقة هادفة.
السر الجديد والعجيب:
أنا أنظر سراً جديداً وعجيباً. أُذناي تدوِّي بأنشودة الرعاة، مزمِّرين لا بأغنية رخيمة، بل مرنِّمين بكل قوة ترنيمة السماء. الملائكة يرتِّلون، ورؤساء الملائكة يمزجون أصواتهم في تناغم. الشاروبيم ينشدون تسبحتهم البهيجة، والسيرافيم يمدحون مجده. الكل متآزر في إطراء هذا العيد المقدس، وقد نظروا اللاهوت هنا على الأرض، والإنسان هناك في السماء. الذي هو فوق، الآن يسكن من أجل فدائنا هنا أسفل، والذي كان أسفل ارتفع بموجب الرحمة الإلهية.
بيت لحم، في ذلك اليوم، تُماثِل السماء، إذ تسمع من النجوم أصداء الأصوات الملائكية؛ وعِوَضاً عن الشمس، تطوي شمس البر بيت لحم من كل صوب. ولا تَسَلْني كيف؟ فحين يشاء الله، فإن نظام الكون يخضع. لقد شاء، وملك القدرة نزل وافتدى. الكل يتحرَّك طاعةً لله. في هذا اليوم، الكائن الأزلي، يصير على ما لم يكن عليه، إذ ليس نتيجة فقدان اللاهوت صار إنساناً، ولا نتيجة الازدياد تحوَّل الإنسان إلى إله. بل هو الكلمة صار جسداً؛ وطبيعته بسبب عدم تأثُّرها بقيت بلا تغيير (من تعبيرات القديس كيرلس الكبير).
حينما وُلد، أنكر اليهود ميلاده المعجزي، والفرِّيسيون بدأوا يُفسِّرون الكتب المقدسة زيفاً، والكتبة تكلَّموا مناقضين لِمَا يقرأون. هيرودس فتش عن الذي وُلد، لا لكي يسجد له، بل لكي يقتله. اليوم الكل يُعلِن العكس. فلأتكلَّم مع صاحب المزامير: «لا نُخفي عن بنيهم إلى الجيل الآخِر» (مز 78: 4). وهكذا أتى الملوك، ونظروا الملك السماوي الذي حلَّ على الأرض دون أن يستحضر معه ملائكة ولا رؤساء ملائكة ولا عروشاً ولا سلاطينَ ولا سيادات، بل خرج من رَحِم طاهر، سالكاً طريقاً جديداً مقفراً.
بَيْد أنه لم يتخلَّ عن ملائكته، ولا تركهم معوزين إلى عنايته، ولا بسبب تجسُّده انفصل عن اللاهوت. ها هوذا ملوك يأتون ليسجدوا للملك السماوي الممجَّد، وجنود ليخدموا إله قوات السماء، ونساء ليسجدن لِمَن وُلد من امرأة محوِّلاً آلام الولادة إلى فرح، وعذارى أتين إلى ابن العذراء ليُشاهدن ببهجة ذاك الذي هو واهب اللبن… والأطفال ليعبدوا مَن صار طفلاً صغيراً فيتهيَّأ من أفواه الأطفال والرضعان سُبْحٌ. الأطفال أتوا إلى الطفل الذي أوجد شهداء بسبب غضب هيرودس، ورجالٌ أتوا إلى مَن صار رجلاً ليشفي تعاسات عبيده، ورعاة إلى الراعي الصالح الذي وضع حياته من أجل خرافه، وكهنة إلى مَن صار رئيس كهنة على طقس ملكي صادق، وعبيد إلى مَن «أخذ صورة عبد» حتى يُبارك عبوديتنا بجعالة الحرية، وصيَّادون إلى مَن اختار من وسط الصيَّادين صيَّادين للناس، وعشَّارون إلى مَن دُعِيَ من بينهم إنجيلياً مختاراً، ونساء خاطئات إلى مَن بسط قدميه لدموع التائبة؛ وإني لأجمع الكل معاً. كل الخطاة أتوا حتى يتطلَّعوا إلى حَمَل الله الذي يرفع خطية العالم.
المولود من الآب قبل كل الدهور، وُلِد من العذراء من أجلي:
فما دام الكل يفرحون، أنا أيضاً أريد أن أفرح. أنا أيضاً أرغب أن أُشارِك في بهجة المرنِّمين، أن أحتفل بالعيد؛ ولكني سأشترك، ليس بنقر الأوتار، ولا بموسيقى المزمار، ولا بحمل المشاعل، بل بحمل مهد المسيح بين أذرعي. فهذا هو كل رجائي، هذا هو حياتي وخلاصي، مزماري وقيثاري. وعندما أحمله، وأنال من قوته موهبةَ كلامٍ، آتي أنا أيضاً مع الملائكة مرنِّماً: «المجد لله في الأعالي»، ومع الرعاة «وعلى الأرض سلام للناس ذوي المسرَّة».
في هذا اليوم، الذي هو مولود الآب بما لا يُنطق به، وُلد من العذراء لأجلي، بطريقة يعجز اللسان عن روايتها. مولودٌ، بحسب طبيعته، من الآب قبل كل الدهور – على أية حالٍ يعرف الذي ولده – وقد وُلد ثانيةً في هذا اليوم من العذراء بما يفوق نظام الطبيعة – على أية حال يعرف قوة الروح القدس – ميلاده السماوي حقيقي، وميلاده هنا على الأرض حقيقي. كإله هو حقاً مولود من الآب، وهكذا كإنسان هو حقاً مولود من العذراء. في السماء هو وحده مولود الآب الوحيد، وعلى الأرض هو وحده مولود العذراء الوحيد.
