الفرديَّة أَم الشَرِكَة
بقلم المعلم الأنطاكي الشماس
اسبيرو جبور
الفرديَّة أَم الشَرِكَة موضوعُ هامٌّ في العهدِ القديم وبخاصَّة في العهدِ الجديد. سفر التكوين مهمٌّ بالنسبةِ لبِداياتِ العالم، افتَتَحها الكاتب بلَفظة: ” في البَدءِ “، ” في البَدءِ خَلَقَ الله السمواتَ والأَرضَ “. يوحنا الإِنجيلي قلَّدَ هذه العِبارة ولكن في معنىً آخر فقال: ” في البَدءِ كانَ الكلِمَة “.
لفظَةٌ واحدةٌ: ” في البَدءِ” خَلَقَ اللهُ السَمواتَ والأَرض، أَي في بدايةِ الزمانِ والمكانِ خَلَقَ اللهُ العالم، فابتدأَ الزمانُ والمكان. وفِعلُ الخَلْق في الكتابِ المقدَّس هو فِعْلٌ فَوريٌّ لإِنَّ اللهَ قادرٌ على كلِّ شيء، وليس فِعلاً متتابعاً كما في الخَرافات. في الإِنجيل: “في البَدء كانَ الكلِمَة” . المعنى في اليونانيَّة لا يُترجَم الى العربيَّة، في الفرنسيَّة نقول : était وفي الإِنجليزيَّة نقول: was. أَي حينَ ابتدأَ العالم كان الكلِمَة يسوع موجودٌ، وهو موجودٌ قبلَ الزمانِ والمكان، موجودٌ في السَرمدِيَّة التي لا بدايةَ ولا نهايةَ لها.
اللهُ صنَعَ هذا الكَون عجيباً غريباً وكلُّ شيءٍ فيهِ يدُلُّ على عظَمةِ الخالق. لم تستطِعْ التلسكوبات المتطوِّرَة أَن تَرقَبَ نهايةَ هذا الكَون. في كلِّ حينٍ، نسمعُ عن كواكبَ جديدة ومجرَّاتٍ جديدة وعوالمَ جديدة، فهذا الكَون الفسيح لا ندري أَين يبتدئ ولا أَينَ ينتهي ولكنَّهُ يدُلُّ على عَظَمَةِ الخالِق. وأَعظَمُ ما في هذا الكَون هو الحياة إِن كانت بِدائيَّة أَي خَلِيَّة واحدة، أَو إِن كانت متَطَوِّرة كما في الحيواناتِ الكُبرى وبخاصَّةً في الإِنسان. الإِنسانُ هو أَكبرُ معجِزة في هذا العالم كلِّه، فهوَ الكائنُ الوحيد المتطوِّر الَّذي يبدأ صِفراً وقد ينتهي فيلسوفاً أَو عالماً أَو لاهوتيًّا او شاعراً أَو كاتباً أَو محامياً أَو قاضياً وغيرُ ذلكَ. والإِنسان وحدَهُ هو الَّذي صَنَعَ الحضارة والمدنيَّة والثقافة والفِكر واخترعَ الُّلغات والكِتابة.
خلَقَ اللهُ الكَونَ كلَّهُ بقدرتِهِ الإِلهيَّة العظيمة، ولما جاء دَورُ خَلْقِ الإِنسان كانت العنايةُ الفائقة. في سِفر التكوين استعملَ الكتاب الَّلفظة نفسَهَا للحيوان وللإِنسان (أَي خَلَقَ)، إِنَّما مَيَّزَ الإِنسان بشيءٍ آخر وهو أَنَّ اللهَ نفَخَ فيهِ من روحِه. وجاءَ في السِفرِ نفسِه أَنَّ روحَ الله كان يحتضِن المياه ويُرفرِف فوقها. هذه عبارة مهمَّةٌ جدًّا، أَي أَنَّ الخالق ليسَ مادَّةً بل هوَ روحٌ كما قال يسوع للسامريَّة ” اللهُ روحٌ “.
نفَخَ اللهُ من روحِهِ في الإِنسان فصارَ هذا كائناً روحيًّا، صار شخصاً بشَريًّا فيه روحٌ وجسد. ليس جَسَداً حيًّا كالحيواناتِ فقط، بل هوَ جسَدٌ يحوِي روحاً عاقِلةً حُرَّةً مستَقِلَّةً. وخَلَقَ اللهُ حوَّاءَ لآدم لتكونَ عَوناً لهُ. فإِذاً، لو بَقِيَ آدم وحدَهُ لعاشَ شيئاً من وَحشةِ الوجودِ والفرديَّة والعُزلة. خَلَقَ لهُ حوَّاء عَوناً شريكاً يُقاسِمُهُ المصيرَ والحياة. في سِفر التكوين وفي إِنجيل متَّى وإِنجيل مرقس نرى متانة الروابط بين الرجل والمرأة والتصاقِ الرجل بامرأَتِه والتصاق المرأة برَجُلِها. في هذه النصوص نرى أَنَّ اللهَ خَلَقَهُما من البدءِ ذَكَراً وأُنثى، لذلك يتركُ الإِنسان أَباهُ وأُمَّهُ ويلزَم امرأَتَهُ فيصيرانِ كِلاهُما جسداً واحِداً، وما جَمَعَهُ الله لا يُفَرِّقُهُ إِنسانٌ.
الربُّ يسوع أَعاد على السامعينَ من الفَرِّيسيِّين الَّذينَ طرَحوا عليه السؤال الى سِفرِ التكوين أَي الى بداية الخَلق أَي الى شريعةِ الله الأُولى، وعلَّقَ على ذلكَ بأَنَّ موسى سمحَ لهم بالطَلاق بسببِ قسَاوةِ قلوبِهم، أَمَّا في البَدءِ فلَمْ يَكن الطلاقُ مطروحاً.
فإِذاً في الأَساس، الشَرِكَة هي الأَساس والإِنفصال غيرُ مرغوب. سقَطَ آدم وسقَطَت حوَّاء بخِداعِ الشيطان. في الفصل الأَوَّل من سِفر التكوين نرى اللهَ مُعجَباً بكلِّ ما صنَعَ لأَنَّهُ حسَنٌ. اللهُ يصنَعُ كلَّ شيءٍ حسَناً، فإِذاً اللهُ هو مصدرُ الخير ولا شرَّ فيهِ. من أَين أَتى الشرُّ إِذاً؟ أَتى بسقوطِ الشيطان المتكبِّر، تكبَّرَ فسَقَطَ. بسببِ إِغراءِ الشيطان وحبِّ العظَمَة والكِبرياء، نرى سقوط آدم وحوَّاء. أَرادا التأَلُّه بقوَّتِهِما الذاتيَّة فَسَقَطا ولم يستطيعا إِلَّا أَن يُخالِفا الوصِيَّة الإِلهيَّة. سِفر التَكوين هنا رائع: اللهُ بريءٌ من الشرِّ كُليًّا، الشرُّ هو خطيئةُ الشيطان وخطيئةُ آدم وحوَّاء. آدم وحوَّاء كانا بريئَين في الجنَّة ولكنَّهُما سَقَطا، وكان سقوطهُما هائلاً ولكن ليسَ بدرجةِ سقوطِ الشيطان. اللهُ رحمَهُما لأَنَّ الشيطان أَغراهُما وطردَهُما من الجنَّة، والجنَّةُ كانت حديقةٌ وليست الجَنَّة الَّتي لنا في الآخِرة أَي في السماء. الآباء القدِّيسين يقولون إِنَّ آدم وحوَّاء كانا بتولَين في الجنَّة، لم يُمارسا الجِنس إِلَّا بعدَ سُقوطِهِما. وَلدا الأَولاد، فقتَلَ قايين أَخاهُ قابيل حَسَداً وغَيرةً. فإِذاً، منذُ البِدايةِ الشرُّ موجودٌ. صارَ التوالُدُ عن طريقِ الحَبل، والحيواناتُ تحبَلُ ايضاً ولكنَّ الفارقَ كبيرٌ جداً بينَ الإِنسان والحيوان. الحيواناتُ في البريَّة تَلِدُ فيخرجُ الولدُ من بطنِ أُمِّهِ ويمشي فَوراً ويرضَعُ بدونِ أَن يدُلَّهُ أَحدٌ على حلَمَةِ أُمِّهِ، كيف هذا؟ هكذا خلَقَ اللهُ الحيوانات تتصرَّفُ كأَنَّها عاقِلة وهي غيرُ عاقِلة. أَمَّا طفلُ الإِنسان فَيولَد عاقِلاً وعاجزاً. لا تطرَحهُ أُمُّهُ في الأَرض بل تتلقَّاهُ بينَ يدَيها. لا يعرف كيف يتناول حَلَمة أُمِّه فتساعِدُهُ على ذلك ليرضع. لا يستطيع أَن يخدُمَ نفسَهُ بل يحتاج الى أُمِّه وأَبيه وإِخوتِه فيتلقّى المعرفة في البيت، في المدرسة في الجامعة وفي المجتمع.
