تقديم:
في مكان ما في شمال روسيا في احد الاديرة الارثوذكسية عاش رجل غير عادي . تصرفاته كانت غريبة بالنسبة لاخوته الرهبان. الذين كانوا يزورون الدير كانوا يعتقدون في قداسته: قدرته على شفاء الامراض و اخراج الشياطين و التنبؤ بالمستقبل. و مع ذلك كان يعتبر نفسه انه غير مستحق بسبب خطية ارتكبها في شبابه.
-1-
في عام 1942 لم تكن الحرب العالمية الثانية قد وضعت اوزارها بعد. و كانت معارك طاحنة تدور بين المانيا و روسيا. في احد هذه المعارك استولت فرقة المانية على جزيرة روسية صغيرة، و بدأوا يفتشون الجزيرة و يطلقون الرصاص على كل مكان يشتبه وجود جنود احياء فيه.. على كومة من الركام – اشتبهوا ان احد الجنود الروس مختبئ فيها – اطلقوا الرصاص، و للحال سمعوا صوتا يصرخ في فزع:
– لا تطلق النار.. لا تطلق النار.. أنا أستسلم.. لا تطلق النار.
ثم خرج اليهم جندي روسي يرفع يديه مستسلما. قبض عليه الجنود و اخذوا يركلونه باحذيتهم الغليظة، ثم سأله قائد الفرقة الالمانية: أين قائدك؟
– ماذا؟
فكرر السؤال في غلظة:
– أين قائدك؟
اجاب الجندي و هو يرتعد خوفا: أنا لا أفهم كلامك.. لا أفهم..
بدأوا يجرونه على الارض، بينما اخذ احد الجنود يضربه بمؤخرة السلاح، فصاح و جسمه يرتجف:
– لا تضربني.. سأدلك عليه.. سأريك أين ..إنه هنا.. يا “تيخون”ْ.. تيخون” ، اخرج”.. اخرج الآن.. هذا هو..
جذبه الجنود من اسفل الركام الذي كان مختبئ فيه، بينما قال احدهم و هو يشير الى قنبلة بمؤقت عثر عليها بالموقع:
– كم تستغرق حتى تنفجر؟-
– عشرون دقيقة-
قال القائد و هو ينظر اليهما:
– أنتما عديما الفائدة..
اوقفهما بجانب بعضهما، و أمر احد جنوده:
– أطلق النار.. صوب ..
صاح الجندي الروسي وهو يرتجف من قمة رأسه الى اخمص قدميه:
– لا – لا تطلق النار عليَّ، أرجوك – لا تقتلني.
بينما بدا القائد الروسي غير خائف الموت.. اعطي القائد الالماني رفيقه الروسي المسدس و أمره ان يطلق الرصاص على قائده:
– أقتله.
– ما ذا تريد مني؟
– كن رجلاً واقتله.
قال و هو مذعور: لا استطيع .. لن أفعل..
وجمد في مكانه للحظة وقد دوت نبضاته في اذنيه كدوى المطارق، و خيل اليه ان انفاسه تنطلق من رئتيه في زئير كزئير الرياح في اشرعة السفينة. ثم بيد مرتعشة صوب المسدس نحو قائده، فانطلقت رصاصة نحوه و سقط في الماء خلفه.. غادر الجنود الموقع في سفينة حربية، بينما جرى الروسي نحو تله و اخذ يصيح بأعلى صوته:
– لم تقتلوه ، أليس كذلك؟.. لكنني فعلتها.. أوغاد.. لقد قتلتم “تيخون”.
بعد لحظات سمع دوي انفجار هائل.. وسقط مغشيا عليه ..
في الصباح تفقد رهبان يعيشون في احد الاديرة بجزيرة مجاورة الموقع.. و تم انقاذه..
-2-
في احد الاديرة الروسية عام 1976م، اي بعد مرور 34 عاما على الحدث السابق. كان الاب اناتولي – احد رهبان الدير- في حوالى الستين من العمر، يعلو وجهه مسحة من الكد و العناء، و يضئ في نفسه قبس من القداسة، ملابسه رثة و مظهره يدعو للشفقة و مهمته العمل في غرفة التدفئة في اشهر الشتاء القارسة و هي غرفة صغيرة و قد جعلها بمثابة قلاية له يسكن فيها.
كان الاب اناتولي يقوم بتحميل الفحم على عربة صغيرة يدفعها امامه، وقد وفد بعض الزوار للدير و يبدو انهم لا يعرفون شكله و سألوه:
– أين الأب “أناتولي”؟
اما هو فأجاب:
– إنه نائم.
