في جدول الأجيال – للقديس يوحنا الذهبي الفم |
1- يقسم الإنجيلي كل الأجيال إلى ثلاث حقَب لكي يبيّن أن التغييرات التي جرت في الحكم اليهودي لم تحسِّن أخلاق هذا الشعب، وانهم بانتقالهم من الحكم الأريستوقراطي إلى الحكم الملكي فإلى حكم الأفراد ظلُّوا على شرورهم نفسها، وانهم لم يعودوا يتحدثون عن الفضيلة في عهد القضاة والملوك. لكن لأي سبب أهمل ثلاثةً من الملوك في الحقبة الأولى. وفي الحقبة الثالثة بعد أن ذكر اثني عشر جيلاً لماذا قال انها أربعة عشر جيلاً؟ إني أدع حلّ المسألة الأولى لعنايتكم لأنه ليس من الضروري أن أجيب على كل شيء لئلا تملُّوا. فاقتصر على حل المسألة الثانية: الرأي عندي أن زمن الجلاء يُحسب جيلاً وان المسيح نفسه يحسب جيلاً آخر ولو انه كان مماثلاً لنا في كل شيء. ولقد أصاب الإنجيلي في ذكر الجلاء لأنه بيّن لنا أن إبعاد اليهود إلى بابل لم يصلح أحوالهم بحيث أصبح مجيء المسيح المخلص أمراً لا بدَّ منه. لعلَّكم تقولون لي لماذا لم يفعل مرقص ذلك ولم يحصِ نسب يسوع بل اختصر قصته في جميع الأمر؟- يلوح لي أن متّى كان أول من شرع في العمل فلذلك دقّق في وضع جدول النسبة وحدّد فيه النقاط الجوهرية، وأمَّا مرقص فقد جاء بعده واختصر الطريق إذ رجع في عمله إلى ما قيل واشتهر. فلماذا إذن وضع لوقا أيضاً جدول النسبة وأسهب فيه؟- لما كان متّى قد سبقه إلى هذا العمل أراد أن يزيدنا معرفة بالتعليم المنتشر. على أنَّ كلاًّ منهما نسجٍ على منوال معلمه. إذ ان لوقا اقتدى ببولس الذي يزيد كلامه فيضاناً على الأنهر العظيمة. وأمَّا مرقص فاقتدى ببطرس الذي اتخذ أسلوباً موجزاً. لماذا لم يبدأ متى كتابه كما يبدأ الأنبياء كتبهم هكذا: “الرؤى التي رآها” أو “كان كلام الرب إليَّ”؟- ذالك لأنه كتب لقوم ذوي نيّة سليمة يرغبون كل الرغبة في الإصغاء إليه إذ الآيات التي جرت كانت باهرة والذين تقبّلوا تعليمه كانوا على غاية من الصدق والغيرة. أما في عهد الأنبياء فلم يكن من آياتٍ عظيمة تعزّز تعليمهم. وكانت زمرة الأنبياء الكذَبَة قد تكاثرت، والشعب اليهودي كان يختار الاستماع إليها، فلذلك وجب على الأنبياء أن ينهجوا ذلك النهج في مقدمات كتبهم لأنه إذا كانت جرت قديماً آيات فإنما جرت لأجل البربر وتكثير عدد الدخلاء منهم وإظهار قوة الله، فلا يظنُّ أعداء الشعب انهم إذا ما فازوا ينسبون عوامل فوزهم إلى قدرة آلهتهم، كما جرى في أرض مصرحين ارتحل عنها الشعب ككتلة عظيمة متراصَّة، وكما جرى في بابل أيضاً فيما يتعلق بأمر الأتون والأحلام. وقد كثرت الآيات في البرية بعد أن اطمأن الشعب إلى نفسه كما حدث للشعب المسيحي: عند خروجنا من الضلال جرت آيات كثيرة، وبعدئذٍ وقفت لما نبتت بذور الديانة الحقّة في كل مكان. نعم ان الآيات قد استؤنف