ميلاد الرب
للقديس ايرونيموس (جيروم)
” اضجعته فى المذود، إذ لم يكن لهما موضع فى المنزل” (لو7:2) ” اضجعته أمه فى المزود”. لم يجرؤ يوسف على أن يلمسه، لأنه كان على يقين تام، أن الطفل لم يكن ابنه بالجسد. ابتهج يوسف بالطفل وهو مندهش، بيد أنه لم يجرؤ على أن يلمسه. اضجعته أمه فى المذود.
فلماذا فى مذود؟ لكى تتم النبؤة التى قيلت على لسان إشعياء النبى ” الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه” (إش3:1) وقيل أيضًا فى موضع آخر ” الناس والبهائم تخلّص يارب” (مز6:36). فإذا كنت إنسانًا تناول الخبز؛ وإذا كنت حيوانًا فتعال إلى المذود.
وبسبب أنه لم يكن لهم موضع هناك، لذلك قال لوقا الإنجيلى بصواب: ” إذ لم يكن لهما موضع فى المنزل” وذلك لأن عدم إيمان اليهود قد امتد إلى كل شئ. لم يجد موضعًا فى قدس الأقداس الذى يتألق بالذهب، والأحجار الثمينة، والحرير الطبيعى والفضة.
لم يولد المسيح وسط الذهب والثروة، بل وُلد وسط روث الحيوانات فى حظيرة للبهائم، “وحيث توجد الحظيرة، يوجد الروث، بينما خطايانا هى أقذر بكثير من ذلك الروث. وُلد الرب فى مزبلة، كى يرفع أولئك الذى أتوا منها، كما يقول المرتل: ” الرافع البائس من المزبلة” (مز7:113) وُلد الرب فى المزبلة، حيث جلس أيوب الصديق أيضًا، وتُوّج بعد ذلك.
” لم يكن لهم موضع فى المنزل” هنا تعزية عظيمة للفقراء فيوسف ومريم، أم الرب، لم يكن لهما خادم أو خادمة. أتوا بمفردهم من الناصرة التى فى الجليل، ولم يكن لهما دابة تحملهما. فلقد كانا لنفسيهما سادة وعبيدًا. توجد هنا ملاحظة أخرى وهى أنهما قد ذهبا إلى الفندق الذى بجانب الطريق، وليس إلى داخل المدينة، فحيث كان الفقر كان يجعل الإنسان أجبن من أن يتجرأ للدخول وسط الأغنياء.
أتلاحظون مدى شدة عوزهما. فقد ذهبا إلى الفندق الذى على الطريق. لم يقل الكتاب المقدس إن الفندق كان على الطريق، بل كان جانبًا خارج الطريق؛ ليس على طريق الناموس، بل على طريق الإنجيل. لم يكن هناك فى ذلك الوقت مكان آخر خاليًا لكى يولد فيه المخلص سوى مذود، مذود للماشية والحمير. فإنى أتمنى لو كان يُتاح لى أن ألقى بنظرة إلى ذلك المذود الذى وُلد فيه المسيح.
ولكى نكرِّم المسيح الآن، نأخذ مذود الطين ونستبدله بسلة فضية، ولكن ذاك الذى وُلد فيه المسيح نفيس جدًا بالنسبة لى. الفضة والذهب يتناسبان مع عبادة الأوثان، أما الإيمان بالمسيح فإنه يستحق ذلك المذود المصنوع من الطين. وُلد المسيح فى ذلك المذود فهو لا يبالى بالذهب أو الفضة. لذلك فإنى لا ألوم أولئك الذين باعوا ممتلكاتهم فى سبيل إكرام الآلهة، ولا أنظر بازدراء إلى أولئك الذين صنعوا أوعية من الذهب فى الهيكل، ولكنى أتعجب من الرب خالق الكون. الذى وُلد وهو غير مُحاط بالذهب والفضة، بل مُحاط بالطين والروث.
” وكان فى تلك الكورة رعاة متبدّين يحرسون حراسات الليل على رعيتهم” (لو8:2). إنهم لن يجدوا المسيح إن لم يسهروا، إذ أن هذا هو واجب الرعاة. فلن يجد المسيح إلا الإنسان اليقظ الساهر. فلهذا تقول عروس النشيد: ” إنى نائمة ولكن قلبى يقظ” (نش2:5) حقًا ” لا ينعس ولا ينام حارس إسرائيل” (مز4:120).
كان هناك فى نفس الكورة رعاة، وكان هيرودس ورؤساء الكهنة والفريسيون هناك أيضًا فى نفس الكورة، وبينما هم نيام، وجد الرعاة المسيح مضجعًا فى مغارة منعزلة.
