إشادة بالقديس اغناطيوس بطريرك انطاكية – للقديس يوحنا الذهبي الفم |
1- إن الرجل الغني الذي يرتاح إلى مظاهر الأُبَّهة، يروقه أن يقيم ولائم كثيرة إمّا ليُظهِرَ بسطَةَ غِناه، أو ليقدّم لأصدقائه أدلّةً على مودّتِهِ لهم. كذلك نعمة الروح القدس تدعونا كثيراً لنجلس إلى المائدة الأنيقة مائدةِ الشهداء الذين نحتفل بأعيادهم، مقدّمةً لنا في تلك الدعوات شهادةً على قدرتها ومحبتها لأصفياء الله. فمن مدّة وجيزة فتاةٌ عذراء هي الشهيدة السعيدة بيلاجيا، بسطَتْ لنا بأعظم مجالي السرور، مائدةً روحية حافلة، وقد وليَ عيدها عيد الشهيد المجيد اغناطيوس. نجد هنا شخصين متفاوتين وإنما الوليمة واحدة، ومعترَكين قد تفاوتا أيضاً ولكنَّ إكليل الجهاد واحد. وتفاوتت ساحتا الكفاح، بيد أن الجائزة واحدة. في الحروب المدنية حيث لا يُستخدم إلاّ قوَّة البدن، لا يُستدعى غير الرجال، وإنما هنا حيث كل المعارك روحية، فالميدان مفتوح طليق وحشد الكفاح فيه يتجمّع من كلا الجنسَين. فلا ينازل الرجال وحسْب في ساحة الوغى هذه، خشيةَ أنّ النساء يجدن دون النزال فيها عذراً من ضعف طبيعتهنَّ يكاد يكون مقبولاً. ولا تُخَصُّ النساء بهذا الكفاح تلافياً مما يوجب على الرجال شدَّةَ الخجل من ذلك الاختصاص بهنَّ. بل يشاهَد من الجنسين عددٌ غفير قد انتصر في هذه المعارك فأُشيد بهم وأحرزوا أكاليل الظفر. من هذه الحوادث تفهمون أنَّه لا فرق في يسوع المسيح بين الرجل والمرأة. ومنها تفقهون أيضاً أنَّ لا الجنس ولا السنّ ولا لطافة المزاج ولا شيء على الاطلاق في اختصار الكلام، يستطيع أن يحول بيننا وبين الخوض في ساحة الحروب الدينيَّة، إذا صحبتنا حميّة وشجاعة وإذا أضرمَت في نفوسنا مخافة الله المتأصِّلةُ فينا نار الغيرة وحرَّكتها للإقدام. ذلك هو السبب لأن يستطيع النزول إلى ميدان الجهاد على السوآء، العذارى والنساء والرجال والفتيان والشيوخ والأحرار والعبيد وكلٌّ من الجنسين دون أن يُثبّطهم شيء عن الاندفاع إلى خوض المُعترك إذا اصطحبوا إرادةً كريمة ثابتة الجأش. ولقد عرَضت الآن فسحة الزمان تحثّني على الإشادة هنا بفضائل الطوباوي اغناطيوس. بيد أنّ عقلي يتردّد مضطرباً حتى لا أدري من أيّ النواحي أفتتح الكلام، لاتِّساع ما ينبسط لديَّ من مرج مدائحه. فأنا في هذا الموقف مأخوذ حيرةً، كمثل رجلٍ دخل إلى إحدى الحدائق الحافلة بالرياحين، من ورد وبنفسج وسوسن وسائر أصناف الزهور التي يزخرف بها الربيع تلك الحديقة وهي تنشد معاً عطرَها الفوَّاح فلا يدري أيّها يختار، لأن كلَّ صنفٍ من تلك الأزاهير يستميل إليه نظرُه. هكذا حينما ندخل إلى الحديقة الروحية من فضائل اغناطيوس وهي التي تعرض أمامنا لا أزهار الربيع بل الأثمار المتفرّعة التي أغنى بها الروح القدس نفسَه الزكيّة، لا ندري إلى أيّها نتخيَّر توجيه فكرنا. لأن كلّ صنف من هذه الأثمار التي نشاهدها، يصرف إليه ميلَنا دون غيره ويدعونا لآستجلاء ما خص به من بهاء وجمال. أُحكموا أنتم أنفسكم. فإنَّ اغناطيوس تولّى رعاية كنيستنا بالشجاعة والغيرة التي طلبها يسوع المسيح من كل أسقف، ودقّق في إتمام القاعدة العظمى التي سنَّها ابن الله لتولي الأسقفيّة. فقد كان قرأ في الإنجيل: “إن الراعي الصالح يبذل نفسه عن خرافه” (يوحنا 11: 14) لذلك بذل هو حياته بشجاعة قصده. لقد وجد نفسه على الحقيقة معايشاً للرسل، فاستقى من الينابيع الروحية الحقيقية. فوالحالة هذه ما أعظم شأن هذا الرجل الذي نشأ على مثال أولئك الرجال ورافقهم أيَّان وُجِدوا، وناله نصيب من جميع مشاريعهم وتصرّفاتهم، حتى رأوه أهلاً لأن يرئس كنيسةً عظيمة! لقد عاش في زمنٍ يتطلَّب نفساً باسلة، نفساً متعالية فوق كل الأمور الدنيوية ومتلهّبةً بنار الحب الإلهي وجديرة بتفضيل غير المنظورات على الأشياء المنظورة. لقد شوهد وهو يتجرّد من جسده بالسهولة التي يتجرَّد بها الإنسان من ثوبه. فبِمَ أستفتحُ كلامي هنا؟ أبذِكْرِ عقيدة الرسل التي كرز بها دون توانٍ ولا ملل، أم بذِكْرِ احتقاره للحياة الدنيا، أم بذِكْرِ غيرته الحرَّى التي ساس بها كنيسته؟ وأيّاً أمدح فيه؟ الشهيد أم الأسقف، أم الرسول؟ لأنَّ نعمة الروح القدس قد عقدت له إكليلاً مثلثاً زيَّنتْ به رأسه الوقور. وبالأحرى قد ضفرتَ له عدداً كبيراً من الأكاليل بعد اختبارٍ لكلٍّ منها. وسنرى أنَّ أكاليل غيرها قد نشأت منها وأزهرَت كفروعٍ جمَّة تنبتُ من أصلٍ واحد. 2- وإذا شئتم فلنشرع بمديح أسقفيَّته. أليس ثَمَّ إلاّ إكليلٌّ واحد؟ بل سيتبيّن لكم إذا تبسَّطنا في بيان إكليله الأسقفي، انه قد تفرَّع منه عدَّة أكاليل. ذلك لأني لا أعجب من اغناطيوس لكونه اعتُبر أهلاً للأسقفية فحسب، بل لأنه نال هذا الشرف من الرسل الذين وضعوا أيديهم القدسيَّة على رأسه الطوباوي. ولا اقتصر من مدحه على أن الرسل جذبوا إليه من العلى أعظم نعمة، وأنَّهم نزَّلُوا عليه من الروح القدس فيض نعمةٍ متدفّقاً. وإنما أمدحه لكونهم شهدوا له حينما قدَّسوه أسقفاً بأنه محرزٌ في شخصه كلّ ما يمكن إنساناً أن يُحرزه من الفضائل. أشرح هنا فكري. كتب القديس بولس إلى تيطس- ومتى ذكرتُ اسم بولس فكأني ذكرت أيضاً بطرس ويعقوب ويوحنا وسائر جوق الرسل. فكما أنَّ القيثار الواحد يجمع عدَّة أوتار متفاوتة، يصدر عنها تساوق نغمٍ واحد، هكذا جوق الرسل يجمع عدّة أشخاص هم ذوو عقيدةٍ واحدة لأنَّ لهم معلِّماً واحدا هو الروح القدس، الموحي إليهم جميعاً. وهذا ما أبلغَه القديس بولس إلى السامع حيث قال: “فسواءٌ أوَعَظْتُ الكلمة أنا أم غيري فهكذا قد وعظتُكم” (1 كور 15: 11) إذن قد كتب هذا الرسول إلى تيطس يُفهمه ما يجب أن تكون مزايا الأسقف فقال: “لأن الأسقف يجب أن يكون بغير مشتكى بما انه وكيل الله، غير معجب بنفسه ولا سريع الغضب ولا مدمن للخمر ولا سريع الضرب ولا ذي حرصٍ على المكسب الخسيس بل مضيفاً للغرباء محبّاً للخير عادلاً نقيّاً عفيفاً ملازماً الكلام الصادق المختص بالتعليم لكي يقدر أن يعظ بالتعليم الصحيح ويحاجَّ المنافقين.” (تيطس 1: 7) وكتب بالمعنى نفسِه إلى تيموتاوس قال: “إن كان أحد يرغب في الأسقفية فقد اشتهى أمراً عظيماً (مقدساً) فينبغي أن يكون الأسقف بغير عيب رجلَ امرأةٍ واحدة صاحياً عاقلاً مهذّباً مضيفاً للغرباء قادراً على التعليم غير مدمن الخمر ولا سرج الغضب بل حليماً غير مخاصم ولا محبّ للمال” (1 تيموتاوس 3: 1- 5) إنكم ترون في هذا الكلام مبلغ الفضيلة التي يطلبها القديس بولس في الأسقف. فاذا عمد مصوّرٌ بارعٌ إلى أن يرسم صورة أحد الأمراء بحيث يمكن جعلُها مثالاً في الفن، يضع فيها بحذقٍ جميع ألوانها حتى إن جميع المريدين الاقتداء به يجدون في تلك الصورة أصلاً متمَّماً لما يريدون. هكذا الطوباوي بولس إذ أراد أن يرسم لنا مثالاً لما يجب أن يتحلَّى به الأسقف كفعل المصوِّر في رسمه لصورة الأمير، قد جمع متفاوتات الخطوط التي تبرز الفضيلة، خلالها، وقدَّم لنا أصلاً متمَّماً بحيث إن كل واحد ممَّن يُرفعون إلى ذلك المقام، يجعل تلك الصورة نُصبَ ناظرَيه ويتخذها قاعدةً لأعماله. وهنا أستطيع التأكيد انّ الطوباوي اغناطيوس قدَّم في ذات شخصه تغيُّراً وافياً لتلك القاعدة المثلى. فإنه وهو غير مأخوذ بعيب أو مَلام، لم يكن متجبّراً ولا غضوباً ولا مدمن الخمر ولا سرج الضرب بل كان عادلاً قدّيساً ليِّن العريكة بعيداً عن كل مشاجرة وعن كلّ نزعة إلى الانتفاع الخسيس، متمسّكاً بكلمة الحق كما لُقِّنَها. كان زاهداً حكيماً في صيانةٍ واتضاع ومالكاً جميع المزايا التي يطلبها القديس بولس. “مَن ذا الذي تظنُّونه قد تحقَّق فيه هذه المزايا؟ لقد تحقَّقها أولئك الذين بعد أن سنُّوا هذه القواعد رأوهُ أهلها فسمَّوه. هم أولئك الذين لم يكونوا ليُلحُّوا على غيرهم أن يتحرَّوا بشدَّة اختبارَ من يريدون رفعَه إلى العرش الأسقفي، لو أنهم باشروا هم بأنفسِهم ذلك الاختبار عن غير اكتراثٍ له. أولئك هم الذين لم يكونوا قد أسندوا مهمَّةَ الأسقفية إلى قديسنا الشهيد، لو لم يرَوا نفسه مزدانةً بكل الفضائل. فلا شكَّ أنهم استدركوا الخطر الكبير الذي يتعرَّض له الذين يختارون لذلك المقام أشخاصاً حسبمَا يتَّفق لهم وبدون تأمُّل في الواجب وهذا ما يُبلغه إلى المسامع القديس بولس عينُه فيما كتبه إلى تيموتاوس نفسه فقال: “لا تبادِر إلى وضْعِ يديك على أحد ولا تشترك في خطايا عرك.” (1 تيموتاوس 5: 22) ماذا؟ أيخطأ غيري وأنا أتحمَّل الخِزي وعقاب خطاياه؟ نعم إن ذلك لَهُوَ الحقّ لأنك يا هذا تبذل لشرير وسائل ارتكابه للشرّ. فمَن يقدّم سيفاً لمجنون أو لمن هو في شدَّة هيجان الغضب، يرتكب جريمة القتل التي اقترفها ذلك المجنون أو ذاك الغَضوب الأحمق. هكذا مَن يبذل لشرّير وسائل الضرر في رفعه إلى المقام الأسقفي فهو يصبُّ على رأسه نفسه العقوبات التي يتعرّض لها ذلك الشرّير بخطاياه وإمعانه في الشطط. لأنَّ الذي يستنبط ينابيع الشرّ يكون هو علّة لكل الشرور المنبعثة منها. ومِن هذا تعلمون أن أسقفية اغناطيوس عرضت أمامنا إكليلاً له مزدوجاً فمناقب الناس الذين رفعوه إليها تَهَبُ له إكليلاً كأنفس ثُريَّا وتقدّم شهادةً بكل الفضائل المتلألئة فيه. 3- أتُريدون أن أُبيِّن لكم إكليلاً ثالثاً يبرزُ أو يَتولَّد من الإكليل الأول؟ لنتأمَّلْ في الزمن الذي أُقيم فيه اغناطيوس أسقفاً. إنه لفرقٌ بين رعاية الكنيسة في عهدنا، ورعايتها في عهده. فلَكَمْ يتفاوت مَشْي المسافر في طريقٍ ممهَّدة تحت قدميه، ومشيُهُ في طريقٍ وعرَة المنحدر، حجرة، حادَّةِ شناغيب الصخور والوحوش الضارية تسرح في جنباتِها وهو لا بُدَّ له من الاجتياز فيها أوَّل مرَّة إذ لم يسلكْ فيها أحدٌ غيرهُ من قبل. فاليوم- بنعمة الله- لا يتعرِّض الأساقفة لخطر ما إذ يسود الكنيسة سلامٌ مديد الظِّلال، وجميعنا ننعم في سكينة وافية. فالدين، قد امتدَّت البشارة به إلى أقاصي الدنيا حتى ليتولّى الملوك أنفسهم حماية الإيمان. أمَّا في ذلك العهد فلم تكن الحالة على هذا الوجه، بل أيَّان إتجهت الأبصار وقتئذٍ فلا ترى إلاَّ لججاً عميقة وأغواراً هائلة. ففي كل مكان حروب ومعارك وأخطار. إذ الحكام حينذاك والمدن والشعوب والأمم قاطبةً، الغرباء والأهل والأقارب كلُّهم يضطهدون المؤمنين. وأهول ما يُشاهدَ هناك أنَّ المؤمنين أنفسَهم وقد تفقَّهوا حديثاً بتلك العقائد المستجدَّة عندهم، كانوا في حاجةٍ إلى كثير من المراعاة والمداراة، فقد كانوا ضعفاء تكثر فيهم العثرات وعثراتهم ليست بأقلَّ ألماً لا بل هي التي كانت تؤلم أقطاب الإيمان أكثر مما تؤلمهم الحروب الثائرة عليهم من الأباعد. فالحروب والإضطهادات المتدفعة عليهم من الخارج كانت تبثُّ فيهم الفرح والرجاء للمكافآت التي أُعِدَّت لهم. هكذا الرسل كانوا يخرجون من مجلس القضاء متهلِّلين فرحاً لأنهم جُلدوا فيه بالسياط. فالقديس بولس المفتخر في كلّ مكان بما يناله من عاديات الغموم كان يهتف قائلا: “إني أفرح الآن من أجلكم” (كولوسي 1: 24) إنما خطايا المؤمنين وعثراتُهم وهم إخوتهم لم تدع لهم مساغَ تنفُّس، لأن تلك العثرات والخطايا كانت كنِيرٍ ثقيل يُرهق رؤوسهم وأعناقهم ويحمِّلُهم عناءه بغير مهادنة. فاسمعوا ما يقول هذا الرسول الذي كان يفتخر بآلامِه كيف يئنُّ توجُّعاً شديداً من متاعبه الداخلية. قال: “مَن يَضعف ولا أضعفُ أنا ومَن يُشكَّك ولا احترقُ أنا؟” (2 كور 11: 29). وفي موضع آخر يقول: “أخشى إذا أتيتُكم أن لا أجدكم على ما أحبُّ وأن تجدوني على ما لا تحبّون. وأن يُذلَّني إلهي بينكم إذا قدمتُ إليكم مرةً أخرى وأنوح على كثيرين من الذين خطئوا آنفاً ولم يتوبوا عمَّا صنعوا من النجاسة والزّنى والفسق.” (2 كور 12: 20 و21) إننا نعجب من ربّان السفينة، لا حينما يوصل المسافرين إلى المرفأ حالةَ أن البحر في سكون والسفينة تجري على هونها بهواءٍ موافقٍ لها، بل نعجب من براعة الربَّان الذي يقوى على تسيير سفينتِه بثقةٍ وطمأنينة حينما يكون البحر في هياجٍ وأمواجه ترتفع متلاطمة حتى ليقع الشقاق بين المسافرين، والعواصف تهدد من الداخل والخارج. هكذا نلتزم على الخصوص جزيةَ التعجُّب للأحبار المثقَّلِين بأعباء إدارة الكنيسة حينما تثور الحرب وتُضرم في كل مكان نيرانها المشؤومة، حينما لا تزال غرسة الإيمان في أول نضارتها وهي تحتاج إلى كثير من العناية بها، حينما يكون الشعب المؤمن أشبهَ بطفلٍ حديث الولادة فهو يحتاج إلى أن يُدبَّر بتيقُّظٍ وانتباه وأن تصحبَ الحكمةُ تقويتَه باللّبن غذاء الأطفال الضعفاء. فرغبةً في أن تشعروا أفضل شعور بما يستحقّه من الأكاليل أولئك الرجال المتولُّون إدارة الكنيسة في ذلك العهد، وبما يعانونه من متاعب الأعباء والأخطار التي يجتازون في أهوالها بينما هم ينشرون تعليم الإيمان، أسردُ عليكم شهادة يسوع نفسه الذي تُثبتُ كلماته ما نقول. فانه حينما كان يرى جماهير الناس يُقبلون عليه وأحبَّ أن يُفهم تلاميذه أن الأنبياء قد جاهدوا في مشقّات الأعمال أكثر منهم، قال لهم: “إنَّ آخرين قد تعبوا وأنتم دخلتم على تعبهم.” (يوحنا 4: 38) ومع هذا فالرسل قد تعبوا أكثر جداً من الأنبياء ولكن بما أن الأنبياء سبقوا فزرعوا الكلمة المقدسة، وبما أنهم هدَوا إلى الحقيقة أُناساً لم يكونوا مستنيرين بالمعرفة، فيسوع المسيح يعزوا إليهم مكابدة أفدح الأعمال. فليس سواء! كلاَّ فليس سواء من يرشدون بالتعليم شعوباً ومن سبقوهم فجاهدوا في التعليم والإرشاد لهم وبذروا فيهم أولى بذور العقيدة. إنَّ الحقائق التي تاح سابق التأمل فيها واعِتيدَتْ ألْفَتُها تُقبَل بسهولة خلافاً للعقيدة التي تُعلن أول مرَّة فإنها تبلبل عقول سامعيها وتجعل مَن يُلقون بذارها في ارتباكاتٍ شديدة. وشاهدنا في أهل أثينا حين سمعوا كلام القديس بولس فقد جهَّلُوا هذا الرسول ووبَّخُوه على أنه بلَّغ مسامعَهم أموراً غريبة” (أعمال 17: 20) فإذا كانت رعاية الكنيسة تسبّب اليوم للقيِّمين بها جُهداً بالغاً فكم سبَّبت من شدائد المشقَّات لمن كانوا يتوَلَّونها في بهرة الأخطار والحروب والاضطهادات والمخاوف المتَّصلة؟ من الصعب جداً بل من العبث الباطل أن يُعبَّر اليوم عن كل العقبات التي اجتاز فيها القديسون في تلك العصور فلا بُدَّ لمن يصفها حقَّ وصفِها من أن يكون قد اختبرها بذات شخصه. 4- وبعد فهل أُحدِّثكم عن إكليلٍ رابع؟ فما عسى أن يكون هذا الإكليل؟ إنَّه توَلِّي الحُكم في وطننا! فإذا استُصعِبَت سياسة خمسين شخصاً لا غير، فأيُّ فضيلةٍ وأيُّ حكمةٍ لا بدَّ من التحلّي بهما لمن يرأس شعباً يتجاوز عددُه مِئتَي ألف إنسان؟ ونقول باختصار، كما أنه في نظام الجيش تُوكَلُ إلى أبرع الضباط إمرةُ الفِرَق حرّاس القيصر وهي أكثر الفِرَق عدداً، هكذا الولاية على أكبر المدن وأكثرها شعباً، يُسلَّم زمام سياستها إلى أوفر الناس حكمةً وأثبتهم جأشاً. أضيفوا إلى هذا أنَّ الله كانت له عناية خصوصيَّة بمدينة أنطاكية كما دلَّنا على ذلك تدبيرُه لها قبل. فإنه رأسَ بطرس على المسكونة جميعها وألقى إليه مفاتيح السماء ورعاية الكنائس كلِّها وكلَّفه أن يسكن هنا فيمَا بيننا زمناً مديداً اعتبارَ أن مدينتنا المقدَّسة تعادل في نظرِه بقيَّة العالم. وبما أنني ذكرت بطرس، فأرى أن قد ضُفر لاغناطيوس إكليل خامس هو مجد الخلافة لأمير الرسل. إذا رفعتم من الأساس حجراً كبيراً فلا بدَّ من وضعِكم حجراً آخر في ضخامة الأول وقوَّته خوفاً من إضعاف البناء وتعريضه للتهدُّم جملةً. وكذلك حين اضطرَّ بطرس أن يبتعد عن كنيستنا، عوَّضَت عنه نعمة الروح القدس بمرشد يعادله استحقاقاً حتى لا يفقد البناء شيئاً من صلابته بضعف مَن يخلفه. إذن قد عدَّدنا خمسةَ أكاليل لحبرنا القديس: أوَّلها هو أهميَّة المقام الذي شغِله ثم قدْر الذين رفعوه إليه ثمَّ الصعوبات التي وضعتها له عوارض الزمان، ثم المدينة التي تولَّى رعايتَها وأخيراً فضيلة الشخص العظيم الذي أسند إليه من بعده إدارة هذه الأسقفيَّة. وفي وُسعي أن أضمَّ إلى هذه الأكاليل عديداً غيرها ولكني لرغبتي في أن لا نشغل الوقت كلَّه بالحديث في اغناطيوس أسقفاً وقد بقي علينا أن ننظر فيه شهيداً، انتقل هنا إلى بيان معاركه المجيدة. فقد كانت أضرمت حربٌ طاغية على الكنائس. وبما أن البسيطة كلَّها أضحت حينذاك فريسةً لأشرسِ ظلم فالمؤمنون كلُّهم طُردوا من الأمكنة العامَّة ولا ذنبَ لهم يُؤخذون به، إلاّ أنهم لوَوا وجوههم عن ترَّهات الضلال وسلكوا سبُل التقوى، وإلاّ رفضُهم لخرافات الأبالسة ومعرفتهم لله الحقّ وعبادتُهم لابنه الوحيد. فحَتْمٌ على الدين أن يجزيَ رجالَه هؤلاء الغيُر بما يستحقون من أكاليل وتضعيف التهليل ومن سنيَّات المفاخر. فلأجل الدين عينه كان يُعاقَب ويعاني ألوفاً من ضروب النِّكال والتعذيب أولئك الأبطال الذين إنتحلوا الإيمان ولا سيّمَا رؤساء الكنائس. لأن الشيطان الممتلئ خبثاً واحتيالاً أمَّلَ أنَّ تبديدَه للرعاة يهوّن عليه في آخر الأمر أن يبدد قطعانهم. ولكنَّ الذي أخزى مقاصد الأشرار حين شاء أن يبيّن للشيطان أن ليس البشر همُ الذين يتولُّون إدارة الكنائس بل يتولاَّها ذاك الذي يدير شؤون المؤمنين في كل الكنائس وهو الذي سمح بأَنَّ الرؤساء فيها يُدفعون إلى التعذيب حتى عندما يُشهد أنَّ موتهم هو أبعد من أن يستطيع إطفاء الدِّين وأن يُثبّط فلاح انتشار الإنجيل، لم يصنع سوى أن وسَّعَ مملكة هذا الدِّين وعلَّم تعليماً فعليّاً هو وخدّام الدين عينِه أنَّ العقيدة المسيحية ليست ذات أصلٍ بشريّ ولكنها ذات ينبوع يتدفّق من السماء وأنَّ الله هو المُهيمِن على كل الكنائس في جميع العالم ومن المحال أن يُعقَد لواء الظفر لمن يحارب الله العليّ. والمكرُ الثاني مكر الشيطان الذي لم يحوله عن مكرِه الأول وهو أنه لم يُرِد سفكَ دماء الأساقفة في الكنائس التي يتولّون رئاستها بل