في هذا العالم اليوم صار الناس في كلِّ الكرة الأَرضيَّة متضامنينَ متنازعين بنسبةٍ كبيرة. صارَ الإِنسانُ محتاجاً الى الإِنسانِ الآخر على نطاقٍ واسع لأَنَّ كلُّ شيءٍ يحتاجُ الى اختصاصيِّين، وما من فردٍ يستطيع أَن يجمعَ كلَّ الإِختصاصات. هناك تكاتُفٌ وتضامُنٌ بين أَفرادِ البشر اليوم وإِن كانت مشاغِلُهُم تصرفُهُم عن الإِنتباهِ الى هذا التلازم. الكُلُّ منهوكٌ بالعمل والدراسة والإِجتهاد ولا فراغَ للتأمُّلِ الفلسفي واللَّاهوتي والعِلمي والإِجتماعي. يوجد نقصٌ في تربيةِ الإِنسان المعاصر لأَنَّ التعليم لا ينبِّهُهُ الى هذا التلازم بينَ أَبناء الجنس البَشري. يتحزَّب الفرد لجِنسِهِ، يتحزَّب لقومِهِ، يتحزَّب لوطنِهِ، يتحزَّب لدينِهِ، يتحزّب لعدَّة أُمورٍ أُّخرى، فيضيقُ عقلُهُ عن استيعاب الكونَ كلَّهُ في قلبِهِ، ليضَعَ في قلبِهِ الكونَ بِرُمَّتِه مع السبع مليارات نسمة. هذا نقصٌ كبيرٌ في الثقافةِ المعاصرة.
المحدوديَّة، الأَنانيَّة، الحِزبيَّة، العصبيَّة، كلُّ هذه عيوب تُلوِّث الإِنسان. نحن بِحُكم الطبيعة مُرتبطونَ بالأَهل والصَحب والمعارف والكَون والوطن والكُرة الأَرضيَّة. إِنتهى الزمانُ الَّذي يقومُ بيتٌ واحدٌ بكلِّ حاجاتِه. حاجاتُ كلُّ واحدٍ منَّا هوَ ثمرةُ تعاون، فالتجارة العالميَّة تقومُ على التبادلِ بينَ الدول والأُمَم والشعوب والإِختراعات الكُبرى تَعُمُّ الكونَ كُلَّهُ وهيَ مُلكاً مشتركاً للبشريَّةِ جَمعاء. كلُّ شيءٍ صارَ مشتركَاً بين الجنس البشري.
تطوَّرَ المجتمع الأَوَّل الَّذي كانَ مؤلَّفاً من حوَّاء وآدم، ثمَّ من حوَّاء وآدم وأَبنائهِما الى سبعة مليارات نسمة على وجهِ الأَرض. الفوارق الجسديَّة لا تعني وجود فوارق بشريَّة. فلأَسبابٍ عديدة منها تاريخيَّة وطبيعيَّة، تختلف بنيَة الإِنسان من حيثُ الَّلون والكَسم والطول وإِنَّما هذا لا يعني أَنَّ الصيني والياباني والهِندي والأَفريقي يختلفُ عن الإِنسان الأُوروبي. الخلافات الجسديَّة بين الأَعراقِ البشَريَّة لا تصنعُ فوارقَ نفسيَّة. يبقى الإِنسانُ في كلِّ الدنيا قابلٌ للحضارة والمدنيَّة والثقافة متى اجتمعَت لهُ الظروف الإِجتماعيَّة بذلك. والإِنسانُ بطبيعتِهِ كائنٌ متطوِّرٌ ولكنَّهُ لا يتطوَّر عفويًّا إِنَّما يتطوَّر بفَضلِ المجتمع. التجربة أَثبتَت أَنَّ البشر في العالم كلِّه هم من عرقٍ واحدٍ وأَصلٍ واحدٍ والعِلمُ لا يُكَذِّب ذلك. كلُّنا أُسرةٌ واحدةٌ لا يُمزِّقُنا إِلَّا شَرُّنا، وخطيئتُنا هي السبب في التمزِّقِ والإِختلافات. لولا الخطيئة لَكُنَّا أُسرةً واحدة مُتحابَّة. الخطيئة هي الإِسفين المزروع في قلوبِنا والَّذي يُشَوِّهُنا.
نقَلَنا التطوُّر من المجتمع العائلي الى المجتمع القَبَلي، الى المجتمع المدَني والدُوَل الكُبرى.كان الخلاف في القديم بين قايين وهابيل، وفي عصر الحضارة والمدنيَّة في العصر الحديث رأينا الأُمَم الكُبرى تتقاتَل وتُسقِطُ عَشَرات الملايِّين من البشَر بسلاحٍ اخترَعَتْهُ الشعوب التي تدَّعي الرُقِيّ والمدنيَّة. والأَغرب ما في هذا العالم أَن يُقدِمَ بَشَرٌ يُسمِّيهُم البشَر “عُلَماء” على اختراعِ القنابل الذَريَّة وسِواها. كيف استطاعَ الشيطان أَن يُسَخِّر العِلم المتطوِّر في السلاح الذرِّي؟ هذا أَغربُ ما في الإِنسان. هذا الإِنسان المخلوق على صورةِ الله ومِثالِه، هذا الكائن الروحاني الوحيد في الكَون، يقتُل أَخاهُ الإِنسان! هذه آفةُ التاريخ.
قبلَ أَن يبدأ البشَر في القرن الماضي بِكتابة تاريخ الحضارات، ما كانت التواريخ إِلَّا تواريخَ حروب وتواريخَ قادة عسكريِّين. كان الإِنتفاخُ كبيراً بالقادةِ العسكريِّين الَّذينَ خاضوا المعاركَ بنجاحٍ. وأَيَّةُ معارك؟ معارِك قتلِ الإِنسان. الإِنسانُ عظيمٌ حقًّا، ولكنَّهُ حقيرٌ حقًّا. قد يكونُ ابنٌ للسماء وقد يكونُ ابنٌ للجحيمِ في آنٍ واحد.
مَيلُ الإِنسان الى الفرديَّة إِذاً موجودٌ منذُ سقوط آدم وحوَّاء. ينشاُ الطفل أَنانيًّا، يعشَق الحليب ويتمركز على ذاتِه وينحصر في ذاته، لا يتمدَّد خارجيًّا إِلَّا بصعوبة وخوف. عندهُ ميلٌ قويٌّ جداً للنقوصِ الى الوراء، وفي الأَحلام يعودُ الى بطنِ أُمِّه فيرى نفسه في أَماكنٍ مغلقةٍ. بعضُ الناس ينامون وهُم منكمشون كما كانوا في بطونِ أُمِّهم. النقوصُ الى الوراء هو واضحٌ في الأَحلام وعند الصَدَمات. والخوفُ مركَّبٌ فينا منذ الطفولة، فلذلك وَضعُ الإِنسان في العالم معقّدٌ جدًّا.
الخوفُ وحركةُ النقوص الى الوراء أَساسيَّتان للإِنسان. ومهما ارتبطَ التقدَّم بالشجاعة فإِمكانيَّة النقوص الى الوراء هي دائماً موجودة. النقوص الى الوراء هو التفافُ المرءِ حولَ نفسِهِ فيبقى باستمرار، هوَ مركزُ نفسِه. والإِنسانُ الساقط أَنانيٌّ بامتياز. القدِّيس مكسيموس المعترف استعملَ لفظة استعملَها بولس الرسول هي: “فيلَستِيَّا” والصِفةُ منها هي “فيلَستوس”. استعمَلتُ الكلمة “فيلَستِيَّا” في كتابي ” في التوبة ” وشرَحتُها لُغَويًّا. الأَهواءُ هي أَهوائي تصدُر منِّي ومرتبطَة بشخصي ومرتبطة بأَنانيَّتي. أَنا مرتبطٌ منذُ الولادة بالرضاعة، أَنمو وأنا مرتبطٌ بِذاتي ومهما أَنفتِحُ على الآخرين أَبقى مرتبطاً بِذاتي، وأَهوائي مُرتبِطةٌ بِذاتي فأَهوائي هي أَهوائي أَنا، لا أَهواء الحِجارة. وبما أَنِّي إِنسانٌ ساقطٌ، فلَديَّ أَهواءٌ ساقِطة ومنبوذَة في إِرضاء الحياة جسَدا لا روحاً. القِوى الروحيَّة تنشأُ بفَضلِ العيش المشترك وبفضلِ التربية. فإِذاً أَنا مرتبطٌ بالجسد وارتباطي بالجسد يقومُ على أَساس التعلُّق بذاتي، على أَساس محبَّة ذاتي. فأَنا في البدايةِ عبدٌ لأَهوائي، لشَهواتي، لرَغَباتي ولحاجاتي الجسديَّة وأَبقى مدَّةً من الزمن عبداً لهذه الحاجات. الحياة الإِجتماعيَّة والثقافيَّة تُبَدِّلُ من هذه الحاجات وتُطَوِّرُها وتُعَدِّلُها، ولكن كلُّ شيءٍ يبقى مرتبطاً بذاتي فأَبقى أَنانيًّا مصلحجيًّا. أَهوائي متضاربَة وليست كلُّها خَيراً. لدَيَّ أَهواء شرِّيرة ولديَّ ميلٌ الى العُدوان، الى الضرب والى الأَذى. منذُ الصِغَر أَنا مُعقَّدٌ بسبب رؤيةِ الآخرين أَطوَل منّي، أَغار وأُريدُ كلَّ شيءٍ لِذاتي لا للآخرين. في هذا الواقع الفاسِد الساقِط الَّذي يسبِّب للمسكونة الشرورَ، ما هو موقف المسيحيَّة؟
في سِفر التكوين نرى الطوفان يأخذُ البشَر. والربُّ يسوعَ المسيح له المجد ذكرَ الطوفان وحذَّرَنا من الطوفان الآتي الَّذي سيأخذُ البشر على حينِ غفلةٍ وهُمْ غيرُ مستعدِّين، منهمكين بالطعام والشراب والِّلباس والتجارة والكسب والربح …
ذَكَرَ الربُّ يسوع سَدوم وعَمورة وذكرَ فساد الشعوب القديمة وبخاصَّة فسادَها في العلاقات الجنسيَّة المنحرفة الفاسِدة. الفسادُ إِذاً كان منتشراً قبل الإِنجيل، والعصور الحديثة ليست بأَفضلِ حالٍ من القديمة. في الحرب العالميَّة الثانية مات ستين مليون قتيلاً فضلاً عن الدمار والخراب والأَرامل والمعوقين والجياع والعطاش والعُراة ودمارُ المنازل والمعامل والحضارة والمدنيَّة ودُور الثقافة. وكلُّ وحشيَّات التاريخ السابقة للحرب العالميَّة الثانية لا تُعادِل القنبلة الذريَّة على هيروشيما.