حدوثها بعد خروج الشعب من البرية غير انها كانت نادرة ومتقطعة، كوقوف الشمس في سيرها، وكذلك رجوعها إلى الوراء. وقد شوهد الأمر نفسه أيضاً في الدين المسيحي إذ في أيامنا عينها على عهد يوليانوس الذي فاق الجميع كفراً جرت آيات كثيرة وأشدّ غرابة. وكذلك لما عمد اليهود إلى إعادة بناء الهيكل في أورشليم اندلعت ألسنة النار من الأسس وشتَّتت جميع العمال. كذلك لما دنّس يوليانوس نفسه الأواني المقدسة بحمقه المعهود انتقم الله من خازنه الذي كان يحمل اسمه، فهلك الأول والدود ينهشه، وشاهد الثاني أمعاءه تندلع من جوفه. ومن أعظم العجائب التي جرت في عهد هذا الملك، الينابيع نضبت عندما كان يقرّب الذبائح للأصنام وفتك الجوع في المدن فتكاً ذريعاً. 2- هكذا يفعل الله متى شاء أن يعلن ذاته فإذا ما استفحل الشرّ وإذا ما رأى أخصاءه مضطهدين وأخصامه ثملين بخمرة طغيانهم يظهر قدرتهُ الذاتية على نحو ما صنع باليهود في بلاد فارس حيث أحاطهم بعنايته. فيتضح من هذا ان الإنجيلي لم يفعل صدفة ولغير علّة إذ قسّم أجداد المسيح إلى ثلاث حقَب. فافحص الآن أين يبتدئ كل منها وأين ينتهي. من ابراهيم إلى داود، ومن داود إلى جلاء بابل إلى المسيح. قد وضع ابراهيم وداود في رأس الحقبتين الأوليين على أنه ذكرهما أيضاً في جدول النسب كلاًّ في رتبته لأن الوعود قطعت معهما كما قلت سابقاً. ولماذا لم يذكر الهبوط إلى مصر كما ذكر الجلاء إلى بابل؟ لأن اليهود لم يعودوا يخافون الحادث الأول بينما كانوا لا يزالون يرتعدون من الحادث الثاني إذ كان أولهما قديماً والثاني حديثاً. ذاك لم يكن لمعاقبتهم، أما هذا فكان لأجل آثامهم. إذا أراد أحد أن يخوض في شرح الأسماء يجد فيها نظريات كثيرة واسعة لها صلة بالعهد الجديد كأسماء ابراهيم ويعقرب وسليمان وزروبابل، إذ لم تعطَ لهم هذه الأسماء دون ما سبب. لكن لكي لا أرهقكم بأحاديث طويلة لا شأن لها فلندع ذلك جانباً لنقبل إلى ما هو أهم وأجدى. بعد أن ذكر المؤرخ الأجداد كلهم وانتهى إلى يوسف لم يقف عنده بل أضاف قائلاً: “يوسف خطيب مريم” مبيناً أنه لأجلها وضع جدول النسب. ثم لئلا تظن عند سماعك “رجل مريم” أن المسيح وُلد بحسب الناموس الطبيعي أنظر كيف صحَّح ذلك الغلط فكأنه يقول: سمعتَ أنّ هناك رجلاً وأنّ هنالك أُمّاً وأن هنالك إسماً أُعطي للصبي فاسمع أيضاً نوع المولد “أما مولد المسيح فكان هكذا”. ألا قل لي عن أيّ مولد تحدّثني؟ أفما كنت تصف لي الأجداد؟- بل أريد مع ذلك أن أصف لك أيضاً نوع مولده. أترى كيف يستنهض سامعيه؟ انه سيقول لهم أمراً جديداً خطيراً ويخبرهم بأنه سيتحدَّث إليهم عن نوع ذلك الأمر. انظر إلى الارتباط الجميل بين أجزاء كلامه. لم يطرق موضوع المولد مباشرة لكنه يخبرنا عن عدد الحلقات التي تربط ابراهيم بداود، وداود بجلاء بابل، عائداً على هذا النحو بمستمعيه المنصتين إلى تلك الأزمنة الغابرة، ليبيّن لنا أن المسيح هو ذاك الذي أخبرت عنهُ الأنبياء. فمتى أُحصيت الأجيال وعلمت من الزمن أنه هو الماسيَّا الحقيقي يسهل عليك قبول الحادث الغريب المختص بمولده. فلما كان الإنجيلي مزمعاً أن يقول أمراً خطيراً كما قلت، وهو أن المسيح سيولد من عذراء، فقبل أن يحصي الزمن يلقي ظلاًّ على كلامه جاعلاً يوسف رجل مريم. وعلاوة على ذلك فانه يقسم جدول أنساب الآباء ثم يحصي أعمارهم لينبِّه مستمعيه إلى أن المسيح هو ذاك الذي قال عنه يعقوب انه سيجيء عندما تكون مملكة يهوذا خالية من الرؤساء. وهو الذي أخبر عنهُ النبي دانيال انه سيظهر بعد عدّة من أسابيع السنين. فن أراد أن يحصي عدد أسابيع هذه السنين التي أوحى بها الملاك إلى النبي دانيال، والتي مرّت منذ بناء المدينة إلى ميلاد المسيح، يرى أنها مطابقة تمام إلىابقة لعدد الأسابيع. فكيف وُلد إذا؟ “لما خطبت مريم أمه”. لم يصفها الإنجيلي بعذراء بل وصفها فقط بأُمّ ليكون كلامه مقبولاً حتى إذا أعدَّ مستمعيه إلى استماع أمر مألوف، وحوّل فكرهم إليه، فاجأهم بالأمر الغريب قائلاً: “وُجدت من قبل أن يجتمعا حبلى من الروح القدس”. لم يقل قبل أن تؤخذ إلى بيت زوجها فإنها كانت تقيم فيه، إذ العادة المألوفة عند القدماء كانت أن يقيم الخطيبان في مسكن واحد: ان حموي لوط كانا يقيمان معه. ولا نزال إلى اليوم نرى شيئاً من ذلك. فمريم إذاً كانت تقيم في بيت يوسف. 3- لكن لأي سبب لم يتم الحبَل العجيب قبل الزمان؟ ليبقى الأمر خفيّاً ولتظل العذراء بمنحى من كل ريبة سيئة لأن الذي كان يجب أن تأخذه الغيرة أكثر من سواه ليس فقط لم يخلِّها ويعرِّض كرامتها للإهانة، بل أيضاً حفظها عنده مع علمه بما هي عليه. فمن الجليّ أنه لم يكن سلك معها هذا المسلك لو لم يتحقق أنها كانت حُبلى بفعل الروح القدس وإلاَّ لما خدمها في كل شيء وحفظها عنده. أمعن النظر في هذه العبارة: “وُجدَت حبلى”. اعتاد الناس أن يعبروا هكذا عندما يتم أمر خارج عن المألوف، ويتعدى كل أمل، ويناقض الأفكار المقبولة عند الجميع. فلا تذهب إلى ما أبعد، ولا تبحث أكثر مما قيل لك، ولا تسأل كيف صنع الروح القدس هذه الأعجوبة في مستودع عذراء. إذا كان تكوين الإنسان وفقاً للنظام الطبيعي يعسر علينا فهمه، و يمتنع شرحه، فهل نستطيع أن نقول كيف تمَّ فعل الروح القدس؟ فلئلا تتهكّم بالإنجيلي وتستمرّ على إرهاقه بالأسئلة. فهو يتخلص باعلان اسم صاحب الأعجوبة. فكأنهُ يقول: لا أعلم شيئاً إلاّ ان كل ما تمَّ بفعل الروح القدس. فليخجل إذاً الذين يحاولون كشف سرّ المولد. فإذا كان لا يستطيع أحد أن يشرح المولد الإلهي الذي يشهد له ألوف من الناس، وأخبرت عنه عصور بعيدة، ووقع تحت الحواس، فإلى أيِّ درجة من الجنون لا يندفع أولئك الذين يجهدون نفوسهم بطرق متنوعة لإدراك المولد الذي يتعذّر على العقل البشري وصفهُ؟ فلا جبرائيل ولا متّى كان في طاقتهما أن يقولا لنا أكثر مما قالا انه من الروح القدس. أما كيف كان من الروح القدس؟ وبأي طريقة تمّ؟ فهذا ما لم يقلهُ أحد ولا بوسع أحد أن يشرحه. فلا تظننَّ انك فهمت كل شيء عند سماعك من الروح القدس حتى ولو عرفنا ذلك فاننا نجهل أموراً كثيرة. مثلاً: “كيف غير المحصور يحصر في مستودع أُمّ. وكيف الحاوي الكل تحمله امرأة. وكيف عذراء تلد وتظل عذراء؟ بل قل لي كيف صنع الروح القدس هذا الهيكل؟ وكيف جسد الكلمة لم يخرج رجلاً كاملاً من مستودع أُمّه بل خرج طفلاً، ثم كبر وتكون تدريجاً؟ أمَّا أنه خرج من جسد العذراء فواضح من قول متى: “فإن المولود منها” وبولس يقول: “مولوداً من امرأة” (غلاطية: 4- 4). من امرأة يقول الرسول ليكمَّ أفواه الذين يقولون أن المسيح مرَّ في العذراء مرور مياه في الأنبوب. لأنه إذا صحَّ ذلك فما الحاجة إلى مستودع امرأة. إذا صحَّ ذلك فليس من شركة بيننا وبينه. بل كان جسده جسداً آخر ومن أصل آخر. وإلاَّ فكيف يكون من يسَّى؟ وكيف يكون عصاً؟ وكيف يكون ابن البشر؟ وكيف يكون زهرة؟ وكيف تكون مريم أمه؟ وكيف يكون من نسل داود؟ وكيف أخذ صورة عبد؟ وكيف يمكن أن يُقال: “والكلمة صار جسداً” (يوحنا: 9- 14)؟ وكيف يقول بولس للرومانيين: “ومنهم المسيح بحسب الجسد الذي هو على كل شيء إله” (رومية: 9- 5)؟ فخروجه منا إذاً، ومن مستودع بتولي، وكونه من عامة البشر، تؤيده تلك الأدلّة وأدلّة أخرى كثيرة سواها. أما كيف؟- فنجهل. فلا تبحث بلا جدوى وحسبك ما كُشِف لك. فلا تحاول معرفة الأمر المكتوم. “وإذا كان يوسف رجلُها صديقاً ولم يرد أن يشهرها همَّ بتخليتها سرّاً”. بعد أن أكَّد أن الحمل كان بفعل الروح القدس وبغير مضاجعة فهو يثبت كلامُه من وجه آخر. فلئلا يُقال له: وما الدليل على ذلك؟ مَن شاهَدَ ومَن سمع بحادث مماثل؟ فلئلا ترتاب في أن التلميذ يبتدع ذلك مراعاة لمعلمه فهو يستشهد بيوسف وبخبرته الشخصية. فكأنه يقول: إذا كانت نفسك لا تطمئن إلى كلامي ويخالجك ريب في شهادتي فثِق بشهادة يوسف الذي كان رجلَها فضلاً عن أنه كان صدِّيقاً. صدِّيق معناه الباّر الحائز كل فضيلة. بل الصدق هو انتفاء كل شهوة بل هو الفضيلة الكاملة. وبهذا المعنى خصَّها الكتاب إذ قال قديماً: “وكان رجلاً صدّيقاً ومستقيماً” (أيوب: 1- 1) وأيضاً: “وكانا كلاهما صدّيقين” (لوقا: 1- 6). إذاً إذ كان صدّيقاً، أي كله اعتدال وحكمة، “همَّ بتخليتها سرّاً” فلذلك يخبر المؤرخ متّى بما كان قبل حوادث المولد حتى لا تكون غير مؤمن بما كان بعد إذاعتها. والواقع لو كانت الريبة لها أساس لما استحقت المرأة أن تُشهر فقط، بل أن تعاقب أيضاً وفقاً للناموس. لكن يوسف لم يكتفِ بأن صفح عما هو خطير بل صفح أيضاً عما هو أقل خطورة أي انه راعى أسباب حيائها لأنه ليس فقط أبى أن يعاقبها بل أيضاً لم يرد أن يشهرها. أفترى حكمة هذا الرجل وانتصاره على الأهواء الطاغية؟ انك تدرك ما هي الغيرة، لذلك كان يقول أحد الخبيرين بها: “ان غضب الرجل غضب غيرة فلا يشفق في يوم الانتقام” (أمثال: 6- 34). ويقول آخر: “والغيرة قاسية كالجحيم” (الأناشيد: 8- 6). ونحن إنما نعرف كثيرين يؤثرون أن يفقدوا حياتهم على أن يعانوا ريبة الغيرة. أما هنا فلم يكن الأمر في شيء من الريبة إذ الدلائل الظاهرة كانت تنطبق من تلقاء ذاتها. وبالرغم من كل شك كان يوسف من النزاهة عن الأهواء بحيث لم يشأ أن يسبّب للبتول أقلّ عناء. فبما أن الناموس لا يسمح لهُ من ناحية بأن يدعها في بيته، ومن ناحية ثانية تخليتها وجرُّها إلى القضاء يضطره إلى تسليمها للموت، فهو لم يفعل لا هذا ولا ذاك إذ بدأ يسمو فوق الناموس لأنه عند اقتراب النعمة كان لا بدّ من علامات كثيرة تبشّر بالحياة الجديدة السامية. فكما أن الشمس تنير أكبر جزء من الأرض قبل أن تبرز للعيان كذلك المسيح كان ينشر نوره على العالم قبل أن يخرج من مستودع أُمّه. لذلك كان الأنبياء يهتزّون طرباً قبل مولده وكانت النساء يتحدّثنَ عن الأمور المقبلة. وكان يوحنا يرتكض في بطن أمه. فيوسف إذاً أبدى حكمة سامية لأنهُ لم يَشْكُ امرأته ولا أنحى عليها باللائمة لكنه عمد فقط إلى تخليتها. وبينما كان على هذه الحال من الحيرة وافاهُ ملاك وحلَّ كل معضلاته. ولعلكم تتساءلون هنا لماذا لم يتكلم الملاك قبل أن تطرأ هذه الأفكار على ذلك الرجل ولِمَ لم يحضر إلا بعد أن كانت أخذت مجراها؟ لأن الإنجيلي يقول: “وفيمَا هو مفكر بذلك إذا بملاك الرب تراءى ليوسف”. مع انه قبل الحمْل كان جاء إلى امرأته رسول من قِبَل الله فبشرها. وهنا تبدو صعوبة أخرى. إذا كان الملاك لم يقل شيئاً للرجل فلماذا كتمت عنهُ العذراء ما كانت سمعته من قبل. ولماذا لم تُزِل عنهُ القلق الذي لا بدّ أنها أحسَّت باستيلائه عليه؟ لكن أولاً لماذا لم يتكلم الملاك مع يوسف قبل أن يستولي القلق عليه؟ لأنهُ من الضروري أن نحلّ أولاً السؤال الأول. لماذا إذاً هذا السكوت؟ لكي لا يمتنع عن التصديق ولا يحلَّ به ما حلَّ بزكريا. فمتى وقع الشيء تحت الحواس حينئذٍ يسهل تصديقه. لكن متى كان غير بادٍ فيتعذَّر قبوله. ولهذا السبب لم يتكلم في بادئ الأمر. وهذا أيضاً هو سبب صمت العذراء، لأنها لم تكن تظن أن خطيبها يلتزم بأن يصدّق حادثاً غريباً لم يتحقق بعد بل قد تخاف أن تثير غضبه وتبدو كأنها تريد أن تخفي إثماً ارتكبتهُ. وهي التي كانت مهيّأة لقبول نعمة عظيمة كانت مع ذلك لم تزل تشعر بشيء بشري إذ كانت تقول “كيف يكون لي هذا وأنا لم أعرف رجلاً”؟ بل كيف لا يرتاب يوسف لا سيمَا وأن ما سمعه جاء على لسان امرأة قد تجعل نفسها بذلك مشتبهاً فيها. 5- فلهذه الأسباب لم تقل العذراء لهُ شيئاً. ولما حان الوقت جاء الملاك. ولعلّك تقول لي لماذا لم يسلك هذا المسلك مع العذراء، بل بشَّرها قبل الحَمْل؟- لئلا تقلق وتضطرب، إذ كان يخشى عند جهلها للحَمْل أن تسوّل لها نفسها إتيان عمل منكر فتميت نفسها إمَّا شنقاً أو ضرباً بالسيف تخلُّصاً من العار. انها في الحقيقة لعذراء مدهشة وقد وصف فضيلتها لوقا بقوله انها لمَّا سلَّمَ عليها الملاك لم يهزّها الفرح ولا تسرَّعت في تصديق ما قيل لها بل اضطربت وسألت “ما عسى أن يكون هذا السلام”. فالمرأة التي تكون على هذه الحالة من الترصُّن لا يمكن إلا أن يستولي عليها الغمّ عندما تفكر في العار الذي يلحقها. ولا أمل لها بأن تقنع أحداً ببراءتها التامة. فاجتناباً لمثل هذه الأمور جاءها الملاك قبل الحَمْل. وقد كان من الواجب أن يكون بلا اضطراب ذلك المستودع الذي سيحلّ فيه بارئ الكون، وأن تكون بعيدة عن القلق تلك النفس التي أُهِّلت لتكون خادمة الأسرار العظيمة. وهذا أيضاً ما حدا بالملاك إلى أن يكلِّم العذراء قبل الحمل. على أنه لم يكلّم يوسف إلاّ بعد أن كانت حملت، الشيءُ الذي إذ لم يدركه كثيرون من ذوي الرويّة زعموا أن هنالك اختلافاً بين الإنجيليين باعتبار أن لوقا يقول ان الملاك خاطب مريم. ومتَّى يقول خاطب يوسف غير عالمين أن الأمرين كليهما قد حدثا. وهذا ما يجب أن يلاحظ أيضاً في جميع التواريخ فيتلاشى حينئذٍ كل ما يبدو أن فيه تناقضاً. جاء الملاك إذاً فيمَا كان يوسف مضطرباً وقد أرجأ حضوره إلى ذلك الحين للأسباب التي ذكرناها لتتجلى حكمة يوسف بأكثر لمعان، ثم جاء أخيراً عندما همَّ يوسف إلى تخلية العذراء. “وفيمَا هو مفتكر بذلك إذا بملاك الرب تراءى ليوسف في الحلم”. أترى اعتدال هذا الرجل فانه ليس فقط لم ينزل بها العقاب بل أيضاً لم يُفضِ بالأمر إلى أحد حتى ولا إلى التي كانت موضوع ريبته. فكان يتروَّى في داخله باذلاً جهده في أن يخفي عن العذراء نفسها أسباب ارتباكه. ولم يقل الإنجيلي ان يوسف أراد أن يطردها! نما قال “همَّ بتخليتها”. وهذا التعبير الأخير أرَقّ وألطف وهو يبيّن ما كان عليه هذا الرجل من الجودة والفطنة. “وفيما هو متفكر بذلك إذ بملاك الرب تراءى له في الحلم”. ولماذا لم يظهر له في اليقظة كما ظهر لزكريا وللرعاة وللعذراء نفسها؟ ذلك لأن إيمان يوسف كان قويّاً جداً ولم يكن ليحتاج إلى هذا المشهد. أمَّا العذراء فبمَا أنها كانت معدَّة لسماع بشرى عظيمة الشأن تفوق بعظمتها على البشرى التي تقبّلها زكريا كانت تحتاج إلى مشهد غريب كهذا. أما الرعاة فلثقل فهمهم احتاجوا إلى هذا المشهد الرائع. وأما يوسف، وإن تكن نفسه معذّبة بأشد الريب التي كان يلوح له أن كل شيء يؤيدها، فكان من السهل أن تعود إليه الآمال الطيبة إذا ظهر من يرشده إلى. معرفة ذلك السر. والواقع انه اكتفى بوحي بسيط. ولذلك فإذا كان المرسل السماوي قد أتاه بعد أن كانت الظنون مستولية على أفكاره فلكي يثبت في هذه الظروف نفسها حقيقة رسالته. و بما أن يوسف لم يَبُح لأحد بأمره، بل كان يخفي كل شيء في قلبه، فإذ سمع الملاك يتحدّث إليه عن ذلك السرّ عدَّ ذلك علامة لا ريب فيها تنبئهُ من قِبَل الله الذي هو وحده عالم بهواجس القلوب. فانظر كم تجري أمور: حكمة الرجل تتجلى بوضوح، وكلمة الملاك تجيء في أوانها لتثبته في إيمانه، وهذه الكلمة نفسها تبدو غير مرتاب بها مبيّنة له أنه لم يعانِ سوى ما كان يجب أن تمتحن به فضيلة إنسان. 6- لكن أيضاً كيف أقنعه الملاك؟ اسمع وانذهل لحكمة كلماته. دنا إليه وقال له: “يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك”. لم يلبث أن ذكر اسم داود الذي سيولد منه المسيح. ولم يدعهُ في اضطرابه مذكِّراً إياهُ عن طريق آبائه بالوعد المقطوع للذرية كلها. فماذا مع ذلك يدعوه: “يا ابن داود لا تخف”. على أن الله لم يصنع هكذا في ظروف أخرى إذ استعمل التهديد الشديد ضد ذاك الذي أراد أن ينتهك حرمة امرأة ابراهيم، وإن كان الجهل هنالك سائداً على كل شيء. لأن المعتدي لم يكن يعلم من كانت سارة. ان الله كان في ذلك العصر يعمد إلى الإرهاب، أما هنا فيستعمل الحلم، لأن ماكان يتم من الأعمال كان من الخطورة بحيث لا يوجد له مثيل. وأن بين الرجلين بَوناً بعيداً. فلذلك لم يكن هنالك محل للإرهاب فعند قوله “لا تخف” يبين أن الصدّيق يخشى أن يغيظ الله إذا ما حفظ عنده امرأة زانية، ولولا ذلك لما فكَّر بتخليتها. فكل شيء إذاً يدل على أن الملاك إنما جاء من السماء. لأنه يكشف ويظهر أفكار يوسف وما يعانيه من قلق البال. ولم يقتصر على وصفها بالعذراء بل أضاف “امرأتك” على أن هذه الصفة الأخيرة لم تكن لتعطى لها لو كانت أثيمة. امرأة معناها هنا الزوج كما اعتاد الكتاب أن يدعو الخطيب صهراً قبل الزواج. ما معنى هذه الكلمة “يأخذ”؟ معناها يحتفظ بها في بيته لأن يوسف كان خلاها بفكره. فكان الملاك يقول له: ارجع عن عزمك واحتفظ بالمرأة التي يعطيك إياها الله لا ذووها، وهو يعطيكها لا كزوج بل كوديعة مقدسة. وهذا العطاء إنما يكون بصوتي. وكما أن المسيح جعلهما فيمَا بعد تحت رعاية التلميذ الحبيب هكذا توجد الآن تحت رعاية يوسف. تم يشير الملاك إلى سبب الحَمْل إشارة خفية. فانه لم يذكر التهمة الشنيعة بل أزالها بذكر السبب بتعبير أشرف وأليق مبيناً للرجل الصدّيق أنّ ما كان يرهبه