ينقلهم إلى مكان بعيد يستبيحُهُم فيه خادعاً نفسَه بإضعاف عزائمهم في سلْبهم ما هم بأشدّ الحاجة إليه من مرافق الحياة وبنَهْكِهم تعباً من طول مسافة الطريق. هكذا عامل الطوباوي اغناطيوس إذ أكرهَه على المسير من أنطاكية إلى رومة والمسافة بين المدينتين جِدُّ شاسعة. فكان المكَّار يأمل التغلُّب على ثبات القديس بمصاعب السفر البعيد الشُقَّة والكثير المشقَّة. ولكنه كان يجهل انَّ هذا القديس المرافق ليسوع المسيح في تلك الرِّحلة، قد ازداد صلابةَ جلَد، فدل بالبيّنة على قوة نفسه حتى لقد ثبَّت الكنائس في الإيمان، إذ كانت المدن تزدلف إليه من كل حدْبٍ وصوب لتُحيّيَ في الطريق هذا المصارع البطل الكريم مقدّمةً له جميع لوازم المعيشة ومُعينةً له بصلواتها وأمانيِّها وهي تشعر بتعزيةٍ بالغة من رؤيتها هذا الشهيد يُقبل على الموت بشوقٍ مسيحيّ مدعوٍّ إد ملكوت السماوات. فسَفَرُه حتى حرارة نشاطِه وطلاقة محيَّاه علَّمت جميع المؤمنين سكان هاتيك المدن أنه غير سائرٍ إلى الموت بل إلى حياة حتى يبلغ الملكوت السماوي. فأقواله وأعماله ثقَّفتِ الشعوب حتى إن ما حصل لليهود في شأن بولس إذ أرسلوه إلى روما مقيَّداً بالسلاسل لِتيقُّنِهم أنهم مرسلوه إلى الموت، إذ هو زعيم المسيحيين. إنّ هذا الذي حصل لليهود في شأن بولس، حصل للمضطهدين في شأن اغناطيوس ولكن بأسلوب أشدَّ وقعاً لأنه صار مرشداً عجيباً لا لسكان رومة فحسب، بل لكل المدن التي اجتاز فيها. فقد علَّم سكَّانها أن لا يقيموا وزناً للحياة الفانية، وأن لا يحسبوا شيئاً الأمور المنظورة ولا يرتاحوا إلاّ للخيرات المستقبلَة، رافعين أنظارهم إلى السماء غير خائفين شيئاً من أسوآء هذه الحياة وشدائدها. تلك وأمثالها هي الإرشادات التي بذلها بغيرته لكل الشعوب الذين مرَّ بهم. فكان أشبه بشمس تطلُع من المشرق وتسير نحو المغرب ناشرةً من أشعَّةِ أنوارها أكثر مما يبعث إلينا الكوكب الذي ينيرنا. لأن هذا الكوكب يلقي أشعَّةً محسوسة ماديَّة، وأمّا اغناطيوس فقد أشرق في الدنيا مهذّباً للنفوس ومضيئاً لها بنورٍ روحيّ. إن شمس الفلك إذ تنزل إلى نواحي المغرب تتوارى وتترك العالم تحت الظلمات. وأمّا اغناطيوس ففي سيرِه إلى تلك النواحي عينها، قد طلع وبذل حرارته لكلّ الذين على طريقه. ولما دخل رومة علَّم تلك المدينة الوثنيَّة فلسفةً مسيحيَّة وشاء الله أن تكون خاتمة أيامه فيها، ليكون موتُه أمثولة لجميع الرومانيين. فأنتم الذين ثُبتُّم في الإيمان بنعمةِ الله، لستم بحاجة إلى براهين تُقنعكم. وأما الرومانيون الغارقون وقتئذٍ في أضاليل الكفر، فكانوا في أمسِّ الحاجة إلى الإسعاف الكثير. فبطرس وبولس وبعدهما اغناطيوس قد ضُحيّ بهم في رومة، إما لتطهر دماؤهم مدينة ملطّخةً بأرجاس دماء الضحايا المقدمة للأوثان أو لتقديم البيِّنات العمليَّة على قيامة المسيح المصلوب إذ يُشعرون الرومانيين بأنهم لم يحتقروا الحياة الحاضرة بكرمِ نفسٍ لو لم يتيقَّنوا انضمامهم إلى يسوع المصلوب وأنهم سيشاهدونه في السماوات. نعم إنَّ أقوى برهان على قيامة يسوع المسيح المذبوح من أجلنا هو أنه بعد موته أظهر قدرتَه فاقنع البشر الأحياء أن يضحّوا بأوطانهم وبيوتهم وأصدقائهم وأهلِهم وبحياتهم عينها في سبيل الاعتراف باسمه وأن يفضّلوا على ملذات الدنيا جلَدات السياط وضروب المكافحات ومشاقً الأعمال والموت. فعجائب هذه القدرة ليست صنيع إنسانٍ ميِّتٍ راقد في ضريحه بل هي فعل إلهٍ نهض من الرمس لكي لا يموت بتَّةً. ماذا؟ حين كان يسوع المسيح حيّاً في الدنيا، كان الرسل ينعمون في اجتماعهم إليه، فلم يبتعدوا عنه إلاّ وقتما شرع في آلام الصليب. ولكنهم بعد موته، لا بطرس وبولس فقط بل اغناطيوس أيضاً الذي لم يشاهد يسوع قط ولا عايشه، وجميع الرسل قد أقاموا الدليل الواضح على أستبسالهم في سبيل حبِّهِ حتى لقد بذلوا حياتهم ضحيةً من أجله! فهل هذا ممَّا يُتصوَّر؟ 5- لقد شاء الله أنّ الطوباوي اغناطيوس يختتم أيَّامه في رومة غايةَ أنَّ الرومانيِّين يتعلَّمون منه تعلُّماً عمليّاً. فموتُه هو برهان على الحقيقة التي قدّمت بيانَها. وصُفوة الكلام أنه لم يُحكم عليه بالموت خارج الأسوار ولا في السجن ولا في مكان بعيد عن المدينة بل تحمَّل عذاب الشهيد في حفلة الألعاب على مشهد المدينة كلِّها حيث تجمَّع السكان ليعاينوه ملقىً فريسةً لضواري الوحوش التي أطلقوها عليه. كذلك مات! وبإعلآئه شعار انتصاره هذا على الشيطان تلقاء الأنظار من جميع الأشهاد، قد أغتبطوا كلُّهم بأن يقتدوا به في مثل المعترَك الذي خاضه. لأنه أفعمهم دهشاً من الشجاعة التي استسهل بها الموت، بل اقدَمَ عليه فرحاً. فقد كان ينظر بعين وادعة مطمئنة إلى الوحوش الضواري لا كأنه مُعَدٌّ ليُقتلَع من هذه الحياة بل كأنه مدعوٌّ إلى حياة أفضل وأعلى في الروحيَّات شأناً. ما الذي يدلُّنا على ذلك؟ تدلُّنا عليه الكلمات التي فاه بها قبل موته ببضعة أيام حينما أُعلِمَ بالميتةِ التي قُضي بها عليه فقال: “إذن سأتنعَّم بالوحوش المفترسة.” تلك حالة المحبِّين أنهم يتقبَّلون بسرور كلَّ ما ينالهم من الآلام في سبيل أحبّائهم. فكلَّما تحمّلوا لأجلهم أتعاباً وبلايا، زادوا اعتقاداً أنهم بلغوا غايةَ أمانيِّهم. وهذا ما حصل لقدِّيسنا الشهيد: فقد كان يتضرّم شوقاً لا إلى الاقتداء بالرسل في موتهم فقط بل في غيرتهم أيضاً. وإذ هو يعلم أنهم كانوا يُجلَدون بالسياط يخرجون من مجلس القضاء فرحين، إعتزم ببسالةٍ على أن يحذو حذو معلِّميه في أن يموت وهو متهلّلٌ فرحاً. ولذلك قولُه: “سأتنعّم بالوحوش المفترسة” وكان يرى أنَّ أنياب تلك الضواري ألطف من لسان الظالم وأنه مُحقُّ الرأي والنظر. فذاك اللسان كان يروم أن يرميَ به في نيران جهنَّم وأما أنياب الوحوش فتملِّكه السماء. ولما ختم حياته في رومة وبالأحرى لمَّا أخذ المُلك السماوي فيها، عاد إلى هذه المدينة معتصباً بإكليل المكافأة لجهاداتِه. وقد كان هذا من مقاصد العناية الإلهية أن تعيد إلينا هذا الشهيد المجيد بعد أن وزَّعته على عدّة مدُن. فرومة تقبَّلت دمه المسفوك في سبيل الإيمان وأنتم هنا تكرّمون رفاته الثمين. لقد تنعّمتم بأُسقفيّته هنا فيمَا سلف والرومانيون تنعَّموا باستشهاده عندهم. لقد شهدوه يكافح وينتصر ويحرز الإكليل وأنتم تحرزونه الآن مدى الأبد. وإنّ الله الذي جرَّدكم منه وقتاً وجيزاً أعاده إليكم مظللاً بستار المجد. وكما أنّ المقترض مبلغاً من المال يردّه إلى صاحبه مع فائدته، كذلك فعل الله. فهو بعد ان اقترض منكم لزمنٍ يسير كنزاً نفيساً وأظهره لرومة، ردَّه إليكم ببهاء أشدَّ ازدهاراً لقد أرسلتم أسقفاً وتقبَّلتم شهيداً. بعثتموه وأنتم تحفُّونه بالأماني وتقبَّلتموه معتصباً بعدَّة أكاليل ولم تتقبَّلوه وحدكم بل اشتركَت معكم كل المدن الواقعة على ممرِّه. فبأيّ العواطف تظنُّونهم قد نظروا إلى عودة البقايا القدسيّة من جسده البشريّ المقدس؟ أيُّ فرحٍ فرحُهم؟ أيُّ ابتهاج ابتهاجهم؟ وبأيّ هتاف التهليل حيّوا هذا البطل المنتصر المزيَّن بأكاليل انتصاره؟ فكما أنَّ مصارعاً كريماً ظفرَ بمقاوميه وخرج من الميدان مجيداً يتقبّلُه المشاهدون من فورِهم ويحملونه إلى بيته على اكتافهم دون أن تطأ قدماه الأرض، حتى ليتبارَون سباقاً في مديحه، هكذا جميع المدن من رومة إلى انطاكية أقلَّت على أكتاف سكانها حبرَنا إلىوّب واعادته إلينا متألقاً على جبهته إكليل الظفر وقد غمره الجميع بالمدائح وأدُّوا الشكر إلى القاضي الأسمى في وقائع الحروب وهم يُخزون الشيطان لأنَّ مكرَه قد أحاق به وأخذ هو نفسه في الفخّ الذي كان قد نصبه تحت أقدام الشهيد. وحينئذٍ فالأسقف الشهيد قد أشرك بالسعادة تلك المدن التي مرَّ بها وبذل لها تعليم الخلاص. ومن ذلك الوقت إلى الساعة الحاضرة قد أغنى مدينة انطاكية فهو أشبه بكنزٍ عظيم جمِّ المنافع يُستمدُّ منه كل يوم ولا يزال مُمِدّاً بالغنى الأوفر مَن يتملَّكونه. هكذا الطوباوي اغناطيوس لا يَردُّ مَن يقصدونه إلاّ بعد أن يغمرهم بالبركات ويملأهم من الثقة وعلوّ النفس والشجاعة. فلا نكتفينَّ بالإلتجاء إليه في هذا اليوم وحسْب بل لنقصدْ كل يوم لنجتني بواسطته ثماراً روحية. فأي إنسان نعم أي إنسان يقترب منه بإيمان لا بُدَّ من أن ينال أعظم الفوائد. لأنَّ مدافن القديسين لا أجسادهم فقط هي مملوءةٌ من النعمة الروحية. فاذا اتفق لأليشاع أنَّ متوفًّى ماسَّ ثوبه فقطع رُبُط الموت وبعث حيّاً فبأولى حجة الآن إذ النعمة أغزرُ مَدداً ومواهب الروح القدس أبلغُ أثراً فمن يلمس مدافن القديسين فلا بُدَّ من أن يفوز بأشدّ قوة. فالرب قد حفظ لنا بقاياهم الثمينة غاية أن ينفخ فينا روح الغيرة التي طالما اضطرمَت في جوارحهم. ذلك ليقدّم لنا بهم مرفأً وملجأً وتعزيةً في كل البلايا التي تؤلمنا. كذلك أنتم يا مَن هم أهداف الشدائد والأمراض والإضطهادات والآلام أو الذين هم غرقى في لجج الخطايا. إقتربوا بإيمان من هذا الرّفات فتُلقى عنكم جميع الأعباء التي تثقِّلكم وتصدروا عنه وأنتم في غمرةٍ من الرضى والراحة، فالنفس والضمير يعودان خفيفين نشيطين بإلقاء النظر مجرَّداً على ما بقي لنا من حبرٍ قدّيس. وبالأحرى ليس المغمومون هم المضطرّين إلى الاقتراب من هذا الضريح، بل لا يحتقرنَّ عظمةَ الفوائد المرجوَّة من النظر إلى مثل شهيدنا المجيد، مَن يكون وادع النفس مطمئنّاً، ومَن هو في رفعة المجد أو في كنف القوة، أو مَن هو بالغ الثقة بالله. فهذه النظرة وحدها تحقّق له بقاءَما يمكن من الخيرات لأنها تذكّره بالفضائل الجلَّى وترشده بهذا التذكار إلى أن يعتدل وأن لا يفتخر باستحقاقه الشخصيّ ولا بما يناله من ضروب النجاح ولا بأعماله الصالحة. والحال أنها ليست فائدةُ أولئك الذين هم في حالةٍ سعيدة أن لا يدعوا نفوسهم منتفخةً إعجاباً بكل ما هم فيه من سرَّاء الدنيا. فالفائدة كل الفائدة هي في أن يعرفوا كيف يثبّتون حالاتهم بالاعتدال السديد الرشيد. إذن هنا كنزٌ نافع للجميع. هنا ملجأ هيِّنٌ ولطيف يستطيع البؤساء أن يجدوا فيه خلاصاً من بؤسهم، والسعداء تثبيتاً لسعادتهم، والمرضى عودةَ الصحة إليهم والممتَّعُون بالصحة مناعةً تصدُّ عنهم المرض. وفيمَا أنَّ هذه الأفكار مخالجةٌ لنا، فلنفضِّل هذا الضريح على كل مجالب السرور وكلّ ملذَّات العالم حتى نستطيع ونحن فرحون ونائلون منه الغنى، أن نصعد إلى مقرّ السعداء حيث بلغ القديسون. قلتُ حتى نستطيع أن نصعد إلى مقرّ السعداء، ذلك بشفاعة هؤلاء القديسين وبنعمة وصلاح ربّنا يسوع المسيح الذي يُعلن له المجد مع الآب والروح القدس، الآن ودائماً ومدى الدهور آمين. ترجمة الأب نقولا أبو هنا المخلصي (المخطوطات المخلصية) |