ما يحزُّ في الصَدر، أَن تكونَ شعوباً متمدِّنةٌ هي التي ارتكبَت هذه الوحشيَّات واخترعت هذه الإِختراعات الجهنَّميَّة الشيطانيَّة. فيا للأَسَف الشديد! دُوَلٌ متمدِّنَة تستعملُ الهلاك، تستعملُ الفَتك وتُوقِع عشَرات الملايِّين من القَتلى والجرحى واليتامى والأَرامل والفُقراء والمحتاجين والجياع والعطاش والعُراة.
في العهد الجديد كلُّ شيءٍ جديد. ” هُوَذا كلُّ شيءٍ قد صارَ جديداً “. يوحنا الإِنجيلي قال في رسالتِه الأُولى: “لنا شَرِكةٌ مع الآب والإِبن”. بولس الرسول قال في آخر رسالتِهِ الثانيَة الى أَهلِ كورنثوس: “هامَةُ ربِّنا يسوعَ المسيح ومحبَّةُ الله وشَرِكَة الرُّوح القُدُس فلتَكُنْ معَكم جميعاً “. فإذاً في العهد الجديد لنا شَرِكة مع الآب والإِبن والرُّوح القُدُس. الأُسُس العقائديَّة في العهد الجديد هي الكلُّ في الكلِّ. نؤمن بإلهٍ واحدٍ في ثلاثةِ أَقانيم: الآب والإِبن والرُّوح القُدُس. لهُم جوهَرٌ واحد.
الإِله واحد لأَنَّ الجوهر واحد ولأَنَّ الآب واحد. الشَرِكة بين أَقانيمِ الثالوث القدُّوس هي شَرِكة مُطلَقة. الجوهر ليس مقسوماً بين الثلاثة بل لكلِّ واحدٍ منهُم. هو بِرُمَّتِه للآب، بِرُمَّتِه للإِبن، وبِرُمَّتِه للرُّوح القُدُس. أَن نصيرَ واحداً كما أَنَّ الآبَ والإِبن واحد، هذا لا نستطيع أَن نصِلَ إِليهِ ولكِنَّهُ في المسيحيَّة هو غايتُنا الكُبرى، فنحنُ واحدٌ في المسيح وواحدٌ في الآب. وِحدَتُنا أَمرٌ رئيسيٌّ في المسيحيَّة، والإِنجيل ركَّزَ على ذلك.
تجَسُّد يسوعَ المسيح هو نقطةٌ مركزيَّة في تاريخِ البشريَّة لأَنَّ الإِلهَ صارَ إِنساناً ليجمعَ البشر في ذاتِه كأَعضاءٍ في جسدِه. مئات الملايِّين ليسوا في المسيح إِلأَّ واحداً، لأَنَّهم أَعضاءٌ في جَسَدِه. الجسدُ هو واحدٌ وهو جَسَدُ يسوع المسيح. كلُّ واحدٍ منَّا هو عضوٌ للآخر وهو مُطالَبٌ بأَن يهتمَّ بالآخرين قبل أَن يهتمَّ بذاتِه.
قد جاء في الفصل 12 من رسالة بولس الأُولى الى أَهلِ كورنثوس، الآية 12 : ” كما أَنَّ الجسدَ واحدٌ ولهُ أَعضاءٌ كثيرة وأَنَّ أَعضاءَ الجسد على كَثرَتِها إِنَّما هيَ جسَدٌ واحدٌ كذلك المسيحُ ايضاً، فإِنَّا جميعاً اعتَمَدنا بروحٍ واحدٍ لِجَسَدٍ واحدٍ …”
وجاء في الفصل 4 من رسالة بولس الى أَهلِ أَفسس الآية 4: ” فإِنَّكم جسدٌ واحدٌ وروحٌ واحدٌ كما دُعيتُم دعوةً رجاؤها واحد”.
فإِذاً في هذَين النصَّين، نحنُ في يسوع ويسوع فينا. الذهبي الفم قالَ إِنَّ الرُّوحَ القُدُس ساكن في يسوع رأس الكنيسة، ومن الرأسِ ينسابُ الى كلِّ أَعضاءِ الجسم. نحنُ إِذاً أَعضاءٌ في جسد يسوع والُّروح القدُس واحدٌ يسكنُ فينا جميعاً فنُصبِح واحداً فيهِ. الربُّ يسوع قال لبولس: “لماذا تضطهدُني؟ ” لم يَكُن بولس يضطَهد يسوع، بل كانَ يضطَهد الكنيسة والكنيسة هي يسوع. يوحنا فم الذهب قال: نحنُ مرتَبطون بيسوع أَكثر من ارتباطِ الرأسِ بالجسد. نيقولاوس كاباسيلاس قال: نحنُ مرتبِطون بيسوع أَكثر من ارتباطِ النفس بالجسد. وفي أَفسُس استعمَلَ بولس مَثَل البِنيان: كُلُّنا حجارةٍ في بناءٍ حيٍّ وهو يسوعَ المسيح. في إِنجيلِ يوحنا: يسوع هو الكَرمة ونحنُ الأَغصان. نحنُ أَغصانُ الكَرمة، أَغصانُ يسوعَ المسيح. هُوَ موجودٌ فينا ونحنُ موجودونَ فيهِ. الرُّوح القُدُس يختُمُنا فيطبَعُ فينا يسوع إِبن الآب فنرى الآبَ في الإِبن المطبوع فينا. في روميَة: نحنُ مولودونَ من آدمَ للموت، ومولودونَ من المسيح للحياةِ الأَبديَّة. في روميَة وغلاطيَة نحنُ لبِسنا المسيح. في القربان نتناول جسد ودم الرب يسوعَ المسيح فنتَّحد بهِ ويتَّحِد بنا.
نعرف أَنَّ العنصرة المجيدة هي عيدُ حلولِ الرُّوح القُدُس على التلاميذ، والكنيسة هي جسدُ المسيح وامتدادٌ للتجسُّدِ الإِلهي لأَنَّ العنصرة هي ولادة الرُسل في المسيح. عمَّدَهُم الرُّوح القُدُس فَوَلَدَهُم بالمسيح. أَخَذَ الرُسُل يَلِدونَ الناس في المسيح بالمعموديَّة، ولذلك فالتجسُّد الإِلهي هو مستمرٌّ في العنصرة ليجمَعَ البشر في يسوع، وليسوع.
فإِذاً الشَرِكة في المسيحيَّة هي شَرِكَة عُضويَّة. لم تَعُدْ الشَرِكَة في المسيحيَّة ضَرورة حياتيَّة ليعيشَ الطفلُ بين أَهلِهِ، وينمو بينَ أَهلِهِ فيُحِبُّ أَهلَهُ وقد لا يُحبَّهُم كما يجِب بسبب الخطيئة. نعرف أَنَّ المجتمع ليس مجتمعُ محبَّة في كل الأَحيان لأَنَّ العَداوات مسترسِلة بنسبةٍ كبيرة، وما كلُّ الناسِ ملائكة إِنَّما معادِنَ، وعدَدُ هذه المعادن عدَدُ أَفرادِ البشر. يتقلَّبُ الإِنسانُ في حياتِهِ مليارات التقلُّبات، والثَباتُ في الحياة يعني الموت. الإِنسان بحاجةٍ دائمة الى تطوُّرٍ متواصل لا ينتهي ولا يتوقَّف إِلَّا بالموت. بعدَ الموت ننمو في يسوعَ المسيح وننمو في النورِ الإِلهي الى أَبدِ الآبدين باستِطرادٍ متواصِل، بلا توقُّف. في الآخرة تكون لنا حرَكة دائمة متواصِلَة بالنورِ الإلهي. على الأَرضِ نرى الكسَل والتواني والإِهمال والتنبلة، أَمَّا في الآخرة فنكونُ صواريخَ إِلهيَّة مستمرَّة الى أَبدِ الآبدين ودهرِ الداهرين آمين.
المسيحيَّة إِذاً هي الشَركة، والشَركة هي مع المسيح. شَرِكَتُنا هي شَرِكة عُضويَّة لا شرَكِة تقتضيها ظروفُ الحياة. كلُّ واحدٍ منَّا هو عُضوٌ للآخرين لأَنَّنا كُلُّنا موجودونَ في المسيح ونحنُ شُرَكاء معهُ. شُرَكاء في صلبِه ودفنِه وآلامِه وصعودِه الى السماء وجلوسِه عن يمينِ الآب.
