التجسد جعل الله غير المنظور مرئياً ومنظوراً لنا, جعلنا ننظر مجد الله في مجد الله في وجه إبنه يسوع المسيح, التجسد كان دخول مرة وإلى الأبد ما هو إلهي فيما هو إنساني "الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر" (يو18:1). "الابن هو بهاء مجد الأب ورسم جوهره" (عب3:1 )
فالمسيح هو صورة (أيقونة) الله غير المنظور بكر كل خليقة (كو15:1) وكلمة أيقونة هنا تعني المشاركة في الحقيقة والجوهر لأنه كيف يمكن تصوير ما هو غير مرئي ما لم تكن الصورة نفسها هي الحقيقة ذاتها والجوهر ذاته. هكذا يكون ما إتحد بطبيعتنا وظهر في جسد بشري هو الله ذاته "عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد" (1تي16:3). هذا حقيقة ظهور ما هو إلهي فيما هو إنساني.
والليتورجية مع كل أسرار الكنيسة هي تقديس الزمان والمكان والمادة والحياة. والتقديس يعني حضور الله, ليحول ويجلي ويخصص, ويعلن حضوره. من هنا كانت (الأيقونة) بعيدة تماماً عن أي مفهوم مادي materialization( التماثيل) لأنها لا تصور المادة بل تعكس حقيقة روحية وتضع أمام أعيننا ما هو (مقدس) و(إلهي)
والملاحظ أننا في كنيستنا لا نقبل وضع (تماثيل) لأن التمثال يجسد ما هو مادي بالأبعاد الثلاثة (تجسيم , هكذا بغياب الأبعاد الثلاثة التي تميز المادي, إلى بعدين فقط (الأيقونة) يستبعد أي إحساس مادي وتكون الأيقونة انتقال هادئ لحقيقة روحية خالية من أي معنى أو انطباع عاطفي أو جسداني.
هذا يعني أن لفن الأيقونات طرق وتقاليد خاصة لابد للفنان أن يتقيد بها. فلا يخضع التصوير الكنسي لخاطر المصور أو تقلب العصور، بل للأيقونة شخصية ثابتة بمعزل عما تمثله، فهي إيضاح شعور جميع الذين يجاهرون بالمبادئ الدينية نفسها ، أي إيضاح شعور الكنيسة وأفكارها وعقائدها.
وبحسب هذا المثال فإن فن الأيقونات لا يمثل لنا الأشياء كما هي، والأجساد البشرية وشوائبها، بل هو فن روحي صرف يعبّر لنا عن فكرة لاهوتية، فترينا الإنسان متجلياً بروح الله، وينبئنا عن حالته الروحية الممتلئة مجداً وقداسة . فهناك تمييز بين الجسد واللحم في الأيقونات. فهدف الأيقونة هو ليس إثارة أو إبراز أحاسيس الطبيعة البشرية ( التماثيل) فهي غير متحركة وخالية من العاطفية بحسب لغة الفن الحديث. هدفها أن تتجلى عواطفنا وإدراكنا وكل عناصر طبيعتنا بشكل متناغم مع النعمة الإلهية وذلك بنزع كل الأهواء التي يمكن أن تكون مؤذية ولا تناسبنا في السير نحو الخلاص. الأيقونة لذلك لا تقمع أو تخمد أي شيء أصيل في الإنسان كما هو شائع في بعض الأوساط. ولا تقتل العناصر الجسدية ولا شخصيته التي يتميز بها في العالم
لهذا فالأيقونة تظهر لنا بوضوح جسد الإنسان المقدس بنعمة يسوع المسيح " الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده "[1]. فإن ما يكتبه الرسام ويوحيه للناظر هو ذلك الجسد الروحاني الذي تكلم عنه بولس " من الأجساد ما هو سماوي ومنها ما هو أرضي"[2].فليست الأيقونة صورة عادية ولا مجرد أشكال فنّية وزينة مقدسة للمعابد ولا تفسيراً للأسفار المقدسة. بل هي أسمى من هذا كله فهي حقيقة إلهية محسوسة تاريخية منورة بالنعمة تباركها الكنيسة وتكسبها صفة سر من أسرارها. هي أداة عبادة تكمن فيها النعمة الإلهية وجزء متمم لليتورجيا تتجلى فيها عقيدة الكنيسة وتقليدها المقدس وتتمتع بالصفة نفسها التي للتقليد المكتوب أو الشفهي فتقابل الأيقونة بحسب تعاليم الكنيسة المقدسة كلمة الكتاب المقدس لأن ما تعلمنا إياه الكلمة بحاسة السمع تظهره الأيقونة بصمت بما تمثل للعيان. إذاً الفن المقدس في الكنيسة الأرثوذكسية هو تعبير منظور لعقيدة التجلي.
