ذِكرُ الموت
في أَيَّامِنا هذه أَصبحت الدولةُ المعاصِرة مُؤَسسَّة إِقتصاديَّة وحربيَّة، شُغلُها الشاغِل هو السِلاحُ والإِقتصاد. الإِقتصاد العالمي بِيَدِ المصارف والشَرِكات الكُبرى، والقائمونَ على هذهِ المصارف والشَركِات لا يحلُمونَ إلَّا بِتَعاظُمِ ثَرواتِهم. المنافَسةُ بينَهم شديدةٌ جدًّا في التكالُبِ على الربحِ والغِنى الفاحش. لا يخضَعونَ للمبادئ الأَخلاقيَّة إِلَّا من ضِمنِ الخوف من العِقاب والإِفلاس ومن إِرتيابِ الناس لتصرُّفاتِهم والى ما هنالك من أُمورٍ لا تُحصى.
وفي سبيلِ ذلك صارَ العالم مَعمَلاً كبيراً والناسُ فيهِ مُستَخدمَونَ وإِنَّما مُستثمَرون. يعملُ الناس ليلاً ونهاراً لمصلحة المصالح الكُبرى والشَرِكات الكُبرى والأَغنياءَ إِجمالاً. يَكُدُّونَ ويُرهِقونَ أَنفُسَهم ويَعصِرونَ ذاتَهُم وأَعصابَهُم ويبقَونَ مُتَخلِّفين.
والناسُ عبيدُ الأَزياء والموضة واللَّياقات الإِجتماعية. يُريدونَ أَن يُقَلِّدوا مَن هُم أَحسَنُ حالاً مِنهُم. يجتهدُ الَّذينَ هُم في المستوى الأَدنى لأَن يصعَدوا الى المستوى الأَعلى فَيَكِدُّونَ حتى الإِرهاق الكامل. قال إِبن سيراخ: تذكَّر عواقبَكَ فلا تخطأ. وعواقِبُنا هي الموت والدينونة وجهنَّم والملكوت الأَبدي.
الإِنسانُ يميلُ الى الشَّر منذُ حداثتهِ كما جاءَ في سِفر التكوين. خطيئةُ آدَم وحوَّاء أَدَّت الى فَسادِ الطبيعة البشَريَّة والى الموت. صارَ الإنسانُ كُثلَةَ أَهواء تَجرُّهُ الى الأَرضِ، وصارَ الجسد يُؤَثِّر عَلينا كثيراً. بدَلاً من تَسلُّطِ الرُّوح على الجسَد في الجنَّة، صارَ الجسَد يجُرُّنا الى ما يشتهيهِ ويلُذُّ لهُ.
لم يكن الناس في العهد القديم ملائكة. لماذا كان الطوفان؟ لماذا كان سَدوم وعَمورة؟ ولماذا هُدِّدَت نينوى بالخَراب؟ وماذا قالَ الربُّ يسوع في كفرناحوم وبيتَ صيدا وكُورزين وكُفرِهِم بعجائبِه وبما أَجرى لدَيهِم من آيات؟ وماذا قالَ في أُورشَليم المدينة العظيمة؟ ” يا أُورشليم يا أُورشليم، يا قاتلَة الأَنبياء وراجمة المرسَلينَ إليها، هوذا بيتُكُم يُترَك لَكُم خرابٌ” فخَرِبَت في العام سبعين.
يتوهَّم الناس أَنَّ القرنَ العشرين هو قَرنُ الحضارة والثقافة والرُّقيّ، وماذا كانَ في القَرن العشرين؟ الحروب.
أَنا من موليد 1923 كنتُ أَسمع بأَخبارِ الحرب العالميَّة الأُولى وما أَصابَ بلادَنا منها من جوعٍ وعَطَش وكيف كانت تأخُذ دُوَل المحوَر حبوبَنا. في الحرب العالميَّة الثانية شاهَدْتُ مُصادَرة الحبوب، كُنَّا نأكلُ قبل دخول ديغول الى سوريا ولبنان خُبزاً لا يُؤكَل. وماذا فعل هِتلِر وستالين؟ وماذا فعل ترومان بهيروشيما؟ منذُ طفولَتي حتى الآن لا أَسمع إِلَّا بأَخبارِ الحروب. في صفِّ البكالوريا كانَ كِتابُ التاريخ كلُّهُ عن الثورة الفرنسيَّة وأَمجادِها الباهرة وهذا كِذبٌ خطيرٌ على البَشَر! تطوَّر العالَم نحو الدُوَل الكُبرى فسَيطرت على العالم بِرُمَّتِه، والدولة وضَعَت يدَها على كلِّ شيء وصارَت شَرِكة مصالِح.