وكما أنه في الولادة السماوية، يُعتبر ادِّعاءُ وجود أُمٍّ هرطقةً؛ هكذا في الولادة الأرضية (بالنسبة لميلاد المسيح)، فإن ادِّعاء وجود أب هو تجديفٌ. الآب وَلَدَ في الروح، والعذراء وَلَدَت بلا دنس. الآب وَلَدَ بدون تحديدات الجسد، لأن الذي ولده هو اللاهوت؛ والعذراء لم تعاني فساداً في وضعها، إذ أنها ولدت معجزياً.
مِن ثمَّ فإنه ما دام هذا الميلاد السماوي لا يمكن وصفه، فمجيئه بيننا في هذه الأيام لا يسمح بالتفحُّص بالفضول الشديد. بالرغم من معرفتي بأن عذراءً وَلَدَت ابناً في تلك الأيام، وبالرغم من اعتقادي بأن الله وَلَدَ الابن قبل كل الأزمان؛ إلاَّ أنني تعلَّمتُ أن أوقِّر طريقة هذا الميلاد في صمت، وأن أقبل ألاَّ أسْبر غور هذا الأمر بفضول الحديث بالكلام. فإنه مع الله نحن لا نفتش عن نظام الطبيعة، بل نسند إيماننا على قوة الله الذي يعمل.
لا مراء في أنه من خصائص الطبيعة أن تلد المرأة المتزوجة، لكن حينما تظل عذراء غير متزوجة بكراً حتى بعد أن تحمل طفلاً، فهنا أمر يفوق الطبيعة. أما بخصوص ما يحدث وفقاً للطبيعة، فيحقُّ لنا أن نسأل؛ أما ما يفوق الطبيعة فنحن نكرِّمه في سكون، لا على أنه شيء لابد من تجنُّبه أو تجاوزه، بل كأمر فائق يعلو على كل عقل.
ابن الله الوحيد تجسَّد، لكي يمسك بأيدينا ويقودنا ويُمجِّد طبيعتنا:
ماذا ترى سأقول لكم؟ وبأي شيء سأُخبركم؟ ها إني أرى أُماً قد وَلَدَت، وأرى طفلاً أتى إلى النور بالميلاد. طريقة الحَبَل به أمر لا أُدركه. لقد غُلِبَت الطبيعة هنا، وحدود النظام الثابت قد تنحَّت جانباً. لقد شاء الله، وليس بحسب الطبيعة قد حدث هذا الأمر (ولادة ابن الله). الطبيعة هنا قد استكانت، بينما مشيئة الله تعمل. الابن الوحيد الذي قبل الدهور، الذي لا يمكن أن يُدرَك أو يُفهَم، البسيط اللاجسدي؛ قد لَبِسَ الآن الجسد الذي ألبسه أنا، الذي هو جسد مرئي قابل للفساد. ولأي سبب؟ حتى بمجيئه وسطنا يُعلِّمنا، وحتى بتعليمه يمسك بأيدينا ويقودنا إلى ما لا يمكن أن يراه الناس، إذ طالما يعتقد الناس بأن العيون أكثر صدقاً من الآذان، فهُمْ يشكُّون في كل ما لا يَرَوْنه. لذا فقد تنازَل ليُظهِر نفسه في حضورٍ جسدي حتى يُبدِّد كل شك.
لقد وُلد من عذراء، تلك التي لم تكن تعرف قصده، ولا بقيت معه لكي يحدث هذا، ولا ساهمت فيما قد صنعه؛ لكنها كانت الأداة البسيطة لقوته المخفية.
هذا هو ما فَعَلَته فقط، والذي تعلَّمته من الملاك غبريال ردّاً على سؤالها: «كيف يكون هذا وأنا لستُ أعرف رجلاً»؟ حينئذ ردَّ عليها الملاك: «الروح القدس يحلُّ عليكِ، وقوة العليّ تُظلِّلكِ».
وبأي كيفية كان العليُّ معها، الذي بعد حين خرج منها؟ لقد كان مثل الصانع الماهر الذي يحصل على مادة خام مناسبة، يصيغ لنفسه إناءً جميلاً؛ هكذا المسيح، وقد وجد الجسد والنفس المقدَّسَيْن اللذين للعذراء، يبني لنفسه هيكلاً حياً، وبحسبما كانت مشيئته كوَّن هناك إنساناً من العذراء، وإذ لَبِسه الله وُلِدَ في ذلك اليوم. غير محتسب أي خزي من دناءة طبيعتنا. فإنَّ لِبْسه ما قد صنعه، لم يكن بالنسبة له انحطاطاً.
فلتتمجَّد دائماً هذه الصنعة، التي صارت رداءً لخالقها. تماماً مثلما حدث في خلقة الجسد الأولى، لم يكن ممكناً أن يُصنَع الإنسان قبل أن يدخل الطين إلى يدي الله؛ هكذا أيضاً لم يكن ممكناً أن يتمجَّد هذا الجسد الفاسد، إلاَّ بعد أن يصير أولاً ثوباً لخالقه.