الموت بحسب الليتورجيّة الأرثوذكسيّة
الاب سيرافيم كركور
لقد عبّرت المسيحية عن المفهوم الجديد للموت بالحلّة التي ألبستها له من خـلال طقوسها الليتورجيّة. “إن ليتورجيا الموت في المسيحية لا تبدأ ببلوغ المرء النهاية، التي لا مفرّ منها، وتسجية جثمانه في الكنيسة لأداء الشعائر الأخيرة، فيما نقف من حول نشهد بحزن، مذعنين إزالة إنسان ما إزالة مهيبة عن عالم الأحياء. إن حياة الكنيسة وليتورجيّتها هي السرّ الكنسيّ الخاص بموتنا، لأن حياة الكنيسة برمّتها هي إعلان موت السيّد والاعتراف بقيامته. ومع ذلك فإن المسيحيّة ليست دينًا محوره الموت”.
طالما ارتبطت البشارة بيسوع المسيح بعنصرها الأوّل، قيامة المسيح من بين الأموات، فقد حدّدت الكنيسة طقوس الدفن على مفهوم قياميّ مرتبط بقيامة الرب يسوع المسيح. فيُذكر في كتاب البنديكوستاريون “أيّها المسيح، بقيامتك من بين الأموات لم يعد للموت سبيل لأن يسود على الراقدين عن حسن عبادة”. ويقول القديس الرسول بولس: “أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله وأنكم لستم لأنفسكم”. انطلاقاً ممّا سبق من أقوال وغيره من تعاليم الكتاب المقدّس عن أهميّة الإنسان ككل، نفسًا وجسدًا، لا يحرق المسيحيّون أجساد موتاهم، لأنهم يؤمنون بأنها ستقوم بمجد في اليوم الأخير، وستتّحد هذه الأجساد- الممجَّدة بالقيامة- مع النفوس عند المجيء الثاني للرب يسوع المسيح. إنّهم يغسلونها جيدًا، كما جرى مع بطرس عندما أقام طابيثا (أع37:9) ويدفنوها بكل احترام ووقار ويرتّلون قطع تتضمّن في فحواها القيامة والراحة الأبديّة. وقد جرت العادة قديمًا أن يكفّنوا الميت بكفن أبيض رمزًا للقيامة. وتوصي القوانين الرسوليّة (8:42) بعمل الذكرانيّات من أجل نفوسهم: “تُعمل الذكرانيّات للراقدين: في اليوم الثالث بالمزامير والقراءات والصلوات، وذلك على رجاء قيامة الرب الثلاثيّة الأيام. وفي اليوم التاسع لإعادة الذكرى، والأربعين حسب النموذج القديم. هكذا رثى الشعب موسى قديمًا. وفي كلّ سنة يذكرونه ويعطون للفقراء من ممتلكاته من أجل ذكراه”. فيذكر سنكسار سبت الأموات في كتاب البنديكستاريون: “في السبت قبل العنصرة نكمّل فيه تذكار جميع الراقدين منذ الدهر على رجاء قيامة الحياة الأبديّة من آبائنا وإخوتنا المستقيميّ الرأي”. وكذلك بالنسبة لسنكسار سبت الأموات الوارد في كتاب التريوديون: “في هذا اليوم فرض لنا الآباء الإلهيّون تذكار جميع الراقدين منذ الدهر بحسن عبادة على رجاء الحياة الأبديّة”.
فأوّل ما يُرتل في البيت ثم في الكنيسة وأخيرًا عند الدفن، الترنيم المثلث التقديس (قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الذي لا يموت، ارحمنا)، على رجاء أن يقف الراقد مع صافات الملائكة التي ترتل بدون انقطاع التسبيح المثلّث التقديس، وهذا نراه جليًّا في الصلوات المختصّة بهم: “ليس أحد أيها المنزّه عن الموت ليس أحد من الناس بلا خطيئة إلاّ إيّاك وحدك. فرتّب عبيدك بما أنك إله رؤوف في مكان الضياء مع صافات ملائكتك، صافحًا بحنانك عن خطاياهم ومانحًا لهم الغفران” . وكذلك عندما يوضع على الطاولة في الكنيسة متّجها شرقًا لأن الرب يسوع، آدم الثاني، قد جاء من المشارق من الفردوس حيث كان آدم الأول. وعند الدفن يسجّى في مثواه الأخير ووجهه متّجه شرقًا منتظرًا مجيء الرب ثانية ليدين الأحياء والأموات، ثم ترتّل الكنيسة “ليكن ذكره مؤبّدًا”.