الربُّ يسوع هدَّدَنا أَنَّ الآخرة ستأتي مثل الطوفان والناس سيكونُونَ غارِقينَ بالطعامِ والشراب والخمور والكَسب والتجارة والإبتعاد عن الله. فإذاً روحيًّا، الِإنسان هو في أَزمةٍ تاريخيَّة. الأزمةُ الروحيَّة موجودة منذُ سقوطِ آدم حتى الآن. بولس الرسول قالَ في روميَة: لا تُطيعوا أَجسادَكُم لقضاءِ شَهواتِها. وقالَ في غلاطيَة 5: 16 – 17 في الحربِ بينَ الرُّوح والجَسَد : ” أُسلُكوا بحسب الرُّوح ولا تَقضوا شهوةَ الجسد. فإِنَّ الجسَدَ يشتهي ما يُخالِفُ الرُّوحَ والرُّوحَ يشتهي ما يُخالِفُ الجسَد: كِلاهُما يُقاوِمُ الآخر حتى أنكم لا تصنعونَ ما تُريدون”.
الَّذينَ هُمْ في المسيحِ صَلَبوا الجسد مع الأَهواء والشَهَوات. في الرسالة إلى روميَة أَوضحَ بولس الرسول بشكلٍ هائل وممتاز وجودُ حربٍ داخليَّة في الإِنسان بين قُوَّتَين تتصارعان. والإِنسانُ الخاضع لأَهوائِه يستعملُ أَعضاؤَه كأَسلحةٍ بيَدِ الأَهواء. في الآية 15:” فإِنِّي لا أَعرفُ ما أَنا عامِلُهُ، إِذ لستُ أَعملُ ما أُريدُهُ بل ما أُبغِضُهُ فإِيَّاه أَعمَل.” الآية 19: ” لأَنَّ الخيرَ الَّذي أُريدُهُ لا أَعمَلُهُ والشرَّ الَّذي لا أُريدُهُ إِيَّاهُ أَعمَل”. الآية 22 – 23 :” فإِنِّي أُسَرُّ بِناموسِ الله بِحَسَبِ الإِنسانِ الباطن، لَكِنِّي أَرى ناموساً آخرَ في أَعضائي يتجَنَّدُ ضِدَّ ناموسِ عقلي ويأسِرُني لِناموسِ الخطيئة الَّذي في أَعضائي”.
الإِنسانُ هو عبدُ الأَهواء الجسَديَّة. يستعملُ جسَدَهُ للملذَّات الجسَديَّة، يَحشو بطنَهُ بالُّلحوم والخمور والحلويات ويرتكب الخَلاعة ويُحلِّل المحرِّمات. والغارقُ في القِمار قد يبيعُ زوجَتُه وأَولادَهُ وأَثاثَ بيتِه. الفسادُ موجودٌ والحربُ على الفَساد موجودة ولَكِن ليسَت قويَّة. الإِنسانُ إِذاً يعيش تراجيديًّا مأساةً على الأَرض.
القدِّيس أَفرام وسواه من آباء الكنيسة المماثلينَ لهُ غاصوا إلى أَعماقِ النفس البشريَّة واكتشفوا ما فيها من استعداداتٍ إِجراميَّة، وسجَّلوا اعترافات في الخطايا، وسلسلة الخطايا طويلة جدًّا. يقضي القدِّيس حياتَهُ في مكافحة الأَفكار الشرِّيرة. الشرُّ في الإِنسان يظهرُ في الأَفعال والأَقوال والأَفكار. الدياناتُ والمجتمع فرَضوا على البشر شيئاً من القمِع للأَفعالِ الشرِّيرة والأقوال الشرِّيرة ولكنَّ قمعَ الأَفكار الشرِّيرة يحتاجُ إلى جهادٍ روحيٍّ كبير وإلى النعمة الإِلهيَّة. وقَمعُ اللِّسان عسيرٌ جدًّا كما جاءَ في رسالة القدِّيس يعقوب. ليسَ من السهل أَن يضبُطَ الإِنسان لسانَهُ لأَنَّ لسانَهُ مربوطٌ في جهنَّم.
العدوانيَّة في الإِنسان نارٌ تحتَ الرماد. التربيةُ والمجتمعُ والديانةُ يقمَعوا الإِنسانَ بنسبةٍ ما ولكن قد تندلعُ الشرارةُ في البيت وفي المجتمع وعلى المستوى الدُوَلي ولأَبسَطِ الأَسباب. هناكَ مجرمونَ محترفونَ في كلِّ أَنواعِ الجرائم. عدوانيَّةُ الإِنسان ترتكِب ما لا يعدُّ ولا يُحصى من الجرائم الصغيرة والكبيرة. ماذا يخبِّئ لنا الدهرُ؟ قد يُحِرقُ البشرُ الكرة الأَرضيَّة ومَن عليها وليسَ الهدفُ أَن يحرقوا الكرة الأَرضيَّة بل أَن يحرقوا البشر. الإِنسان عدوُّ الإِنسان بالدرجةِ الأولى، والمحبَّةُ هي غالباً لفظيَّةٌ.