لذا الأيقونة صورة لكنها مختلفة عن سواها من الصور والتماثيل بموضوعها و الغاية منها وبطريقة رسمها و برسّامها (كاتبها). تمثل الأيقونة موضوعاً لاهوتياً روحياً, تنقله إلى المؤمن دون سواه, وتنقل معه بركة خاصة.
الأيقونة مسرح لقاء بين الله و الإنسان, هي مكان انسجام بين ما هو بشري وما هو إلهي. إنها تفاعل و نتاج تفاعل بين مؤمن ينظر إلى نافذة سماوية أمامه فيرى ما لا يراه الإنسان العادي, وبين الله الذي يخاطب هذا المؤمن عبر الأيقونة. من هنا نرى فرقاً بل فروقاً بين الأيقونة و التماثيل.
التماثيل ترسم منظراً أو شخصاً أو موضوعاً, وبه تنقل فكرة إلى كل إنسان يستذوقها. موضوع التمثال مستوحى من الحياة البشرية أو الفكر البشري. أما الأيقونة فترسم شيئاً غير طبيعي و غير معقول بالمقاييس البشرية, لأنها تقدم للمؤمن موضوعاً يتعالى عن الأرض وساكنيها و أفكارهم و أهوائهم.
التماثيل ترسم شخصاً أو منظراً أو تجريداً كما يراه الفنان. لا توجد ضوابط أو معايير صارمة. فإما أن يستحليها المرء أو يمجّها. أما الأيقونة فترسم شخصاً متجلياً,متقدساً بنعمة الروح القدس, أي شخصاً ذو خصائص غير طبيعية بالنسبة للعالم, لأنه قديس و القديس هو في العالم إنما لا ينتمي إليه, فأحجام الأشخاص مثلاً في الأيقونة قد تكون متباينة, و الشخص قد يكون مرتفعاً عن الأرض, أو مزيناً بجناحين, أو يحمل بيده هامته المقطوعة (أيقونة المعمدان مثلاً). رسّأم الأيقونة يرسم الشخص كما تراه الكنيسة أو كما تفهمه أو كما تؤمن به. إنه يضع لاهوت الكنيسة وتعاليمها في ألوان وأشكال. فليست قيمة الأيقونة في المطابقة الفوتوغرافية بل في المعاني الروحية و اللاهوتية و الكتابية. لهذا رسّام الأيقونة أمرٌ مهمٌ وإلا فلن تقبل الكنيسة رسمه و لن تستعمله.
أن الأيقونة تتكامل مع المبني الكنسي ومع العبادة الطقسية لإعلان حضور الله وسط شعبه, ولإدخال الشعب المؤمن الحاضر في الكنيسة إلى هذا الحضور, فكما أن الكلمة واللحن والصلاة عن طريق السمع فالصورة تقدس عن طريق العينين والتي عند الأباء أهم حواس الإنسان (مت22:6.( أنها تستحضر القداسة وتعلنها أمام أعيننا, أنها تقديس عيون المؤمنين, لأنه كما عاشت النعمة مع القديسين أثناء حياتهم على الأرض فهي لا تفارق أرواحهم.
+++++
نتيجة إعطاء الحرية الكاملة للفنان في تشكيل ما يريد وخلق ما يراه جميلاً أو ما يتماشى مع عقليته ونزواته وشهواته الخاصة.هذا التطور لم يقتصر، مع الأسف، على الفن الأيقوني بل تعدى الأمر بالنسبة للنحت أيضاً وخاصة فن صناعة التماثيل الدينية كما يسميها الغرب التي كما يقول الدكتور أندرو لوث[3] أن بدايات انتشارها في الكنيسة الغربية كان في فترة العصور الوسطى وبدون تحديد التاريخ بشكل واضح.