نحن موجودونَ في المسيح ونحنُ شُرَكاء في التجسُّدِ الإِلهي. التجسُّد الإِلهي مستمرٌّ من وقت العنصرة والمعموديَّة، وهو يستمرُّ في كلِّ واحدٍ منَّا. هذا السرُّ الإِلهي ذو مفعول أَبَدي وهو حقيقةٌ واقعيَّة يوميَّة. كلَّما عمَّدنا إِنساناً، نكونُ وَلَدناه من المسيح وبالمسيح، وأَلبسناه المسيح. التجسُّد الِإلهي هو عقيدةٌ إِلهيَّة وحياتيَّة، وحياتُنا هي مبنيَّة على سرِّ التجسُّد الإِلهي. تجسَّدَ يسوع وذلك لِيتَّحِدَ بنا ونتَّحدُ بهِ ونصيرُ وإِيَّاهُ واحداً. لذلك قال يوحنا فم الذهب عبارَتَه: “أَنا صِرتُ إِيَّاكُم لتصيروا إِيَّايَ “. صارَ مثلَنا إِنساناً لنَصيرَ مثلَهُ آنيةً ولكن طبعاً بالنعمة.
إِتِّحاد الطبيعتَين في أُقنومِ يسوعَ المسيح هو أَمرٌ هامٌّ. اللهُ اقتربَ منَّا وصارَ واحداً منَّا، صار إِيَّانا ونحنُ مُتَّحِدونَ بهِ. عُلَماءُ لاهوت كثيرون وعلى رأسِهِم يوحنا فم الذهب قالوا عن التجسُّد الإِلهي: صِرنا نحنُ أَعلى من الملائكة. راجع النصوص والمراجع في الصفحتَين 64و66 من كتابي “سر التدبير الإِلهي”.
هناكَ شَرِكة في العهد الجديد. في أفسس5 الفصل 5 الآية 23: ” الرجل هو رأسُ المرأة كما أَنَّ المسيح هو رأسُ الكنيسة وهو مُخلِّصُ الجسد”. يشبِّه بولس اتِّحاد الرجل بالمرأة مثل اتِّحادِ المسيح والكنيسة. هذا يربط المؤمنين بعضهم ببعضٍ. هذه هي شريعة الشَرِكة، شَرِكَة الوِحدة بيسوع المسيح أَي أَن نصيرَ واحداً في يسوعَ المسيح وهذا يعني أَن نخرُجَ من أَنانيَّتِنا.
نحن في الكنيسة في وضعٍ خاص ولا شيءَ في العالم يُشبِهُ ذلك، لا الجسد ولا البُنيان ولا الكَرمة تُؤَدِّي المعنى مئة بالمئة لأَنَّ جسدَ يسوع أَطهرُ من جسدِنا فهوَ بِلا خطيئة، وبعد القيامةِ صارَ جسداً شفَّافاً مُشرقاً بالأَنوار جالساً عن يمين الآبِ في السماء. وجودُنا في هذا الجسد عن يمينِ الآب سيُعلَنُ بعد الموت وبعدَ القيامة بصورةٍ كاملة فنُصبحُ مُشرِقينَ بالنور الإِلهي. سيكونُ الأَبرارُ شموساً مُضيئةً في ملكوتِ الآب السماوي.
الجسد ممتلئٌ من الرُّوح القُدس، والرُّوح القُدُس موجودٌ في الكنيسة وهو الَّذي يعملُ فينا وهو الَّذي يُنمينا الى مِلء ِقامةِ المسيح. نحنُ ككلٍّ، ننمو في جسد يسوع كما في أَفَسُس الفصل 4 الآية 4: ” فإِنَّكُم جسَدٌ واحِدٌ وروحٌ واحِدٌ كما دُعيتُم دعوةً رجاؤها واحِد “.
نحنُ واحدٌ في المسيح كما في غلاطيَة الفصل 3 الآية 27 – 28: ” لأَنَّكم أَنتم الَّذين بالمسيح اعتمدتم، المسيحَ قد لبِستُم. ليسَ يهوديٌّ ولا يونانيٌّ، ليسَ عبدٌ ولا حُرٌّ، ليسَ ذَكَراً ولا أُنثى، فأَنتم كُلُّكم واحدٌ في المسيحِ يسوع”. في وكولوسي ايضاً، إِرتباطُنا بالرأس يسوع المسيح هو ارتباطٌ عضويٌّ قويٌّ وليس ارتباطاً بإنسانٍ عاديٍّ، هو ارتباطُ بإِنسانٍ مُتَّحِدٍ بالأُلوهة.
الشَرِكَة إِذاً بيننا هي شرَكِةَ عُضويَّة. نحن أَعضاءٌ بعضُنا لبعضٍ ونحن مُرتبطونَ بالرُّوحِ القُدُس الَّذي يجمَعُنا. نحنُ لسنا جمعيَّة ولا جماعة ولا مؤسَّسة عالميَّة، نحنُ مؤسَّسة إِلهيَّة. يسوع أَتى الأَرضَ فرَفَعَنا الى السماء، ونحنُ الآنَ في السماء بصورةٍ مستورة، ولكنَّ بعد الموت سنَكونُ في السماء بصورةٍ حقيقيَّة. روابِطُنا إِنَّما هي روابط عُضويَّة. كلُّ واحدٍ مِنَّا مرتبِطٌ بالآخر في المسيح وفي الرُّوح القُدُس. لنا آبٌ واحدٌ وهو الآبُ السماوي، وربٌّ واحدٌ وهو ربُّنا يسوعَ المسيح، ومعموديَّةٌ واحدة وإِيمانٌ واحدٌ.
الروابط البشريَّة هي محدودةٌ وتدومُ ما دُمنا على الأَرض وهذه الروابط قد تنقلب. فقَد ينقلِبُ أَصدَقَ الأَصدِقاء الى أَلَدِّ الأَعداء والربُّ يسوع قال: ” أَعداءُ الإِنسان أَهلُ بيتِه “. قد يختلف الأَب وابنُهُ والأُم وابنتُها والزوج وزوجتُه وقد يُصبِحُ البيتُ جحيماً بسببِ الخلافات الداخليَّة. الخطيئةُ موجودةٌ، والحالات الجنونيَّة موجودةٌ، وحالات الإِستبداد موجودة، وحالات العداوَة والكراهيَّة موجودة، والغَيرة والحَسَد موجودان. أَسبابُ التنافُر بين البشر عديدة ولا تُحصى. اليومُ عَسَل وغداً عَلْقَة. علاقاتُ البشر مضطربَة جداً والوفاء المطلق نادِر لأَنَّ الخطيئة تُشوِّهُ كلَّ شيءٍ. الإِنسانُ قادِرٌ على أَن يكونَ في السماء الثالثَة وأَن يكونَ في أَدنى درجاتِ الجحيم، وهو قادرٌ على التنقُّل بين الحالتَين. مِزاجيَّة الإِنسان معروفة وأَطوارُهُ معروفة. يتبدَّل كلَّ يومٍ ملايِّينَ المرَّات، فأَفكارُهُ متبدِّلة كرِمالِ الصحراء. وما يُميِّز الإِنسان عن الحيوان هو التبدُّل المتواصل ففي كلِّ لحظة هو إِنسانٌ غيرُ الإِنسان القديم بنسبةٍ ما.
التطوُّر موجودٌ في عالمِ الإِنسان فقط لا في عالم الحيوان، والشَرِكة بين البشر هي شَرِكَة إِلهيَّة لأَنَّ الرُّوحَ القُدُس موجودٌ فيها. هي شرَكِة في المسيح وليست شَرِكَة مساهِمة وشركة تضامُن مثلَ الشركات التجاريَّة. هي شَرِكة من نوعٍ آخر. جاءَ يسوع الأَرض ليحوِّلنا الى بشرٍ سماويِّين وليُعيدَنا الى الفِردَوس الحقيقي السَماوي لا فردَوس الأَرض. جاءَ يسوع ليبدَّلَنا جِذريًّا، لِيُغيِّرَ حالَتنا الخاطئة الساقطة وليُحوِّلَنا الى بشرٍ سماويِّين. جاءَ ليَخلُقَنا خِلقةً جديدةً وهو نفسُهُ كان خادمُ هذه العمليَّة. أَحَبَّنا، فأَتى إِلينا وصارَ مثلَنا وعاشَ بيننا وقَدَّمَ نفسَهُ ذبيحةً للآب. جاءَ لِيَغسُلَنا بدمِهِ الطاهر من كلِّ نجاسةٍ ومن كلِّ خطيئة، وليخلقَنا بدمِهِ الطاهر خِلقةً جديدةً فنَكونُ على صورتِهِ. نتشبَّهَ بهِ فنكونُ رحيمينَ كما هو رحومٌ، ونكونُ كاملين كما هو كاملٌ. والتشبُّه بيسوعَ المسيح هو طريقُنا.