القدِّيسونَ جاهَدوا العمرَ كلَّهُ ليُنَظِّفوا أَنفسَهُم. نجحوا في قمعِ الأَعمال الشرِّيرة وفي قمعِ اللِّسان نسبيَّا، ولكن هل نجحوا في قمعِ الأَفكار الشرِّيرة فيهم؟ الله وحدهُ قادرٌ على قمعِ الأَفكار الشرِّيرة. فلذلك النارُ موجودة دائماً تحت الرماد. النعمةُ الإِلهيَّة هي التي تشُلُّ القدِّيسين عن ارتكاب المآثم فِعلاً وقَولاً وفِكراً فلا ينجحوا مئة في المئة. قالَ يوحنا الفم الذهب إِنَّ الله هو الذي يتداركنا في اللحظة الأخيرة من العمر. الكمالُ في اللَّحظة الأَخيرة هو من الله ولو جاهدَ الإنسان ألفَ سنة. هذا هو واقِعُنا.
علَّمَنا يوحنا السُلَّمي أَن لا ندينَ أَحداً قبلَ الوفاة. في ساعة الوفاة الَّذين هُم لله والَّذينَ قلبهُم فوق هم لفوق، والَّذين قلبهم أَسفل يهبِطونَ الى أَسفلَ. اللهُ هو الديَّان. لا ندري متى يفتقدُنا اللهُ. اللهُ قريبٌ من مُنسحقي القلوب ولكنَّهُ قريبٌ أيضاً من كلِّ الضُعفاء ومن كلِّ الَّذينَ عضَّهُم الدهرُ بنابِهِ وأَلقاهُم أَرضاً وقريبٌ من الَّذينَ صاروا في حالةِ هلاكٍ ودمار.
علينا أَن نصلِّيَ لكي يتداركَ اللهُ كلَّ الواقعين، ويُخرج من اللجَّة كل الغرقى. في الكونِ بؤسٌ شديد، فهل نصلِّي من أَجلِ البائسين، هل تلتهبُ قلوبَنا كما التهبَ قلبَ الكنعانيَّة على ابنتها؟ أَلم يطلب يسوع من عبيدهِ أَن يكونوا شديدي الإِهتمام بالآخرين؟ ولكنَّ الأَنانيَّة سرطانٌ خبيثٌ تجعلُ الناسَ منكمشينَ على أَنفسهِم عائشينَ في ظُلُماتِ الأَنانيَّة والإِنكماشيّة، كأَنَّهم في سراديبَ تحت الأَرضِ لا تتمتَّع بنورِ المسيح. يسوعُ المسيح الغيرُ المحدود في الزمانِ والمكان قريبٌ من جميع الواقعين.
وليَثِق جميع الواقعين بأَنَّهم أَقربُ المقرَّبينَ الى الله وما يبقى عليهِم إِلَّا أَن يفتحوا صدورَهُم ليسوع لكي يملأَها من حضرتِهِ الإِلهيَّة. على كلِّ الَّذينَ هم في الشدَّة أَن يصلُّوا كما علَّمَنا يعقوب الرسول، عليهم أَن يلقوا كلَّ همومهِم ورجائهِم على الله الآب وابنِهِ يسوعَ المسيح لهما مع الرُّوح القُدُس المجد والإِكرام الى أَبد الآبدين ودهر الداهرين آمين.
الإِنسانُ العملاق الَّذي صنعَ الحضارة المعاصِرة التي بلَغت ذروةً كبيرةً، هو هو نفسُهُ قد يُحرقُ غداً الجنسَ البشري برمَّتِهِ. الإِنسانُ المخلوق على صورةِ الله ومثالِهُ الساقط هو قادرٌ على البراعة في القداسة، وفي النجاسة وأَعمال الشر. هذا التناقض الكبير في النفس البشريَّة يلفتُ النظر اليوم.
الظروف الحضاريَّة برمَّتِها من ديانة وفلسفة وعمل ونظام إِجتماعي وسياسي وقوانين ومحاكم وقواعد اجتماعيَّة، ضغطَت بنسبةٍ ما على عدوانيَّة البشر ولكنَّها تبقى كامنةً تحت الرماد، ومتى انفجرت أَحرقت البشر على وجهِ الكُرة الأَرضيَّة. التربية تخلقُ العدوانيَّة بنسَب مختلفة فتحوِّلهُا دينيًّا إلى فضائل أَو إلى العمل والرياضة والإِنتاج والدراسات وشتَّى المجالات الإِجتماعيَّة. ولكن هذه القوَّة العدوانيَّة هي قابلة لأَن تعودَ إلى أَصلِها العُدواني فترتكبَ الجرائم.