فبالنسبة للنحت التماثيل لقد دُمر الكثير منها لكثير من الأسباب ، إن كان بسبب الحروب أو بسبب النهب والسرقة إثر الغزوات المتعاقبة على المنطقة. ومن الأمور التي تعرضت أيضاً للتدمير هي التماثيل الموروثة من العالم الروماني واليوناني القديم من قبل المسيحية. فقد حسبه مضطهدو الأيقونات من قبيل عبادة الأوثان خصوصاً في فترة حروب الأيقونات التي نشأت من قبل الأباطرة في تلك الفترة. ليس فقط في هذه الفترة بل سبقتها إلى القرون المسيحية الأولى فقد كان المسيحيون يرفضون هذا النوع من الفنون بسبب خلفيتهم اليهودية والوثنية ورفضهم كل ما يمت بصلة إلى الماضي. واحتج المُحرِّمون بنصوص من أسفار العهد القديم وأهمها: " لئلا تفسدوا وتعملوا لكم تمثالاً منحوتاً على شكل صورة ما من ذكرٍ وأنثى، أو شكل شيء من البهائم التي على الأرض، أو شكل طائر ذي جناحٍ مما يطير في السماء أو شكل شيء مما يدب على الأرض، أو شيء من السمك مما في الماء تحت الأرض… ولا تصنع لك تمثالاً منحوتاً صورة ما"[4].
واستشهدوا أيضاً بـالآية القائلة:" أما أوثانهم ففضة وذهب، صنع أيدي البشر، لها أفواهٌ ولا تتكلم، لها عيون ولا تبصر، لها آذان ولا تسمع، لها أنوف ولا تشم، لها أيدي ولا تلمس، لها أرجل ولا تمشي، ولا تصوت بحناجرها. مثلها ليكن صانعوها وجميع المتكلين عليها"[5].
أما المسيحيون الذين احتجوا على وجود التماثيل والأيقونات في الوقت نفسه، استندوا على قول السيد " ولكن تأتي ساعة، وهي الآن حاضرة، إذ الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق، لأن الآب إنما يريد مثل هؤلاء الساجدين له، لآن الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا"[6]. ووجدوا في كلام بولس الرسول في محفل آريُس بارغوس بينة على صحة التحريم. فقد قال بولس في أثينا: " فإذا كنا نحن ذرية الله فلا ينبغي أن نحسب اللاهوت شبيها بالذهب أو الفضة أو الحجر أو سائر ما يُنقل بصناعة الإنسان واختراعه"[7].
لقد كان موقف الكنيسة منذ البداية واضحاً بالنسبة للأيقونة بين مؤيد ورافض، أما بالنسبة للمنحوتات والتماثيل فقد رفضتها الكنيسة قطعياً وإن وافقت على المنحوتات الزخرفية التي زُينت بها الكنائس. فالمسيحية سخّرت النحت كما سخّرت غيره من الفنون ،لكن بإعطائه المنحى المسيحي الذي يوافق اللاهوت والمسيرة الخلاصية، ومن أجل خدمة الكنيسة عقائدياً وليتورجياً وبالتالي خلق وسيلة جديدة لمساعدة الإنسان للوصول إلى الخلاص.
لكن مع الأسف لم يفهم الغرب الأيمان الأرثوذكسي ونظرته للأيقونة وبالتالي أثّر ذلك بشكل أو بأخر على صناعة التماثيل وإدخالها إلى العبادة المسيحية في الكنيسة، وأيضاً خَلَقَ للفنان الغربي ساحة أخرى ليبدع فيها ويخلق شيء رفضته الكنيسة الجامعة منذ البداية بكل ثبات وإصرار.