” كان الرعاة يحرسون حراسات الليل على رعيتهم”. لقد كان الرعاة يحرسون قطيعهم، لئلا تفترسه الذئاب أثناء نومهم. كانوا يحرسون القطيع بحرص وعناية؛ ولقد كان الخطر بالنسبة للقطيع من غدر الوحوش سببًا كافيًا لكى يسهروا لحراسة قطيعهم. كانوا يحرسونه، كما لو كان قطيع الرب، ولكنهم لم يستطيعوا حفظه؛ ولهذا طلبوا من الرب أن ينقذ القطيع. ” وإذا ملاك الرب وقف بهم” (لو9:2). والذين كانوا يقظين هكذا استحقوا أن يأتى إليهم ملاك الرب: ” ومجد الرب أضاء حولهم، فخافوا خوفًا عظيمًا” (لو9:2).
إن خوف الإنسان سببه هو عدم قدرته أن يتفرس فى منظر مهيب وسامٍ جدًا. وبسبب خوفهم خوفًا عظيمًا، قال لهم الملاك ” لا تخافوا” (لو10:2)، فكان كلامه كالمرهم الذى يداوى الجروح لكى يطمئنوا. فشدة الخوف تجعلك عاجزًا عن فهم ما أقوله.
” إنه وُلد لكم اليوم فى مدينة داود مخلص هو المسيح الرب” (لو11:2) يا لها من كلمات عظيمة جدًا وبينما هم فى حالة دهشة عظيمة ” ظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوى مسبحين الله وقائلين” (لو13:2). ملاك واحد أعلن ميلاد الرب، ولكى لا يبدو أنه هو الوحيد الشاهد لهذه الحادثة، ردد كل جمهور الملائكة تسبحة تمجيد واحدة: ” المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وبين أناس المسرة” (لو14:2).
إذا كانت الخطايا بحسب ما يقوله الهراطقة، تحدث يوميًا فى السماء، فكيف يكون هناك إذًا مجد فى السماء، ولماذا نصلى من أجل السلام على الأرض؟ لاحظوا ما يقوله الإنجيل فى السماء حيث لا يوجد خصام، يسود المجد، وعلى الأرض، حيث كل يوم هو يوم حرب يملك السلام.
” على الأرض السلام” يحل السلام على مَنْ؟ يحل السلام بين الناس. فلماذا كانت الأمم الوثنية تحيا بدون السلام؟ ولماذا كان اليهود أيضًا ليس عندهم سلام؟ هذا هو بالضبط الذى يجعل السلام يحل بين أناس محددين: والسلام يحل بين الناس ذوى الإرادة الصالحة، بين هؤلاء الذين رحبوا بميلاد المسيح.
قال الرجال الرعاة بعضهم لبعض: ” لنذهب الآن إلى بيت لحم” (لو15:2) فلنترك الهيكل المهجور ولنذهب إلى بيت لحم. ” وننظر هذا الأمر الواقع الذى أعلمنا به الرب” (لو15:2). وإذ كانوا منتبهين فهم لم يقولوا، لنذهب ونرى الطفل، أو لنذهب لنكتشف ما قد أعلنه الملاك لنا، بل قالوا لنذهب ” وننظر الأمر الواقع” (الكلمة).
” فى البدء كان الكلمة” (يو1:1) ” والكلمة صار جسدًا” (يو14:1) الكلمة كائن دائمًا منذ البدء، فلننظر إذًا كيف صار من أجلنا. ” وننظر هذا الكلمة الذى صار، الذى صنعه الرب والذى أعلمنا به الرب” (لو15:2).
بقدر هذا نفسه صار، إذ أن هذا الكلمة نفسه هو الرب، فلننظر إذًا كيف أن هذا الكلمة نفسه، الرب ذاته، جعل نفسه يظهر، وجعل جسده معروفًا لنا. ولأننا لا نقدر أن نراه، مادام هو الله الكلمة الذى لا يُرى، دعنا نرى جسده، لأنه جسد (يُرى)؛ دعنا نرى كيف أن الكلمة صار جسدًا.
” لذا فقد جاءوا مسرعين” (لو16:2). إن غيرة أرواحهم المتلهفة صارت أجنحة لأرجلهم؛ فلم يستطيعوا أن يمسكوا سرعتهم بسبب لهفتهم على رؤية الطفل، لذلك قال الإنجيلى: ” جاءوا مسرعين” (لو16:2) ووجدوا من يبحثون عنه، لأنهم ركضوا بحماس شديد.
دعنا نرى ماذا وجدوا ” وجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعًا فى المذود” (لو16:2). إذا كانت مريم زوجة يوسف حقًا، لكان من الخطأ القول ” وجدوا الزوجة والزوج”، ولكن ذكر لنا الإنجيل المرأة أولاً ثم الرجل.