– إننا ننتظر منذ وقت طويل.
سألته احدى الزائرات الراهب بوجه خاص قائلة:
– لماذا هو نائم؟
– ألم تفهمي، هو نائم.
– كم من الوقت سوف ننتظر؟.. نحن متعبون
– انتظري قليلاً.. سوف يخرج بعد قليل.
كان الراهب لازال يدفع عربة محملة بالفحم امامه، بينما لاحقته فتاة في حوالى العشرين من عمرها:
– أود أن أتحدث إلى رجل الله “أناتولي”.
– ما الذي أتى بكِ في هذا الجو البارد؟.. سيكون أفضل لكِ لو استمعت للراديو.. هل أنتِ في مشكلة؟
اما هي فاجابت و في عينيها نظردة شاردة: نعم.. مشكلة كبيرة.
قال الاب في رفق: لا تبكي، سوف أخبره ..ربما يقابلكِ.. لكنه سوف يكون منزعجاً.
اخرجت من حقيبة يدها نقودا و قالت متوسلة:
– بكم أنا مدينة لك؟ –
نظر اليها نظرة قاسية تحمل توبيخا و بلهجة حادة قال، و هو يشيح بيده:
– ابعدي هذه النقود أيتها الجاهلة.. لا تدعيني أراها مرة أخرى.
ادركت على الفور الخطأ الذى ارتكبته، فقالت في اسف: انا آسفة.
تركها و دخل بالعربة المحملة بالفحم الى غرفة التدفئة، و بعد برهة خرج اليها و هو يقول وكأنه يكشف كل اسرارها: حسناً.. تريدين مباركة لكي ترتكبي جريمة قتل؟!. أية بركة يمكن أن تأخذينها ؟!
اما هي فقد قالت متوسلة: أرجوك ، أبتي.. أريد المباركة كي أجهض. مباركة رجل قديس !!
استطرد الاب: أنت متجهة إلى الجحيم. وتريدين سحبي معكِ أيضاً؟
اطرقت برأسها و قالت: … إن أنجبت هذا الولد، لا أحد سوف يتزوجني أبداً. من سيرغب بي مع طفل؟
فرد على الفور: ولا أحد سيرغب بكِ من دونه.
وانبعثت من عينيه الثاقبتين نظرة مخيفة اذا ابصرها اي انسان لصعق خوفا، و قال: ستنجبين الطفل عن طيب خاطر، أو أنه ستلعنين نفسك طوال حياتك … لقتلك طفلاً بريئاً.
ركعت الفتاة على ركبتيها امامه و قالت في دهشة: وكيف تعلم كل ذلك؟
اما هو فالتفت اليها و قال: …ربما أنا أيضا.. قتلت إنساناً.. على كل حال لا تركعي أمامي.. اركعي على ركبتيكِ عندما تصلين للرب.. سوف تنجبين ولداً ذو شعر ذهبي.
انفرجت اسارير الفتاة و بدا على وجهها علامات الارتياح. كانت هذه الكلمات كنور يشق ظلمات نفسها كوميض البرق في الليلة الحالكة.
اما هو فقد هتف فيها بخشونة وصوت عال:
– الآن ، اخرجي من جزيرتي.
-3-
كان الاب اناتولي يتلو صلواته: يا رب ارحم. المجد لك يارب. المجد للآب والابن والروح القدس إلى أبد الأبد. أمين.
مبارك الله. إلى أبد الأبد ، أمين
فليتمجد اسمك يا رب. المجد لك. يارب اغسلني كثيراً من اثمي. اذكر يارب روح خادمك الراحل المحارب “تيخون” وادخله ملكوت السموات وأنعم عليه بينبوع الحياة الابدية.
يا ربي يسوع المسيح ابن الله انزل رحمتك على عبدك الخاطئ.. يارب لا تهملني..لا تتخلى عني وساعدني يا الهي..
أخرج من الحبس نفسي..لا تتخلى عني.. امحو عني معاصي.. فأنا أعترف أمامك بذنبي وخطيتي أمامي كل حين..
اغسلني فأكون أبيض من الثلج. أسمعني سروراً وفرحاً. اغسلني كثيراً من آثامي. ومن خطاياي طهرني. قلباً طاهراً اخلق فيّ يا الله. لا تطرحني من قدام وجهك. استمع لصلوات آبائنا القديسين. يا ربي يسوع المسيح إلهي..