في هذا الواقع السَماوي، الكلامُ ككلامٍ لا يُجدي نَفعاً كبيراً. المهمُّ أَن يكونَ الانسانُ ذا قلبٍ ناريٍّ مُتَّجهٍ نحوَ الله وأَن تكونَ كلُّ أَشواقِهِ قد تغيَّرَت وتبَّدَلت وصارَت متَّجهةً الى الله. وهذا يعني أَنَّهُ تخلَّصَ من الأَنانيَّة، من الفرديَّة، من الإِنكماشيَّة ومن التمركز على الذَّات. كلُّ هذا أَساسُهُ التربية الجيِّدة في البيت وفي المجتمع وفي الكنيسة. التربيَة المسيحيَّة تقومُ أَوَّلاً على تعميدِ الطفلِ باكراً ليلبَسَ المسيح وليَحُلَّ فيه الرُّوح القُدُس حتى ينموَ في المسيح. ومن ثمَّ تأَتي عنايةُ الأَهل بالطفل عنايةً خاصَّة تُمَكِّنُهُ من التخلُّص شيئاً فَشيئاً من أَنانيَّتِه، من انكماشِهِ ومن تَمركُزِه على ذاتِه فيتخلَّص من حُبِّهِ لذاتِه وحُبِّه لمحيطِهِ فقط، فينفتحَ على الآخرين ويصيرَ قلبَهُ كبيراً يَسَعَ الكَونَ بِرُمَّتِه وفي النهاية ليصيرَ مسيحاً جديداً يجمعُ في قلبِهِ البشرَ جميعاً، والحيوان، والنَبات، والكَوَنَ بِرُمَّتِه.
العمليَّة شاقَّةٌ جداً وتحتاجُ الى الصبر والى طولِ الأَناة ليتمكَّنَ للطفل أَن ينتقلَ من الأَنانيَّة والإِنكماشيَّة والنرجسيَّة والنُقوص والكَسَل والبِطالة والتَنبلة الى أَن يكونَ جندياً للمسيح، يعشَقُ المسيح ويستعدُّ لِبَذلِ ذاتِه كما بَذَلَ المسيحُ نفسَهُ.
المحبَّة المسيحيَّة تتجاوزُ محبَّةُ الزَوجَين الى آفاقٍ سماويَّة جداً. في محبَّة الزَوجَين تدخلُ العواطف البشَريَّة والجسديَّة في الحِساب. قد يكونُ الزَوجان روحانِيَّين صحيحَين، ومع ذلك يبقى للجسدِ دورٌ في علاقاتِهِما. أَمَّا محبَّةُ المسيح فهيَ تَحَوُّلٌ كاملٌ نحوَ المسيح ونحوَ الآخرين لنرى في كلِّ إِنسانٍ آخر يسوعَ المسيح. والتعاون مع الناس يكون على أَساس أَنَّ يسوعَ المسيح موجودٌ فيهم. كلُّ هذا يحتاجُ الى تلقينِ الأَطفال والشباب باكراً على القواعدِ المسيحيَّة، على السلوك المسيحيَّة، على الأَخلاق وعلى الإِيمان. المبادئُ شيءٌ والواقعُ شيءٌ آخر. المبدأ المسيحي هو سماويٌّ لا أَرضيٌّ، والبشَر هُم أَرضيُّون. عيوبُ المسيحيِّين إِذاً ليست عيوب الكنيسة والمسيح، هي عيوبُ آدم الَّذي ما زالَ يعملَ فيهِم ضدَّ المسيح. المسيحيُّون هُمْ مَيدانُ الصِراع الرهيب بين المسيحِ وآدم. كلُّ رداءاتِهم هي رداءَاتُ أَبَيهم آدم الموجود فيهم، وكلُّ حَسناتِهم هي حَسَناتُ المسيح. التحوُّلُ من آدم الى المسيح عمليَّةٌ شاقَّةٌ تحتاجُ الى تربيةٍ خاصَّة، ولذلك فدَورُ الأُم في التربية مهمٌّ جدًّا لتَنقُشَ في الطفلِ صورةَ يسوع باكراً وذلك بلُطفٍ، بِتأَنٍّ كبير وصبرٍ جميل، بدونِ ضغطٍ وبدونِ إِكراه. ينزِل الأَهل الى مستوى الطفل لتلقينِهِ المسيح على موجَبِ مستواه لا على موجَبِ مُستواهم، يُصعِدونَهُ السُلَّمَ درَجةً درَجةً بدونِ سُرعةٍ، بدونِ إِكراه، بدون ضغط، بدون تعسُّف، بدون شِدَّة، كلُّ شيءٍ يكونُ بِلُطُف.
مبدئيًّا إِذاً، المسيحيُّون هُم المسيح، والمسيح هو خادمُهُم كما نعرفُ ذلك في نصِّ الإِنجيل. يوحنا في الفصل الرابع من رسالتِه يقول ” مَن لا يحُبُّ أَخاه الَّذي يراه فكيفَ يستطيع أَن يُحبَّ الله الَّذي لا يراه”. إِن كنتُ لا أَرى الله فكيفَ أَستطيع أَن أُحِبَّهُ ما دمتُ لا أحبُّ أَخي الَّذي أَراه! بسبب الخطيئة، الإِنسان معقَّدٌ في لا شعورِه، فهو دائماً مكُّوكٌ بينَ الحبِّ والكراهيَّة. كيف يستطيع أَن يجعلَ الحب يمتصُّ طاقات العَداوة، فتُصبِح العَداوة بِلا طاقة؟ هنا أَهميَّة الجِهاد الرُّوحي لتطهيرِ النفس بِرُمَّتِها من الميولِ العُدوانيَّة، من الميولِ الهدَّامَة، ولِتَطهير النفس من الكَذب والرياء والإِنتفاخ وحبِّ العظَمَة والعنجهيَّة وكلِّ العيوب. المسيحيُّون إِذاً موجودونَ بين المطرقة والسِندان وعليهِم أَن يُطهِّروا أَنفسَهُم باستمرار من كلِّ نجاسةِ روحٍ وجسدٍ وكلِّ عداوةٍ. عمليَّةُ التطهير هذه مستحيلة بدونِ دمِ المسيح وبدونِ الرُّوح القُدُس. ولذلك فقضيَّتُنا هي على المحكِّ وهي دوماً على المحكِّ، فنحن لا نعرف متى تثورُ الطبيعة ويتهدَّمُ بِنيانُنا الرُّوحي. نحنُ نبني أَنفسَنا على أُصبع ديناميت ولا نعرف متى ينفَجر العُدوان. مهما بَدَونا لُطَفاء وأَنيسين ورُحَماء وشُفَقاء، ففي ساعةِ الغَضَبِ الشيطاني قد تنطلقُ فينا الكراهيَّات والعَداوات والسلبيَّات والعدوانيَّات والغضب والنرفزة وحبِّ الإِنتقام.
الرُّوح القُدُس الموجودُ فينا يُجاهِدُ معنا ولكن، هل نحنُ مجاهدونَ حقيقيُّون؟ شهواتُ الجسد وأَهواؤه ورغباتُه جرحٌ موجودٌ في بُنيَتِنا ولا ندري متى ينزف هذا الجرح الباقي حتى لحظة الوفاة. نحن نجتهد روحيًّا في ضبطِه، في لجمِه، في تفكيكِه من الرُبُط والقُيود ولكن لا ندري متى ينهزم.
الشرَكِةَ مع الثالوث القدُّوس تَتِمُّ بالنِعمةِ الَّتي حَلَّت فينا بالمعموديَّة والميرون والمناولة. في الفصل الرابع من كورنثوس الثانية “إِنَّ الله أَشرقَ في قلوبِنا”. هذا النور الَّذي سَكَنَ في قلوبنا هو الَّذي يعمَلُ فينا وهو الَّذي يُساعدُنا على عمَلِ الخير. الشَرِكَة مع الله هي اتِّحادٌ بالله بالنعمةِ الإِلهيَّة كي نبلغَ التألُّه الَّذي تكلَّمَ عنهُ أَوَّلاً بطرس الرسول ثم كرَّرَه آباء الكنيسة جمعاء، وهذا الإِتِّحاد يتطلَّبُ جهاداً روحيًّا مريراً.
في الإِنجيل جاءَ أَنَّ اللهَ قد أَعطانا وزنات حسبَ كلِّ قُدرةٍ منَّا لِنُتاجرَ ونربَح. نحنُ إِذاً تُجَّار نتاجرُ بالنعمةِ الإِلهيَّة بالوزَنات التي معنا، والتاجر يحتاجُ الى لَباقاتٍ بيتصرَّف بحِنكة وفِطنة ودَهاء وحِذق وحكمة ودِراية وبصيرة وقُدرة على فَهمِ الواقع ونشاطٍ وبصيرة وحدسٍ داخليٍّ متمرِّس متدرِّب وكلُّ هذا يتطلَّبُ جُهوداً مضنيَة. والثِمار، هي ثمار الرُّوح القُدُس. كما قال بولس في غلاطيَة الفصل 5 الآية 22: ” أَمَّا ثَمَرُ الرُّوح فهو المحبَّة والفرح والسَّلام وطول الأَناة والُّلطف والصلاح والإِيمان والوداعة والعفاف”.
التوبة هي أَساسٌ رئيس لكلِّ الحياة الروحيَّة. القدِّيس هو التائب، والتائب هو منسحِقٌ روحيًّا يغسِل نفسَهُ بدموعِ التوبة. تُعتَبَر الصلاة بندٌ هامٌّ في التجارةِ الروحيَّة لأَنَّها الرئة التي نتنفّسُ بها الله. والمحبَّةُ هي العاطفة القويَّة التي تُلهِبُ مشاعرَنا وتغيِّر كيانَنا وتجرِفُنا في تيَّارٍ روحيٍّ أَصيل يستوعب كلَّ كياننا، متَّجهينَ نحوَ الله لنسكُبَ أَنفُسَنا أَمامَهُ. هذا العِشق يحتاجُ الى النار الإلهيَّة ليتطهَّر من أَضرارِ الجسد. نرى أَنَّ عاطفة الحب موجودة في الإِنسان الطبيعي، والعُشَّاق الأَرضيُّون لا يتكلَّمون إِلَّا عن الحبِّ والغرام فيُدَنِّسونَ الحبَّ بالجِنس.
