الأَساسُ المتين
بقلم المعلم الأنطاكي الشماس
اسبيرو جبور
الزوجان المعتمِدان لَبِسا المسيح وختَمُهُما الُّروح القُدُس بالميرون وتناولا جسدَ الرب ودمَهُ فاقتَدَيا بهِما. وهما يؤمنان بأنَّ يسوع ماتَ من أجلِهِما واشتراهُما بدَمِهِ الكريم الطاهر، وهما صورةُ الله.
إن كان هذا الإِيمان مغروساً فيهِما بعُمقٍ كبير، جَعلا الإِحترام المتبادَل الواضح وسخاء الرُّوح والمحبَّة والمشاركة الوجدانيَّة والإِنفتاح والتنافذ الأَساسَ المتين لعلاقتِهما الزوجيَّة فينسكب كلُّ واحدٍ منهُما في الآخر.
الربُّ يسوع علَّمَنا أَنَّ الجسدَ لا يُجدي نفعاً وأَنَّ الروح هو الذي يُحيي الجسد. وعلَّمَنا أيضاً أنَّ الجسد هو ضعيف بينما الرُّوح نشيط. الجسد يخدعُنا ولكن علينا أَن لا ننخدع فيه، علينا أَن نتيقَّظ دائماً لنَعيا دائماً أنَّنا روحٌ في جسد وأَنَّ الجسد أَداةُ الرُّوح فقط.
الرُّوح هو التي يُحيي الجسد لا الجسد الذي يُحيي الرُّوح. الجسدُ فانٍ أَمَّا الروحُ فخالِدة. ولذلك فالعلاقات الروحيَّة بين الزوجَين هي التي تؤهِّلُهُما للعيشِ بسعادةٍ ولو بَلغا من العمرِ مئةَ عامٍ. روابطُ الرُّوح خالدة وروابط الجسَد متقلِّبَة جداً. تَفتُرُ حيناً وتسخَنُ حيناً ولكنَّها إِجمالاً فاترة. وإن سخَنَت كانت الرُّوح هي سبَب السُخونة الحقيقيَّة. فهل يستطيع الجسَدان أَن ينفُذَ أحدُهما في الآخر؟ لا. بينما روحيّاً تستطيعُ روحُ الرجل أَن تتغلغل في روحِ زوجتِه وأَن تتغلغل روحُ زوجتِهِ فيهِ.
هذا التغلغُل الحقيقي المتين الرُّوحاني يُفيدُ جداً في تربية الأَطفال. الطفل ذو قدرة هائلة على ابتلاع الوالدَين، على محاكاتِهما. يُحاكي تارَّةً أُمَّهُ وتارَّةً أَباه. وهكذا يأخُذُ من صِفات الرِجال ومن صِفات الإِناث. يستفيد من لُطف وحنان أُمِّهِ ويستفيد من رجولةِ أَبيه، ثمَّ يُكَوِّن ذاتَهُ. الوالِدان الحكيمان الفهيمان المعتدلان المسَيطِران على ذاتَيهِما الحنونان بلُطف وبحزم وعزم، يُعاملان الطفل معاملةً خاصة. يعرِفان أَنَّ التدليل يُميِّع الطفل ويخرِّبُهُ، يعلَمان أنَّ الحُرمان يُعلِّمُ الطفل ضَبطَ نفسِهِ والتسلُّط على نفسِهِ، ويُعلِّمُهُ قوَّة الإِرادة والإِنضباط.
يعلَمان أنَّ الصوم تربية كبيرة للأَطفال. يعلَمان أَنَّ الحُرمان والصوم تمرينان مهِمَّان لتدريبِ الطفل على الإِنتظام وقوَّة الإِرادة ومتانة الشخصيَّة. ومتانة الشخصيَّة هي الناحية المهمَّة في نشوءِ الإِنسان. الشخصيَّة المائعة تافهة والشخصية المتينة اللطيفة الحنون الرحيم مهمَّة. لا أَدعو الى الخشونة أَبداً ولا الى العنف بل الى الُّلطف بحَزم. لستُ ضدَّ التدليل مئة بالمئة ولكن بشرط أَن يُقوِّي شخصيَّة الطفل لا أن يُخرِّبَه، فالعطاء الزائد يعني تنمية الرَغَبات الفاسدة الجسديَّة.
الصوم مُفيدٌ للصحَّة الجسديَّة وليس فقط للصحَّة الروحيَّة، والخطأ الأكبر في حياةِ الآباء والأُمهات هو الإِهتمام بجسد الطفل لا بِروحِهِ. يجب أَن نهتمَّ بالروح أولاً ثمَّ بالجسد. طبعاً حياةُ الطفل الجسديَّة مهمَّة جداً ولكن علينا أَن لا ننسى أَنَّ المسيحيَّة لا تُحيي الجسد على حسابِ الرُّوح، بل تُميت شهوات الجسد من أجلِ إِحياء شَهوات الروح.