فماذا قال الكتاب ” وجدوا مريم ويوسف” وجدوا مريم الأم ويوسف الحارس ” والطفل مضجعًا فى المذود”. ولما أبصروا فهموا ما قاله الملاك لهم عن الصبى.
” وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به فى قلبها” (لو19:2) ماذا تعنى كلمة “متفكرة” إنها تعنى بالتأكيد أن العذراء كانت تتأمل مليًا فى قلبها وفى أعماق نفسها وتفكر داخلها، فيما قد صنعه الرب.
” متفكرة به فى قلبها” لأنها كانت امرأة قديسة، وقرأت الكتب المقدسة وتعرف الأنبياء وتتذكر أن ما قاله الملاك جبرائيل لها هو نفس الأمور التى سبق وتنبأ بها الأنبياء. كانت تتأمل فى قلبها ما إذا كان الأنبياء قد سبق وأشاروا للكلمات:
” الروح القدس يحل عليك، وقوة العلى تظللك، لذلك أيضًا القدوس المولود منكِ يدعى ابن الله” (لو35:1). لقد قال الملاك جبرائيل للعذراء نبؤة إشعياء فى بشارته لها ” ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعوا اسمه عمانوئيل” (إش14:7). لقد قرأت العذراء نبؤة إشعياء وسمعت بشارة الملاك لها.
تطلعت العذراء إلى الطفل وهو مضجع أمامها؛ ونظرت الطفل وهو يبكى فى المذود، رأت العذراء هناك ابن الله، ابنها، ابنها الواحد والوحيد؛ وتطلعت إليه، وفى تأملها، كانت تقارن ما سمعته بما قرأت وبما أدركته هى نفسها.
وحيث إن العذراء كانت تتأمل فى قلبها، فلنتأمل بالمثل، نحن فى قلوبنا إنه فى هذا اليوم وُلد المسيح. ولكن هناك البعض يعتقدون أن المسيح وُلد فى يوم “الابيفانيا”، بيد أننا لا ننتقد رأى الآخرين، ولكننا نتبع مسار نتائج دراستنا الخاصة. ” فليفتكر هذا جميع الكاملين منا، وإن افتكرتم شيئًا بخلافه، فالله سيعلن لكم هذا أيضًا” (فى15:3) فمن يقول إن الله قد سبق ووُلِدَ فعلاً، ونحن نقول إن الله وُلد اليوم، فكلانا على حدٍ سواء نعبد ربًا واحدًا، ونعترف بطفل واحد.
دعونا نستعرض بعض الحقائق القليلة، وذلك ليس لتوبيخ الآخرين ببراهيننا الخاصة، إنما لكى ندعم ونعزز موقفنا. نحن لا ننشر آراءنا الخاصة ولكننا نؤيد التقليد. فالرأى الشائع فى العالم يتعارض مع تفكير هذه المنطقة. قد يعترض أحد ويقول:
“إن المسيح وُلد هنا، فهل أولئك الذين يعيشون بعيدًا عن هذا المكان لهم دراية أكبر من أولئك الذين يعيشون فى بلد ميلاده؟ من أخبرك بهذا؟ إن أولئك الذين كانوا من تلك المقاطعة، هم بالطبع الرسولان بطرس وبولس وبقية التلاميذ. بذلك أنت قد رفضت التقليد؛ وأما نحن فقبلناه. فبطرس الذى كان هنا مع يوحنا، الذى عاش أيضًا هنا مع يعقوب، علّمنا أيضًا نحن الذين فى الغرب. فالرسل هم معلموك ومعلمونا.
توجد هنا حقيقة أخرى، وهى أن اليهود كانوا يحكمون اليهودية فى ذلك الوقت، وعلاوة على ذلك يقص لنا أعمال الرسل هذه الحادثة ” وحدث فى ذلك اليوم اضطهاد عظيم على الكنيسة التى فى أورشليم فتشتت الجميع فى كور اليهودية والسامرة ما عدا الرسل” (أع1:8). ذهبوا إلى قبرص وأنطاكيا، وانتشر اليهود الذين تشتتوا فى العالم كله. لقد كان اليهود يحكمون لمدة 42 سنة بعد صعود الرب، وكان هناك سلام فى كل مكان، ولكن هنا فقط توجد حرب.
ولذا لقد كان من الممكن أن يُحفظ التقليد بسهولة فى الغرب أكثر من اليهودية حيث يوجد نزاع. وبعد 42 سنة، وصلت جيوش فيسبيان وتيطس، ودمروا أورشليم وخربوها (70 م)؛ وطردوا منها كل اليهود والمسيحيين. وحتى عصر هادريان ظلت أورشليم مقفرة؛ ولم يكن فى تلك المنطقة بأسرها يهودى واحد أو مسيحى واحد.