أَمَّا المحبَّة الروحيَّة فهي تتطلَّبُ تطَهُّراً من الجنسِ، تتطلَّبُ أَن تكونَ محترِقة بنارِ الرُّوح القُدُس لِكَي تكونَ طاهرة من كلِّ دَنَسٍ روحيٍّ وجسديٍّ لأَنَّ شهواتُ الجسد تَندَسُّ في العِشقِ. الحاجةُ الى النُسكِ والصلوات الحارَّة والجهاد الروحي هي ضروريَّة لتكونَ المحبَّةُ طاهِرةً مكوِيَّةً بنارِ الرُّوح القُدُس. يوحنا السُلَّمي قال: “نطردُ عِشقاً بعشقٍ”، نطردُ عِشقَ الجسد بعِشقِ الله، ولكن هذا يكونُ مستحيل بدون الرُّوح القُدُس. المحبَّةُ عاطفةٌ بشريَّة موجودة في الإِنسان، والإِنسانُ ساقِطٌ ولا بُدَّ من تطهيرِ جسدِنا بنارِ الرُّوح القُدُس وذلك بالأَصوام والصلوات والتضرُّعات والمناولة المقدَّسة وبإِرادةٍ فولاذيَّة كي تكونَ المحبَّة ثمرةٌ من ثِمارِ نار الرُّوح القُدُس لا عاطفةً بشريَّة فِصحيَّة غوغائيَّة مائعة.
العاطفيَّة تحتاجُ الى التطهير بالنسكِ بالمعنى العامِّ للنُسك أَي أَن يصيرَ الإِنسانُ روحانيًّا حقيقيًّا قد طهَّرَ نفسَهُ من كلِّ أَدناسٍ بالرُّوحِ والجسد. المسألةُ تتطلَّب جِهاداً روحيًّا مريراً: نُطَهِّرُ المحبَّة بالرُّوحِ القُدُس من كلِّ الشوائب النفسيَّة والجسَديَّة لتكونَ فِعلاً ثمرةً من ثِمارِ الرُّوح القُدُس. هذا يحتاجُ الى صبرٍ جميلٍ وعنايةٍ طويلة الأَمَد وارتفاعٍ مُتواصل بالفضائلِ كلِّها. فالفضائل سلسِلة تتكامل معاً، وكلَّ خلَلٍ في فضيلةٍ من الفضائل يُؤَثِّر على الفضائلِ كلِّها. هذه العمليَّة هي عمليَّةٌ إِلهيَّة في النتيجة. تندمجُ إِرادتُنا البشَريَّة بالإِرادة الإِلهيَّة لنَخرُجَ من مشاعرِنا الجسَديَّة ونصير ذَوي مشاعرَ إِلهيَّة. المسيحي مدعوٌّ ليَصيرَ ملاكاً في الجسد بنعمةِ الرُّوح القُدُس. هذه هي رسالتُنا في هذه الحياة.
أَمَّا شَرِكَتُنا مع الإِخوة فهي تحتاجُ الى محبَّةٍ طاهرة ٍمن كلِّ العوامل الأَرضيَّة لتكونَ ثمرَةٌ من ثمارِ الرُّوح القُدُس حقيقةً بدونِ عاطفيَّة، بدونِ جنسٍ، بدونِ مُيوعة وبدونِ حنانٍ أَهوائي. نُطَهِّرُ المحبَّةَ في الإِجمال بالنُسكِ والصلاة، نُطَهِّرُها من كُلِّ هوى حتى تُصبِح محبَّةً روحيَّةً صافيةً. هذا يتطلَّبُ جِهاداً روحيًّا مريراً وتربيةً بيتيَّةً أَصيلةً والنجاح بِيَدِ الله.
هل بيوتُ المسيحيِّين مدارسَ روحيَّة؟ لا. وأَينَ الإِنجيل إِذاً؟ على الرفِّ. لماذا نبتعدُ عن الإِنجيل؟ لأَنَّنا جسَدِيُّون لا روحانِيُّون حقيقيُّون. بطونُنا آلهتُنا وجيوبُنا أَسيادُنا. نتهاون، نُتنبِل، نعتذر بملياراتنا الفارغة. ماذا نعملُ بالنعمة الإِلهيَّة؟ نُغَطِّيها بإِناءٍ ونضَعُها تحت السرير كما في إِنجيلِ لوقا.
المسيحيَّةُ إِنَّما هي ديانةٌ مِثاليَّة لا تنزل الى واقعِ الناس الساقطين إِلَّا لترفَعَهُم ونحنُ على طريق السعي، فهناك مَن يَصِل وهناكَ مَن لا يَصِل، كلُّ واحدٍ وجُهدُهُ وبطولَتُهُ وسَعيُهُ الحميد. ولَكِن مبدئيًّا، المسيحيُّون واحدٌ في المسيح يُحِبُّونَ المسيح ويُحِبُّونَ بعضَهُم بَعضاً واللهُ أَعلم مدى نجاح هذا الهدف السامي.
يسوع علَّمنا في الفصل 13 من إِنجيلِ يوحنا الآية 34 : ” إِنِّي أُعطيكُم وصيَّة جديدة أَن يُحِبَّ بعضُكُم بعضاً وأَن يكونَ حُبُّكُم بعضُكُم لِبعضٍ كما أَحبَبتُكُم أَنا”. يولَد الإِنسان أَنانيًّا متمركزاً على ذاتِه ولا يحسُّ إِلَّا بذاتِه، فكيفَ يُمكِن تحطيم هذه الأَنانيَّة؟ كما يتمُّ تحطيم الذَرَّة في القنابل الذَريَّة، الأَنانيَّة ذَرَّة تحتاج الى تحطيمٍ في نفسِنا لنبذِلَ ذواتِنا في الفضائل والصلوات والأَعمال الصالحة.
المرحلة الأَهمُ لهذه العمليَّة هي مرحلة الطفولة في البيت والمثَل العربي يقول: “العِلمُ في الصِغَر كالنقشِ في الحجر”. النقشُ في الحَجَر لا يذوب. على صخور نهر الكلب في لبنان نقوشٌ مصريَّة قديمة جداً لم يستطِعْ المطر ولم تستطِعْ الشمس أَن يُذيباها وستبقى متى بَقِيَت هذه الحجارة، والتربيَة في الصِغَر هي نقشٌ في الحجر، لا يذوب. مهما تقلَّبَ الإِنسان تبقى طفولَتُهُ ذاتَ آثارٍ فيه، الَّذي رَبِيَ في بيتِ أَبيهِ تربيةً رفيعةً، مهما شرَدَ سيَعودُ يوماً وإِن لم يَعُدْ تماماً عادَ جِزئيًّا، وقد يموتُ غالباً بعد توبةٍ صالحة. ولذلك فالُأمُّ هي الكاهن الأَوَّل، هي الكنيسة الأُولى. البيت هو الكنيسة الأُولى الَّذي فيهِ ننالُ تربيةً أَصلية مفيدةً. الأُمُّ والأَبُ هما مسؤولان أَمامَ الله عن حُسنِ تربية أَو سوءِ تربية أَولادِهِم وعلى الكَهَنة أَن يَعِظوا الآباء والأُمَّهات بذلكَ ليوقِفوهُم على مسؤوليَّاتِهم أَمام العرش السماوي.
قيادةُ العائلات نحوَ حُسنِ التربية هي مَهَمَّة رقم واحد من مَهامِ رجالِ الدِّين والوُعَّاظ. عليهم أَن يُشَجِّعوا الآباء والأُمَّهات على حُسنِ قيادةِ أَولادِهم روحيًّا وأَن يُعَلِّموهُم العطاء. في هذه الأَيام لا يتعلَّم الأَطفال إِلَّا الأَخذ.