من نافذة القلاية نظر الاب احد الرهبان قادما من بعيد، فقام بتلطيخ مقبض الباب بالزفت.. حين وصل الراهب قرع الباب قائلا: أيها الاب اناتولي..
فقام الاب و فتح الباب بالسرعة التي تسمح بها شيخوخته.
و بعد ان القى عليه التحية اردف: أحدهم لطخ لك مقبض الباب.. و استطرد: مَنْ يكون ياترى؟
فاجابه الاب بصوت خافت: ليس إلا روحاً ضالة.
– امسحه –
– حالاً
– أعطني قطعة قماش لأمسح يدي.
– ليس لدي.
– ألم أعطك بعض الخرق لاحتياجاتك؟
– بالفعل لا يوجد خرق.. انظر في الداخل لتتأكد. هذا إن كنت لا تمانع الدخول وسط الفحم والزفت والقذارة.
– لا يهم.. أنا هنا بالنيابة عن الأب الرئيس “فيلارت”.. خذ بركة الأب “فيلارت” واسكن بسلام معه.. فمن يعيش مع قديس يصبح قديساً.
– لقد قلت شيئاً لم أفهمه.
– الأب “فيلارت” يريد أن يغمرك بعطفه. يريدك أن تعيش معه في حجرته حتى تستعيد صحتك.
– ومن سيعمل هنا؟
– الأخ “نيكوديموس” الذي تحت الاختبار.
– كيف؟ إنه يفزع من النار.
فاجابه و هو يمزح:
– كلنا نخاف من نار جهنم.
– “ايها الأب “أيوب” بارك عليّ لكي أبقى هنا. لقد اعتدت المكان وأعرف كل شيء عنه.. إنه الشتاء أحتاج مكاناً أستدفئ به. هل تسمعني؟
– الاب “فيلارت” تعطف عليك. اطع اوامره.
– اسمع، أنت تعلمت القراءة والكتابة، أليس كذلك؟
– إن لم أتعلم ، لما كنت في هذا المنصب.
– وهل تقرأ الكتاب المقدس أيضاً؟
– بالتأكيد، أحفظ الكثير منه عن ظهر قلب.
– : لقد نسيت لماذا قايين .. ْقتل أخاه هابيل؟ ..
– أنت ومزاحك السخيف !!
– من الافضل أن تنظف ذلك المقبض.. أنت منغمس في القذارة
– أيها المهرج.
– ..إنها متعة حقيقية
-4-
كان رئيس الدير الاب “فيلارت” مستغرقا في رسم ايقونة للسيدة العذراء حين فاجأه الاب “ايوب” اذ دخل قلايته في هدوء دون ان يسمع صوته. فالتفت اليه و قال: أنت دوماً تفاجئني.. أين تعلمت المشي دون أن يسمعك أحد؟
اجابه و هو يمزح: استطيع أن أضع حدوة حصان لو رغبت، لكي تسمع خطواتي من بعيد.
اجابه على الفور: أَتجرُؤ.. هذا دير ، وليس اصطبلاً.. لو ارتدى الجميع حدوة حصان ستكون الضوضاء شديدة!.. مثل مضمار السباق.
– وهل سأبدأ بالرهان عليك؟
– ماذا لديك الآن؟
– سأبلغك أمراً… الأب أناتولي
– الأب أناتولي؟
– لا ليس مرة أخرى. ما الخطأ الذي ارتكبه؟
و اخرج من جيبه ورقة صغيرة وبسطها بين يديه و اردف: كله مدون هنا؟
– وما حاجتي لما كتبته!. قل ما لديك ولننته من هذا الامر.
– الموضوع بكل صراحة لا يمكن احتماله أكثر من ذلك.
– أولاً ، الاب أناتولي لا يغسل وجهه ويديه أبداً.. ثانيا، هو دائماً يتأخر على العمل.. ثالثاً، العلمانيون يأتون دوماً لرؤيته.. بالأمس دخل الكنيسة مرتدياً حذاءً في قدم وجورباً في القدم الاخرى، وبدأ يرنم بصوت مزعج .. أبتي الأخوة يتذمرون من هذه التصرفات.. نعم هو يدخل الكنيسة في الأعياد لكنه لا يصلي فقط يخرج مثلما أتى وهو قد امتنع عن دخول غرفة الطعام.