بولس الرسول في الفصل 5 من رسالة غلاطية في الأعداد 17-22 علَّمَنا أَنَّ هناك حرباً بين الرُّوح والجسد وبين ما تشتهيهِ الروح ويشتهيهِ الجسد. علينا أَن ننصُرَ الروحَ على الجسد لأنَّ الروحَ أَهمَّ من الجسد بما لا يُقاس، بقَدَر ما الحياة أَفضل من الموت وبقَدَر ما السماء أَفضل من الأَرض. علينا أَن نُطَبِّق إِيمانَنا المسيحي تطبيقاً جيداً وأَن لا نضع الجسد وشهواتِه ينحَران الروح.
التربية فنٌّ عسيرٌ جداً جداً. كان المرحوم “جون كنيدي” قد طَرَحَ موضوع تقويَة الإِنسان الأَميركي نفسيّاً وجسدياًّ. الطفل في المدرسة يُعلِّمونَهُ الشكوى للشرطة على من يُعنِّفُهُ من والدَيه فيتَّصل بمخفر الشرطة تليفونياً. هذا يُقوِّي عُنفوان الأَطفال ولكن يُعلِّمُهم التَهجُّم على الوالِدَين ويُسقِط إِحترام الوالِدَين ويُسقِط السُلطة الأَبويَّة. ينشأُ المرءُ متحرِّراً من الروابط العائليَّة. خلالَ مرحلةٍ معيَّنة سيؤدِّي ذلك الى العنفوان النفسي والجسدي ولكن سيؤَدِّي ايضاً الى الشراسة. هذه التربية الفاسدة تُطلِق العَنان لما يُسمِّيه التحليل النفسي” غريزة العدوان “. وغريزة العُدوان هذه، الى أين ننتهي؟ اللهُ أعلم. ننتهي الى جيل زعران Gangster كما يُقال بالإِنكليزية.
عِلم النفس التربوي المسيحي يُخالف هذه العلوم المدَنيَّة الفاسدة. المسيحيَّة تُرَبِّي الإِنسان تربيةً خاصَّة يُسَيطرُ فيها على غرائزِهِ، على عُدوانيَّتِهِ، على ميولِهِ الشرِّيرة وعلى شهواتِهِ الشرِّيرة. تُعلِّمُهُ إِحترام الوالدَين.
الإِنسان الى حدٍّ كبيٍر هو نسيجُ والدَيهِ وإِخوتِهِ ونحن في شرقِنا ما زِلنا غَيورين على الإِحتفاظ بالروابط العائليَّة والإِجتماعيَّة والصداقيَّة. طبعاً هي مخرَّبَة بالكَذِب والإِفتراء والنَقد الجارح واللئيم والرِّياء… ولكن ما زِلنا حريصين على التعاطُف مع البشر. في مجتمعِنا الشرقي ألوانٌ عديدة من الغَيرة الإِجتماعية وهذه مهمَّة جداً وكما قال اجنبيٌّ لعربيٌّ: “عندَكم شيء جيِّد هو النَخوة” وقال لي فرنسيٌّ عاش في مصر ثلاثين سنة: “عندَكم، الناس هُمْ لبعضِهم بعضاً. أَمَّا عندنا هنا في اوروبا فكلُّ واحدٍ لنفسِه والإِله الصالح هو للجميع”.
مسيحيّاً، الإِنسانُ هو عضوٌ في جسدِ المسيح وهو مرتبطٌ بكلِّ أَعضاءِ جسد المسيح (أي الآخرين). هوَ مُشارِكٌ لكلِّ أعضاءِ جسد المسيح في أتراحِهم وفي افراحِهِم، يتألّمُ لآلامهم ويفرحُ لأَفراحِهِم. علينا أَن نقرأ جيداً الفصل الثاني عشر من رسالة بولس الرسول الى أَهلِ كورنثوس، وكذلك الفصل 13 وايضاً الفصل 12 من رسالة بولس الرسول الى أَهلِ رومية لنتعلَّم كيف نكون مسيحيِّين في علاقاتِنا مع بعضِنا بعضاً.
طبعاً الشيطان موجود والخطيئة موجودة، ولكنَّ يسوع أَقوى من الشيطان وأَقوى من الخطيئة وأَقوى من الجحيم. ومادامَ بينَنا ومعَنا، فلا خوفَ علينا إلَّا من أنفُسِنا أَو من الشيطان.
علينا أَن نلجأ الى يسوع في كلِّ شيء لِكَي يُقدِّسَنا في كلِّ شيءٍ. اللهُ مع الجميع.