فإِذاً مَساوِؤنا هي بنسبةٍ كبيرةٍ نتيجةُ مساوئِ التربية، فالأَهل لا يُرَبُّون الأَولاد على أَساسِ أَنَّهم جُنود يسوع المسيح في الكنيسة. وجودُنا اليوم في الكنيسة هو فرديٌّ بنسبةٍ كبيرة. هل نحضَر للقداس الإِلهي كما علَّمَنا لنا بولس: قلبٌ واحد وفكرٌ واحد ورأيٌ واحد واهتمامات واحدة … هل نحنُ متَّفقونَ في الرأي والفِكر والهدف والمحبَّة والعواطف الجيَّاشة؟ أَما زِلنا فرديِّين؟ أَما زالت أَيدينا ترتجف حينَ العطاء؟ أَلا نجري حسابات إِلكترونيَّة حين السخاء؟ في الحقيقة، الإِنجيلُ في وادٍ ونحنُ في وادٍ آخر. بولس علَّمَنا أَنَّنا لسنا لأَنفسِنا بل للَّذي افتدانا بدَمِهِ الطاهر الكريم، فهل نحنُ فِعلاً لهُ؟ هل رسالة بعضَنا بعضاً في الأَفراح والأَتراح أَنَّنا قلبٌ واحد؟ أَنَّنا هِمَّة واحدة، أَنَّنا سَعيٌ واحد؟ هل تجتمع أَيدينا في العمَل المثمِر الواحد؟ أَليست عقولُنا متنافرة وآرائنا متنافرة وقلوبُنا متنافرة؟ هل يحمِلُ بعضنا أَثقالَ بعض؟ هل تتشابك أَيدينا في الأَعمال الصالحة؟ هل لدَينا قلوبٌ كبيرة للتسامح، للصفح، للعفو، للتضحيات؟ هل لدَينا لهفةً واحدة؟ هل نَدورُ في فلَكِ بعضِنا بعضاً بقلوبٍ كبيرة؟
ما دُمنا نحنُ متباعدونَ في الرأي، أَما يموتُ التناغمُ فينا؟ هل نتنافسُ في الخير؟ هل اللهُ هو ضالَّتُنا المنشودة؟ هل ينهجُ قلبُنا في الَّليلِ والنهار بالرب؟ مَن هُم المستعدّون للموتِ شُهداء؟ هل رَبينا على أَساس أَنَّ الشهادة هي أَشرفُ خاتمةٍ لحياتِنا؟ هل نحنُ فرسانٌ إِن جَدَّ الجِدُّ واستنفرت الكنيسة للتضحيات، للعمل، للبَذِل وللإِستشهاد؟
شريعةُ الله هي الوِحدة والمشاركة، أَمَّا شريعةُ الطبيعة الساقطة فهي التفسُّخ والتباعد والتضاضد والتكالُف على الدنيا. اليهود صَلبوا يسوع مرَّةً واحدة والمسيحيُّون يصلبونَهُ مليارات المرَّات كلَّ يوم، فهل ننتبه الى هذه الخطيئة الكبيرة؟ الَّذينَ هُم للمسيح يصلبونَ أَنفسَهُم لا يصلبونَ المسيح، يصلبونَ شهواتَهم وأَهواءَهم وميولَهم ورغباتَهم وأَطماعَهُم ويُخضِعونَ ذواتِهم ليسوعَ المسيح ليَكونوا بينَ يديَّ يسوع المسيح.
يسوع خَدَمَ التلاميذ وأَعطاهُم قُدوَةً ليقتَدوا بهِ ويتشبَّهوا بهِ. صارَ خادِماً لنا وصارَ ذبيحةً لنا نأكُلُه ونشربُه للحياة الأَبديَّة ولمغفرة الخطايا. ونحن، إِن تَخلَّصنا من الكبرياءِ والعجرفة وشَوفِة الحال والأَنانيَّة نستطيع الى حدٍّ ما أَن نتشبَّهَ بالمسيح، أَن نتواضع وأَن نخدُمَ بعضُنا بعضاً. الكبرياء مرَضٌ عُضال يُثير الحسَّاسيَّات بين الأَصحاب والناس أَمَّا التواضع فهو مفيدٌ جدًّا لمتانةِ الروابط البشريَّة واستمرارها.
في تاريخِنا صعوبات مشحونة بالأَسباب التي تُنَفِّر الناس من بعضهم البعض والتي تجعلُهُم ينكمِشون وينقُصون الى الوراء ليتمركزوا حولَ أَنفسِهم ويصيروا أَنانيِّين مصلحجيِّين مَلفوفين حولَ أَنفسِهم مثل البصل. رائحةُ الأَنانيَّة كريهة. كلُّ الناس يتضجَّرونَ من الأَناني، يحِبُّون المنفَتِح، الواسع القلب، الحَسَن الإِلتفاتة الَّذي يُرَحِّب بالناس من قلبٍ كبير واسع صريح نبيل شريف عَطوف حَنون. وللأَسف الشديد النزعات الإِجراميَّة العُدوانيَّة موجودة في الإِنسان، ولأَسبابٍ تاريخيَّة عسيرة جدًّا نرتابُ في بعضِنا بعضاً. الرَيبةُ موجودةٌ، وسوءُ الظنِّ موجودٌ، وسوءُ التأويلِ موجودٌ، فُقدانُ الصراحة موجود، وهذا كلُّهُ يُضِرُّ في عمليَّة الإِنفتاح على الله وعلى الآخر.
كلام يوحنا الإِنجيلي واضح في الفصل الرابع من رسالتِهِ الأُولى الآية 20 – 21: ” إِن قالَ أَحدٌ إِنِّي أُحبُّ الله وهوَ يُبغِضُ أَخاهُ فهو كاذِبٌ لأَنَّ مَن لا يُحِبُّ أَخاه الَّذي يَراه كيفَ يستطيع أَن يُحِبَّ الله الَّذي لا يَراه؟ ولنا منهُ هذه الوصيَّة: مَن أَحبَّ الله فليُحِبَّ أَخاهُ ايضاً”.
إِن كنتَ لا تحبُّ أَخاكَ الَّذي تراه، فكيف تحبُّ الله الَّذي لا تَراه؟ ” البشرُ إِنَّما سلالمَ لأَصعَد عليها الى الله. المحبَّةُ الطاهرة مئة في المئة مفقودة لأَنَّ نزواتَنا ورغباتَنا وأَهواءَنا الفاسدة تندسُّ في المحبَّة فتُفقِدُ المحبَّة قيمتَها. كلُّ الفضائل عندنا معرَّضَة لدساسِ الأَهواءِ الرديئةِ فيها، ولذلك فالعمليَّة الروحيَّة ضروريَّة جداً جداً والنِسك الرُّوحي الصحيح هو الَّذي يُطَهِّر المحبَّة والعواطف بنارِ الرُّوح القُدُس. لا يستطيع المتخَم بالطعام والشراب والفَلَتان الجِنسي أَن يكونَ طاهراً في محبَّتِه. طهارةُ المحبَّة تحتاجُ الى النُسكِ والأَصوام والصلوات والسَجدات والتنهُّدات ودموعِ التوبة الحارَّة. المسيحيَّة هي ديانةٌ روحيَّة نِسكيَّة، والَّذينَ يرُضونَ الجسد يقتلونَ الرُّوح، ومحبَّة الجسد والعالم هي عداوةٌ لله. أَن نصلُبَ الجسد وأَهواءَهُ وشهواتَهُ، إِنَّما كلُّ هذا يكونُ مكوي بنار الرُّوحِ القُدُس جسداً وروحاً.
بكلُّ هذا نقولُ أَنَّ المسيحيَّة تؤيِّدُ الشرَكِة وترفُضُ الفرديَّة رَفضاً تامًّا. المسيح الَّذي أَتى الأَرضَ ليحتضنَنا، ليضُمَّنا الى قلبِه، ليحمِلَنا على منكبَيهِ، قامَ بعمليَّةِ محبَّة إِلهيَّة عظيمة كعَظَمةِ الإِله نفسِه. هذا الغيرُ المحدود بمحبَّتِه، جاء ليضُمَّنا إِليهِ، فكيفَ أَستطيعُ أَن انضَمَّ إِليه وأَنا منكمشٌ ومُلتَفٌّ حولَ نفسي؟ هل يكونُ هذا بدون الإِنفتاح، بدونِ الصبرِ الواسع الرَحِب، بدونِ القلب الكبير الواسع؟
المسيحيَّة تحتاجُ الى عمليَّةٍ جراحيَّة روحيَّة لتوسيعَ قلب الإِنسان الصغير حتى يصيرَ قادِراً على أَن يسَعَ اللهَ الغيرَ المنظور. بولس علَّمَنا في نهايةِ رسالتِه الى أَهلِ كورنثوس الأُولى انَّ المحبَّة لا تسقطُ أبداً لأَنَّ محبَّتَنا الإِلهيَّة تتَّجِهُ الى الله الغيرِ المحدود. هل أَستطيعُ أَنا أَن أَسَعَ الإِله الغيرَ المحدود؟ لا. ولذلك فأَنا في المحبَّةِ أَتطوَّرُ باستمرارٍ من مكانَةٍ الى مكانة، وأَبقى في تَطَوُّرٍ الى أَبدِ الآبدين لأَسَعَ الله الغير الموسوع، ولن أَسَعَهُ. سأَبقى مجتهداً في محبَّتي لله الى أَبدِ الآبدين ودهر الداهرين لَعَلِّي يوماً أُدرِكُ الِإله الَّذي لا يُدرَك، الَّذي لا تُدركِهُ العُقول، الغير المنظور، الغير المعلوم والغير المدرَك، الإِلهُ الفائق الَّلاهوت وكلُّ عقل وكلُّ جَوهر، الإِله الَّذي هو أَبعدُ من كلِّ الحدود لهُ المجد والإِكرام والسجود الى أَبدِ الآبدين ودهرِ الداهرين آمين.
هذه العمليَّة الروحيَّة هي عمليَّة شخصيَّة لأَنَّنا لا نستطيع أَن نحلُمَ بمجتمعٍ روحاني. يُقَلِّدُ الناس بعضهم يعضاً فينعكسُ النور على الآخرين والربُّ يسوع قال لتلاميذِهِ: أَنتم نورُ العالم. والمجتمع محتاجُ الى هذه الأَنوار.