ولتبرير وجود التماثيل في داخل الكنائس استشهدت بما جاء في العهد القديم أن الله تعالى سمح برفع حية نحاسية تشفي بمجرد النظر إليها من قبل بني إسرائيل الذين أصيبوا بلدغات الحيات الطبيعية التي تسلطت عليهم في البرية[8]. و هنا يدافع المطران جراسيموس مسرة عن صحة التعليم الأرثوذكسي و نفيه لما جاء على لسان الغربيين بالنسبة لهذه الآية قائلاً " إننا نعلم أن الله كان أحياناً كثيرة يرشد شعبه إلى المسيح الآتي ليس بالآيات النبوية فقط بل بالرموز أيضاً، و أن هذه الحية كانت رمزاً لكلمة الله ربنا يسوع المسيح، الذي رفع على عود الصليب، ليخلص العالم ويشفيهم من لدغات الثعبان الذي كان يقتل النفوس بسمه المعنوي[9]". و ليؤيد قوله هذا، يذكر ما جاء في الإنجيل المقدس " و كما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن البشر لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية[10]".وعلى هذا الأساس، و باعتبار أن تلك الحية كانت رمزاً لرفع يسوع المسيح على الصليب، فقد كانت بقوة صليب الرب الذي رمزت إليه تشفي الملدوغين من الحيات في البرية، و لكن لما زاغ بنو إسرائيل في البرية، و ابتعدوا عن الرب وأخذوا يعبدون الأصنام
ومن جملتها تلك الحية، عبادة إله و ليس تكريماً للقوة الإلهية التي تمثلها، عندئذ أوعز الرب إلى حزقيا الملك[11] فسحقها كما سحق غيرها من الأصنام[12].
2 المجمع المسكوني السابع والرد على مسألة التماثيل:
سوف أعرض هنا التحديدات التي وضعها المجمع المسكوني السابع، وهو ما وافقت عليه الكنيسة الغربية نفسها لتنقده هي أيضاً في الوقت نفسه، بالنسبة للأصنام والتماثيل وذلك حتى نظهر ونوضح بشكل قاطع ما أوردته الكنيسة الغربية من تبريرات، ومن أجل أن نضع سداً منيعاً لكل من تسول له نفسه تشويه الإيمان المستقيم :
" ليبسل الذين يتخذون أقوال الكتب المقدسة كأنها موجهة ضد الأيقونات … وليبسل الذين يدعون الأيقونات المقدسة أصناماً"[13]. نرى هنا أن الكنيسة قد فرّقت بشكل واضح بين الصنم أو التمثال و الأيقونة. ويضيف المجمع "ليبسل الذين يجسرون على القول بأن الكنيسة الجامعة أذنت بتكريم الأصنام في أي وقت من الأوقات"[14].
وفي رد المجمع المقدس على مجمع هياريا المحارب للأيقونات " لا مجمع ولا قوة الملوك ولا أي اتفاق مكروه لدى الله قد أنقذ الكنيسة من ضلال الأصنام كما توهم بحمق وجنون ذلك المجمع المتهوّد الثائر ضد الأيقونات المكرمة. بل إن رب المجد نفسه، الله المتجسد، هو الذي انتشلنا من ضلال العبادة الوثنية فله إذاً المجد وله الحمد… فقد أقام بيننا ودخل وخرج بيننا ونبذ أسماء الأصنام من الأرض كما كتب"[15].
وقد نعت المجمع المقدس في تحديده العقائدي صراحةً أن التماثيل هي شيطانية من عمل إبليس " وبالحقيقة أنهم باتباعهم قوماً مجدفين … فأطلقوا على صور ربنا وصور قديسين الأسماء التي تطلق على تماثيل للأصنام الإبليسية[16]".
بهذه التحديدات والتصريحات نرى وضوح الكنيسة بالنسبة لوجود التمثال في العبادة الكنسية. لكن مع الأسف نجد هذا مناقضاً في الكنيسة الغربية التي أدخلت التمثال ضاربة عرض الحائط بكل القوانين والتحديدات الكنسية التي هي نفسها وافقت عليها .
فنحن نجد انتشاراً واسعاً وكبيراً في الغرب منذ القرن الثاني عشر والثالث عشر حيث نجد التجسيد الحقيقي والنفحة الطبيعية المذهلة التي تظهر التمثال أنه إنسان حقيقي يمتلئ لحماً ودماً وفي وضعه رشاقة رائعة. فكانت مهمة الفنان الأولى هي تجميل بيت الله بالتماثيل والنقوش البارزة لكن بسبب الحرية الكاملة التي أعطيت له أنه قد بلغ من النجاح في صنع التمثال أن جعل الشعب يشعر عند النظر إلى التمثال كأنه ينتظر منه أن يتحرك ويصنع المعجزات ولم يكن يخامره أي شك إذا سمع أن ذراع المسيح المصنوعة من المرمر قد تحركت لتبارك إنساناً، أو ثدي عذراء من الخشب قد در اللبن.