ولأجله كان يريد تخليتها إنما هو السبَب عينه الذي لأجله يجب أن يأخذها ويحتفظ بها في بيته. وعلى هذا النحو يزيل أسباب كربه- فكأنه يقول ليس فقط انها بريئة من كل علاقة أثيمة بل أيضاً انها تحمل في داخلها ثمرة إلهية. فلا تنزع منك الخوف فحسبُ بل افرح فرحاً عظيماً “لأن المولود منها إنما هو من الروح القدس”. لعمر الحق أنه لكلام مدهش يفوق كل عقل بشري ويسمو عن كل ناموس طبيعي. فكيف يصدّق هذه الأمور مَن لا خبرة له بها. انه يصدّقها بسبب ما يُفضَى إليه به. فلذلك جعل الملاك يقول ما كان يجول في خاطر يوسف من هواجس وأشجان ومخاوف وما أراد أن يُقدِم عليه، حتى يحمله على الإيمان بالسرّ. ولم يقتصر على كشف ما سبق بل يحمله على تصديق ما سيكون فيمَا بعد. “وستلد ابناً وتسمّيه يسوع”. فبما انه من الروح القدس فلا تظننَّ أنك لست ملتزماً بأن تعنى بهذا العمل الإلهي. وإذا كنت لا صلة لك بأمر المولد فبإزاء عذراء بريئة من كل دنس يجب عليك أن تقوم بواجب الأب. اني أسمح لك بأن تعطي إسماً للصبي على أن تَحفظ كرامة الوالدة. نعم إنك أنت نسمِّيه، وإن لم يكن هو ابنك، إنما يجب عليك أن تقوم نحوه بما يجب على الأب نحو ابنه. فلذلك آمرك أن تحسب نفسك هكذا، وذلك عندما تسميه. وبعد ذلك فلكي لا يستطيع أحد أن يرتاب في أنَّ يوسف هو والد الصبي لاحظ كيف يدقق الملاك في التعبير إذ يقول “ستلد إبناً” ولم يقل “ستلد لك” فجعل كلامه على الإطلاق لأن هذا الصبي لا يولد لفرد واحد بل لكل العالم. 7- فلهذا السبب أتى الملاك بهذا الاسم من السماء مبيناً بجلاءٍ ما في هذا الصبي من عَجَب، إذ ان الله نفسه وضع الاسم وأن ملاكاً يحمله إلى يوسف من قبله. إنّ هذا الاسم ليس وليد الصدفة لا معنى له، وإنما هو كنز خيرات لا ينقص. فلذلك يفسّره الملاك نفسه. ولأجل تثبيتنا في الإيمان يعلق عليه آمالنا. وفي الحقيقة ان ما يعدنا بالسعادة هو ما يجذبنا إليه بقوة وهو ما نحب كثيراً أن نصدقه. وبعد أن أكَّدَ له سلطة كلامه بالأمور الماضية، والأمور المقبلة، والأمور الحاضرة، مع ما له هو أيضاً من الكرامة، يوسِّط النبي الذي جاء في الوقت المناسب ليؤيد كل هذه الأمور. وقبل أن يُدلي بشهادته يبشّر بالخيرات المقبلة التي سيحوزها العالم بهذا المولود. وما هي هذه الخيرات؟ هي النجاة من الخطايا، وتدميرها، فلذلك يقول: “لأنه سيخلص شعبه من خطاياهم”. يبدو أن في ذلك ما يدعو إلى الدهشة. انه يبشر بأن الشعب سينجو، لا من حروب مادية، ولا من تسلط البرابرة، لكن من خطاياهم. وهذا عمل خطير لم يسبق له نظير في العصور الخالية. ولعله يقال لماذا حصر قوله بشعبه ولم يضف إليه بسائر الأمم.- لكي لا يفاجئ مستمعيه بأمر لم يألفوه. على أن المستمع المدقق لا يفوته أن لفظة شعبه تشمل الأمم أيضاً. |