كيف يتِمُّ إِذاً إِعداد هذه الأَنوار؟ المنزلُ هو الأَساس. الخلِيَّة الزوجيَّة هي الخليَّة الأُولى في الكنيسة وفي المجتمع. يَحسَنُ للشباب أَن ينشِدوا في الصبايا، الفضيلة والأَخلاق الحميدَة فيَضمَنوا لأَنفسِهِم زوجاتٍ شريفات أَمينات صالحات يخدِمنَ المنزلَ بروحِ الله والتَقوى، حريصات على سَمعتِهِنَّ وعلى سُمعَة المنزل والعائلة ويكُنَّ نموذَجاً إِجتماعيًّا. الَّذينَ آثروا في الصبايا صِفاتٍ أُخرى عَضُّوا أَصابعَهُم ندامةً. إِنتِقاءِ الزوجة أَمرٌ مهمٌّ جدًّا وعسيرٌ جدًّا، وليسَ من السَهلِ الوصول الى الفاضلاتِ العادلاتِ. الفضيلةُ تتواضع وتُخفي ذاتَها، أَمَّا الرذيلةُ فصاحبةُ طبلٍ وزَمرٍ. المرأةُ الشريفة تُلازمُ البيت أَمَّا المرأة الخفيفة الطائشةُ تُلازِم الشوارع والمخازن والمقاهي والدُور المتنوِّعة، تُحِبُّ الظهور، تَعرُض ذاتَها، وتُحِبُّ التصفيق.
أَمَّا تربيةُ الأَطفال فهي عسيرةٌ جدًّا تحتاجُ الى الحِذق والحِنكة والحِكمة والفِطنة والَّلباقة والرشاقة والصَبر الجميل وطول البال والتأَنِّي وحُسنِ المعاملة ورَحابة الصَدر وسِعَة العقل وكِبر القلب والحَزم الَّلطيف الحنون الرحيم الشفيق الرئيف والمرونة والسلاسة والنموذجيَّة في سلوكِ الأَهل. أَهمُّ شيءٍ في التربية هو تحويل الأَهواء، وعمليَّة تحويل الأَهواء سهلةٌ من جهَة وعسيرةٌ من جهَة أُخرى، تحتاجُ الى النَفَس الطَويل جداً والتعليم، لا بالعنف والشِدَّة والملاحظات القاسيَة والإِنتهار المتواصل.
الإِنسان الساقط مخلوقٌ عجيبٌ غريب! لدَيهِ إِمكانيَّاتٍ واسعة جدًّا بسبب الحريَّةِ والعقل، ولكن ما يُهدِّد هذه الإِمكانيَّات هو السقوط والإِنجراف نحو الجحيم بَدَلاً من الصعودِ نحو النَعيم. الإِنسانُ يتَقَلِّبُ كثيراً، والإِنسانُ الصاعِد يلتقي الله في كلِّ لحظةٍ من لحظاتِ حياتِهِ. حياتُهُ تكونُ باستمرارٍ قفزات صاعدة الى السماء يتعرَّض خلالها الى صعوبات ٍكثيرة منها ما هو داخلي بسبب آفاتِ السقوط، ومنها ما هو خارجي.
في النتيجة، حياةُ الإِنسان الرُّوحي هي مأَساةٌ روحيَّة. يحاربُهُ الشيطان والمجتمع وأَهواؤُهُ وشهواتُهُ وجسدُهُ وطبيعتُهُ. إِذاً الإِنسان يعملُ في وسَطٍ عِدائيٍّ وعليهِ دائماً أَن يُجاهد ضدَّ هذه الآفات لينمُوَ مثل الصاروخ الى السماء وبحَركةٍ دائمة وكلُّ هذا يحتاج لِجهودٍ مُضنِيَة جَبَّارة.
حلَّ يسوعُ في بطنِ مريم العذراء وهو نفسُه يحلُّ فينا. نحنُ نتناول جسدهُ ودَمَهُ، أَما يحِلُّ فينا؟ إِن كُنَّا نحتاجُ الى هذا الحلولِ الإِلهي في كِيانِنا، فَكَمْ عَمَلُنا الرُّوحي هو هزيلٌ إِن لم نحبَل بيسوعَ المسيح ونَلِدْ يسوعَ المسيح! إِن كُنَّا نستطيع أّن نَخلُصَ بِقُدرَتِنا الذاتيَّة، لما كُنَّا بحاجةٍ للتجسُّدِ الإِلهي.
الخلاص من الفرديَّة والأَنانيَّة للتمتُّع بالشَرِكَة الإِلهيَّة أَي بالشَرِكَة مع الله، وبالشَركَة البشريَّة مع البشر يحتاجُ الى المعونةِ الإِلهيَّة. اللهُ لهُ المجد هو الَّذي يُبَدِّلُنا، هو الَّذي يُحَوِّلُنا من بَشَرٍ ساقطين الى بَشَرٍ متأَلِّهين. شَرِكَتُنا مع الله ومع الآخرين مفيدةٌ لكن لا ننسى عاقِبَتَها الملكوتٌ السماويٌّ الَّذي لا نهايةَ لهُ، الملَكوتُ النوراني الَّذي فيهِ نُصبِحُ نوراً من نورِ إِلهِنا. الخلاصُ من الفَرديَّة ومن الأَنانيَّة لا يتمُّ بجَهدٍ بَشَريٍّ فقط، إِنَّما يتِمُّ بتَدَخُّلٍ إِلهيٍّ متواصلٍ الى مدى العمر. أَنا لا أَحتاجُ الى الرُّوحِ القُدُس فقط اليوم والغد، أَنا بحاجةٍ إِليهِ ما دُمْتُ حيًّا ليَقودَني في طريقِ الشَرِكَة الإِلهيَّة والبشريَّة، لِكَي أَكونُ ذا بُعدَينِ: الُبعد الإِلهي والبُعد البَشَري، لِكَي أَتَّحِدَ بالله وأَتَّحِدَ بإِخوَتي البشر.
المسيحيَّة هي ديانةٌ عُلويَّة لم يصنَعها الإِنسان بل صَنَعها الله. ومهما بَذَلتُ من جهودٍ، فأَنا أَبقى إِنساناً ساقِطاً ضعيفاً، وقبلَ لحظةِ الموت يبقى الكمالُ نِسبيًّا جداً جداً. أَبقى مدى العمر تلميذاً صغيراً في مدرسةِ يسوعَ المسيح. هوَ المعلِّم وأَنا التلميذ، ومتى أَتَخلَّص من التلمَذَة؟ لا خلاصَ منها إِلَّا بعدَ الموت. ما دُمتُ على الأَرضِ فأَنا تلميذٌ صغيرٌ حقيرٌ في مدرسةِ يسوعَ المسيح. أَنا على الدَوام طِفلٌ بينَ يدَيهِ، أَضَعُ نفسي بين يدَيهِ في كلِّ لحظة. هو الَّذي يُدَرِّبُني، هو الَّذي يقودُني وهو الَّذي يجعلُني أَخطو خُطواتي الأُولى.
كلُّ حياة الإِنسان المسيحي، في كلِّ لحظة من لحظاتِها هي ذبيحةٌ لله. كلُّ مسيحي هو كاهن يُقَرِّبُ نفسَهُ والآخرين قرابينَ لله. حياتي كلُّها، بِرُمَّتِها، لحظةً في لحظة ذبائح. مهنتي الرُّوحيَّة هي مهنةُ الكاهن الَّذي يُقَرِّب ذاتَهُ لله ذبيحةً طاهرةً نقيَّةً، كلُّ هذا يتِمُّ في كلِّ لحظات العمر. لا يكونُ لي زمنٌ لنفسي وزمنٌ لله، يكون الزمان بِرُمَّتِهِ لله. مَن هو قادرٌ أَن يُحَطِّم فَردِيَّتي وأَنانِيَّتي ونرجِسيَّتي؟ يسوع نفسُه. فإِذاً مع يسوع أَبني ذاتي كائناً روحيًّا مخُلَّصاً. بِدون يسوع لا أَصِلُ الى الآب، بدونِ يسوع كلُّ شيءٍ باطل. حياةُ المسيحي هي التصاقٌ بيسوعَ المسيح وبدونِ هذا الِإلتصاق كلُّ سعيٍ يكونُ نِسبيًّا. فلذلك على الكنيسةِ اليوم أَن تدخُلَ بعمقٍ الى حياةِ البشر وعليها أَن تتخلَّصَ من السطحيَّة الخاليَة لأَنَّ العمَل الديني الأَساسي لرجالِ الدين هو التطبيب الرُّوحي، والتطبيب الرُّوحي يعني أَن يتبدَّلَ الإِنسان من كائنٍ حيوانيٍّ بهيميٍّ الى كائنٍ سماويٍّ.
الكنيسة مربيَّةٌ صالحةٌ، تُرَبِّي الناس عَسكراً ليسوعَ المسيح. هذه هي مهنة الكهَنة. أَن يُرَبُّوا الناس تربيةً جديدةً ليكونَ كلُّ إِنسانٍ شبيهاً بالمسيح، حامِلاً في ذاتِه سِمات الرب يسوعَ الميسح. لماذا أَتى يسوع في جُملة المساعي؟ أَتى ليكونَ نَموذجاً لي، أَي أَتى لأَكونَ أَنا صورةً لهُ. كيفَ أَصيرُ صورةٌ لهُ وأَنا إِنسانٌ ساقِطٌ بائسٌ؟ هو نفسُهُ يأخذُ بِيَدي ويَقودني في معاهدِ الكمال. بدونِهِ لا أَستطيعُ شيئاً، بدونِهِ انا تراب، انا عُشبٌ يابس، انا لا شيء، انا الصفر، انا الخِزي والعار، أَمَّا هوَ فَلَهُ المجد الأَبَدي وهو موجودٌ في النورِ الأَزَلي الَّذي لا يُدنى منهُ، له المجدُ والإِكرامُ والسجودُ الى أَبدِ الآبدين ودهرِ الداهرين آمين.