لا شكَّ أَنَّ المسيحيَّة نجحت في إِخراج ملايِّين عديدة من الأَبرار والقدِّيسين والصدِّيقين ونجحت أيضاً في تحسين سلوكِ الباقين من المؤمنين بنسبةٍ كبيرة متنوِّعة متدرِّجة ذات مستويات مختلفة باختلافِ بني البشر. لكلِّ إنسان قِواه ولكنَّ الإِنسان مزاجيٌّ بنسبةٍ كبيرة والتسلُّط على المزاج يحتاجُ إلى نضالٍ روحيٍّ كبير. مراقبة حركات الإنسان الداخليَّة والخارجيَّة تحتاجُ إلى ضميرٍ حيٍّ كبيرٍ، ومهما كان هذا الضميرُ حيًّا قد يرتكبُ المرءُ شطَطاً. مهما قمَعنا الغضب والنرفزة تبقى الرواسبٌ بسيطة تظهرُ في الكلام والحركات ولو بنسبةٍ محدودة مضغوطة مكبوسة مقموعة.
الغلَيان الداخلي موجودٌ دائماً في القدِّيسين، إِنما محوَّلٌ إلى طاقاتٍ روحيَّة ولكن خطر الإِندلاع يبقى ممكناً. النجاح المطلَق في تحويل الغضب إلى الأَعمال الصالحة بالصبر وطول الأَناة والمحبَّة والعمل والإنتاج والإِيجابيَّات يقتضي جهوداً كبيرةً، والنجاحُ مضمونٌ بنِسَبٍ مُختلفة.
والآن ماذا نقول؟ الإِنسانُ عملاق بلا شك. صنعَ الحضارة والمدَنيَّة، وهو يدلُّ عن صورة الله الخلَّاقة ولكنَّ السقوط جعلَهُ ايضاً جحيماً من الخطايا والآثام والإِستعدادات العدوانيَّة. هل هي الحريَّة أَن يكونَ الإِنسانُ قبيحٌ يرتكبُ الآثام ظاهريًّا أَو باطنيًّا؟
الحلُّ مفقودٌ لأَنَّ الإِنسانَ شرِّيرٌ منذ حداثتهِ. ولكن يبقى المسيح هو الرجاء الأوحد لخلاص الجنس البشري. المسيحيُّ الحقيقيُّ يعتبر نفسهُ غريباً على وجهِ الأرض ومُشتاقاً إلى ملكوت السموات. يطردُ عشقاً بعشقٍ كما يقول يوحنا السلَّمي، أَي أنَّهُ يعشق الله ويطردُ عشقَ الجسد لأَنَّ الجسَدانيَّات هي سبب الشر. نصَحَنا بولس في غلاطية 5 أَن نصلبَ الجسد وأَهواءَهُ وشهواته. ورجال السياسة جسَدانيُّون، إِلَّا مَن هداهُ الله.
يوم الصعود الإِلهي قالَ الربُّ يسوعَ المسيح للتلاميذ: ليس لكم أَن تعرفوا الأَوقاتَ والأَزمنة التي جعلَها الله في سلطانهِ. معرفة الأَوقات والأَزمنة إِذاً من اختصاصِ الله وحدهُ ولا علاقَةَ للبشرِ في ذلك.
يتساءَلُ الناس كثيراً عن آخرةِ الدنيا بسببِ ما يسمعونَ بهِ من حروبٍ هنا وهناك. تلكَ هي علامات ولكن لا نعرفُ الساعة. الساعة لا يعلمُها إِلَّا الثالوث القدُّوس. ولكن هناك معطيات ماديَّة وهي القنابل الذريَّة. عُلماء الذريَّات والسياسيُّونَ الكِبار قد يحرقونَ يوماً الكرة الأَرضيَّة، فالأَمرُ بيَدِ نزواتهِم. العِلمُ هو سلاحٌ ذو حدَّين: يصنعُ الأَسلحة والقنابل الفتاكة ومن جهةٍ أُخرى يصنعُ الإكتشافات الطبيَّة والأَدوية وعمران المدن والبلاد وتحسين الأَحوال المعيشيَّة.
الإِنسانُ في النهاية هو مصدر بركات ومصدر دمار، والخطيئةُ هي السبب. والشيطانُ هو الذي يسُود على الأَشرار. نجَّانا الله من شرورهم جميعاً وحَمى الكرة الأَرضيَّة من شرورِ رجال السياسة والمال ومخترعي السلاح وزادَ الناسَ إيماناً وتقوى لينتصروا على أَنفسهم بشفاعة سيِّدتنا والدة الإِله وجميع القدِّيسين، آمين.