وقد كتب في ما وصلت إليه حالة الغرب في هذا العصر ثيوفيلوس الراهب في دير هلمرزشوزن Helmershausen القريب من بادربون Paderbon والذي كتب حوالي العام 1190 قائلاً: "فها نحن نشهد ناحية أخرى من نواحي عصر الإيمان. نشهد رجالاً ونساءً، ونشهد بنوع خاص رهباناً وراهبات يعملون لإشباع الرغبة الغريزية في التعبير، ويجدون متعة في التناسب والتناسق والأشكال ، ويحرصون على أن يجعلوا النافع جميلاً"[17]. ولقد كانت أهم ما تحتويه المناظر التي صورت في العصور الوسطى صوراً لرجالٍ ونساءٍ وهم يعملون، وإن غلبت عليهم النزعة الدينية. وكان الغرض الأول والأساسي الذي يهدف إليه فنهم هو تجميل أعمالهم، أجسامهم وبيوتهم. وكان آلاف من صناع الخشب يستخدمون أدوات… لحفر النضد ، الكراسي… والصور والتماثيل المقدسة وأجزاء المذابح الكنسية… وكثيراً ما كانوا يضيفون الفكاهات الخبيثة التي لا تعرف الفوارق بين ما هو مقدس وما هو دنس، والحيوانات والطيور الغريبة ذات الرؤوس الآدمية.
وقد استفاضوا أيضاً في حريتهم بأن الكثير من التماثيل القائمة في كنائسهم لتشبه الفلاحين الملتحين في القرى والتماثيل التي تمثل على سبيل المثال فيلسوفاً مفكراً له رأس خنزير محشوراً في أزهار من ذوات الورقات الأربع، وطبيباً نصفه آدمي والنصف الآخر إوزة، ومعلم موسيقى نصفه آدمي و نصفه ديك، ورجلاً أحاله ساحر كلباً، وظلت قدماه تلبسان حذاءيه. وهناك صورة صغيرة مضحكة جاثمة تحت التماثيل في كنائس تشارتر، وأمين، وريمس. وفي كنيسة أسترسبرج تاج عمود يمثل دفن رينارد الثعلب يحمل نعشه خنزير و جدي، ويحمل الصليب ذئب، وينير الطريق أرنب بشمعة، ويرش دب الماء المقدس، وينشد القداس وَعْلٌ، ويتلو حمار صلاة الجنازة من كتاب مستند إلى رأس قط. وفي كنيسة بفرلي ثعلب على رأسه قلنسوة راهب يرتقي منبراً ويعظ طائفة من الإوز التقية المتدينة[18]. أعتقد أنه يكفي ما وصفته حتى الآن للحالة التي وصلت إليها الكنيسة الغربية بسبب التسيب وخروجها عما وضعه الأباء القديسون والمجامع المقدسة بإلهام الروح القدس.
في هذه العجالة بينت سبب رفض الكنيسة الارثوذكسية لأي نوع من التماثيل والصور الأخرى الغريبة عن تراث كنيستنا المقدسة التي دخلت في إيماننا لتعطي مفهوماً مشوهاً خالياً من كل قداسة ونسك وصلاة.
لكن الهدف الحقيقي منهذه العجالة، هو أن أبين لشعبنا المؤمن البسيط مدى غنى كنيستنا الفني وعلاقة هذا الفن المقدس بلاهوت الكنيسة الخلاصي وأن سبب ممارستنا له في عبادتنا اليومية هو أن يصبح أداة ترتفع بها نفوسنا من الأرض إلى السماء بما تحمله لنا من مواهب إلهية عبر تقديسها وإقامة الصلوات الخاصة من الكنسية نفسها.
للأسف إن الكثير من الناس لا يفرقون بين الفن الكنسي الحقيقي وبين الفن الكنسي الغربي الذي يعتمد في جوهره على إبراز الجمال الأرضي ( التماثيل) بكل تفاصيله ليغدو سجنا للعين وبالتالي للنفس البشرية. فالبعد الطبيعي للفن الأيقوني في الكنيسة الغربية ساد بشكل كبير لدرجة أن المعنى الأساسي والهدف الرئيسي للأيقونة تقريباً تلاشى. فالهدف توقف عند يسوع ذلك الإنسان الجميل الوجه ذو الشعر الذهبي والعينين الزرقاوتين المتألم والمعذب لأجل البشر متناسين أنه ذلك الإله الذي وإن تألم ومات بالجسد إلاّ إنه قام مُمَجداً من أجلنا ليرفعنا عن كل ما هو أرضي لننال كل ما هو سماوي. أصبحت الأيقونة عبارة عن شاشة سينمائية أو عرض مسرحي يعرض فيها الفنان فنه دون رادع أو حسيب.