ثم جاء هادريان وقام بتدمير ما بقى من المدينة، بسبب اندلاع ثورة أخرى لليهود فى الجليل. وبعد ذلك أصدر قانون بعدم السماح لأى يهودى أن يقترب من أورشليم. ثم أتى بمستوطنين من مقاطعات مختلفة ليقيموا فى أورشليم. وأذكر أن اسم هادريان هو أيليوس هادريان وبعد أن أخرب أورشليم أطلق على المدينة الجديدة اسم أيليا
لماذا أقول كل هذه الأمور؟ أقول هذا لأنهم يقولون لنا إن فى ذلك المكان عاش الرسل؛ وأقيم التقليد. ونحن نقول الآن إن المسيح وُلد اليوم؛ ووُلد ثانية فى الابيفانيا (عيد الظهور) وأنت يا من تدافع وتقول إن المسيح وُلد فى عيد الغطاس، فاثبت لنا الولادة والتجديد (إعادة الولادة). ومتى نال المسيح صبغة المعمودية، وإلا ستواجه النتيجة وهى أنه فى نفس اليوم وُلد وتجدد؟ فحتى الطبيعة تتفق مع رأينا؛ والعالم نفسه شاهدًا لرؤيتنا هذه. حتى هذا اليوم تزداد الظلمة على الأرض،
أما منذ ذلك اليوم الذى وُلد فيه تتناقص الظلمة ويزداد النور، النهار يطول، ويتضاءل الإثم؛ يرتفع الحق. أما بالنسبة لنا، ففى هذا اليوم وُلد شمس البر. والخلاصة، خذ بعين الاعتبار نقطة أخرى؛ وهى أنه بين الرب ويوحنا هناك ستة أشهر، فإذا درست ميلاد يوحنا المعمدان بالنسبة إلى ميلاد المسيح، فإنك ستجد أن هناك ستة شهور بينهما.
وبعد حديثنا هذا عن كثير من الأمور، وبعد سماعنا للطفل وهو يبكى فى المذود، وبعد أن كرمناه هناك، فلنستمر فى تكريمنا له اليوم. فلنحمله على أيدينا اليوم ونمجده كابن الله. الإله القدير الذى طالما أرعد فى السماء لوقت طويل جدًا ولم ينقذ الإنسان، نجده اليوم يبكى وكطفل رضيع يخلص الإنسان. فلماذا أقول كل هذه الأمور؟ لأن الكبرياء لا يجلب الخلاص أبدًا ولكن التواضع يصنع الخلاص.
وطالما كان ابن الله كائنًا فى السماء، لم يعبده إنسان، ولكن لما نزل على الأرض صار معبودًا. ذلك الذى له تحت قدميه الشمس والقمر والملائكة، لم يُعبد على الأرض، لقد وُلد إنسانًا كاملاً، إنسانًا صحيحًا كاملاً، لكى يشفى العالم كله. أى عنصر من طبيعة الإنسان لا يتخذه لنفسه لا يقدر أن يخلصه. فلو أنه كان قد اتخذ الجسد فقط ولم يتخذ النفس أيضًا، لما كان قد خلّص النفس.
فهل يخلص ما هو ذا قيمة أقل ولا يخلص ما هو أهم وأعظم؟ وإذا قالوا إنه خلّص النفس التى اتخذها، فخذ بعين الاعتبار كما أن النفس أسمى من الجسد هكذا بالمثل فإن العقل هو القوة الحاكمة فى النفس ذاتها. فلو أن المسيح لا يخلص العقل الإنسانى فلا يكون قد خلص النفس التى هى أقل. وأنت تجيب إنه لم يتخذ لنفسه عقلاً بشريًا لكى يكون قلبه حرًا من الرذائل الإنسانية والأفكار الشريرة والشهوات. أتعنى إذًا بذلك أنه لو كان لم يستطع أن يضبط ما خلقه هو فإنى يجب أن أعتبر نفسى بغير جدارة إن كنت لا استطيع أن أغلب ما كان ينبغى أن يغلبه هو.
لقد نسينا ما عزمنا عليه وتكلمنا أكثر مما نقصد فى نفس الوقت. فالعقل خطط أنه يفعل شيئًا ما، ولكن اللسان فى حماسة انزلق وسبق العقل. فلنستعد الآن لكى نصغى بعناية إلى الأسقف ونخبئ باجتهاد فى قلوبنا ما سيقوله عن ما لم أتطرق إليه أنا، فلنبارك الله الذى له المجد إلى أبد الأبد آمين.