فالأعضاء الجسدية ليسوع والقديسين، رجالاً ونساءً، بارزة بشكل تخجل معها العين لمدى الشهوانية التي يمكن أن يصل إليها الإنسان، الأجساد عارية ومفاتن الجسد تخلب الألباب لمدى إتقان الفنان في إبرازها. ونلاحظ أيضاً نتيجة لهذا أن البعد النسكي والجهاد المتواصل للقديسين، إن كان في أجسادهم أو في أعمالهم، شبه معدوم، فيصبح الشخص المرسوم في الأيقونة مجرد صورة لشخص ما يعيش على هذه الأرض.
هذا التسيب في رأيي قد وصل مداه عندما تبنّت الكنيسة الغربية التمثال في العبادة الكنسية وأصبح جزء مهماً يلتجأ إليه الناس بشكل عفوي وخطير من أجل طلب أمنية ما أو شفاء مرض عَسِرَ على الأطباء علاجه. لهذا أتجرأ على القول أن هذا النوع من الممارسات أصبح نوع من الوثنية المبطنة وإن كان الهدف منه في الأصل هو شيء جيد.
لذا أرجو أن أكون قد وفقت في توضيح إيمان وتعليم كنيستي الأرثوذكسية في بحثي البسيط هذا من أجل أن نتمسك جميعنا بينابيع الإيمان التي نستمدها من الكتاب المقدس والتسليم الرسولي والآبائي، نابذين كل ما هو غريب وشاذ لتبقى نفوسنا وأجسادنا طاهرة. ويبقى الكمال دائماً وأبداً لله العلي.
وأتمنى في النهاية أن لا يفهم أحد أبداً إنني أهاجم الكنيسة الكاثوليكية بل على العكس، هدفي هو، إماطة اللثام عن ممارسة خاطئة يسلك فيها معظم شعبنا، والأمر الآخر أن أظهر للشعب المؤمن أن الأيقونة هي ليست مجرد صورة مرسومة تبهج العين بصنعها المتقن كما في الصورة الغربية، لأن الأيقونة هي مختلفة عنها شكلاً وجوهراً . وللأسف يسود بين الناس أن الصورة الغربية هي أجمل وأرقى من الأيقونة المقدسة التي يظهر فيها الأشخاص هزيلين والألوان فيها قاتمة بعكس الصور الغربية التي يظهر فيها الشخص ممتلئاً وكأن الدماء ستنفجر من وجهه والألوان مفعمة زاهية بالحياة. ومحاولة توجيهه إلى طريق الخلاص الذي رسمه لنا الرب يسوع المسيح منذ البداية. والشكر لله دائما
[1] – فيليبي 21:3
[2] -1كور 40:15
[3] – أستاذ مادة الدراسات الأبائية والبيزنطية في قسم اللاهوت بجامعة Durham في المملكة المتحدة. رسالة غير منشورة بعثها إلى عبر الإنترنيت.
[4] -تثنية 14:4-19 ، 7:5-8
[5] – مز 4:113-8
[6] – يوحنا 23:4-25
[7] – أعمال 29:17
[8] -عدد 5:21-9
[9] -مجلة الهدية : عدد 127ص114.
[10] -يوحنا 14:3-15
[11] – 2 ملو 4:18
[12] -الأرشمندريت غفرائيل صليبي، ص139-140. انظر مجموعة الشرع الكنسي، ص807.
[13] -مجموعة الشرع الكنسي، الجلسة الأولى ص779.
[14] -نفس الجلسة.
[15] -المرجع ذاته ، الجلسة الرابعة ص789.
[16] -المرجع ذاته ، تحديد المجمع المقدس المسكوني النيقاوي العظيم، ص800.
[17] – ول ديورنت، الجزء 15_16 ،ص 223-234
[18] -المرجع ذاته ،ص257 .