قاطعه رئيس الدير:
– يكفي، رأسي تؤلمني بالفعل.. أين هو الآن؟
– وأين سيكون غير ذلك؟.. في غرفة المرجل. يشرب الشاي مع العلمانيين. شاي بالسكر. هل أستدعيه؟ –
– لا سأراه بنفسي – هل أخبرته بأن ينهي عمله في غرفة التسخين؟ وينتقل لحجرتي؟
– لقد فعلت –
– ثم ماذا حدث؟ –
– لقد سألني إن كنت أعلم لماذا قايين قتل هابيل؟
– ولماذا قتله حقاً؟
– هل تحاول احراجي؟!
– آسف ، تستطيع الذهاب. سأحل الموضوع معه.
– …حسناً، أنا..
اما رئيس الدير فلم يترك له فرصة للكلام و قال له: اذهب أيها الاب الصالح، اذهب واغفر لي
***
كان الاب اناتولي راكعا يصلي:
يا الله اغفر لي انا الخاطئ. احفظني واحمني. وأعطني واخوتي الصحة والقوة. واجعل يومي هذا سعيداً. وخاليا من الذنوب. اغفر لي يا الله. قوّي إيماني. وضاعف حبي لكَ. فأنا بكل قلبي طلبتك يا الهي. الهي امنحهم مغفرة لجميع خطاياهم. حتى عن أولئك المتغافلين عن الخلاص ورجاء القيامة.
يا والدة الإله الممتلئة نعمة والمباركة. يامن هي أكرم من الشيروبيم وأرفع مجداً بغير قياس من السيرافيم. إياكِ نعظم..
احدى زائرات الدير قابلت الاب ايوب و طلبت اليه قائلة: أبتي .. أرجوك اطلب من الأب أناتولي أن يصلي لأجل زوجي الراحل. لقد قُتل في الحرب الثانية دفاعاً عن الوطن.
اجابها بهدوء: اجلسي يا أختي ولنشرب الشاي. اجلسي. احكي لي قصتك.
– إنه يأتيني في المنام دائماً.
– و ماذا يقول؟ –
– لا شيء – إنه فقط يتأوه
ثم قال بعد صمت لبرهة:
– بالتأكيد هو يشعر بالسوء في الأعلى.
– هل كنت تحبينه؟ –
– ولازلت – لقد قضينا معاً فقط ستة أشهر. بعدها طلبوه للتجنيد. أنا الآن أرملة منذ ثلاثين سنة.
– ..حسناً أمام هذا الكم من الحب. لا أجد ضرراً في سؤاله. سأذهب لرؤية الأب “أناتولي”. إنه ليس قدّيساً لكنه واسع الاطلاع. قد يعطيكِ نصيحة جيدة…
قال لها و هو يقترب من قلاية الاب اناتولي:
– تعالي إلى هنا. ريثما أتحدث إليه.
– أنا سأفتح الباب. انتي تقفين هنا وتستمعين. ابقي صامتة.
– ما اسمه؟ –
– “ميخائيل” –
قرع باب القلاية:
– ..أبونا “أناتولي”.. بالخارج أرملة تسألك أن تصلي من أجل نياحة نفس زوجها المحارب ميخائيل.
– ما هذا الطلب ؟!.. أصلي صلاة الموتى من أجل شخص حي !!. كيف ذلك؟
– إنها تقول أنه توفي في الحرب سنة 1944 م
– إنه لم يتوفى.. لقد تم أسره. وبعد النصر.. أقام في فرنسا. إنه مريض الآن ويريد أن يرى حبه الأول. زوجته المحبوبة، قبل أن يموت..
بدا على المرأة علامات عدم التصديق، فخاطبها في لهجة حادة: هل سمعتي؟..لا صلاة جناز من أجل الأحياء.. زوجك حي لكنه مريض.. يجب أن تذهبي إلى فرنسا.. لتريحي الرجل المريض وتبقي معه حتى يموت.. ويغلق عيناه.
وقفت المرأة محدقة في الاب ايوب فبادرها على الفور في لهجة حادة:
– لا تحدقي فيّ، هيا افعلي ما قال لك.
-5-
كان الاب اناتولي يمشى في الدير مشية الحالم المتأمل في الاسرار الرائعة التى اودعها الله في خليقته و كان يقول بصوت هامس:
خطاياي تحزنني..أنا انسان خاطئ..
و بينما هو يمشي مر على راهب و قد نشر ثيابه في الخارج لتجف، فاشار اليه قائلا:
– ألا تستطيع ضبط وضع هذا القائم؟..الغسيل يلامس الأرض..
ثم جلس بجوار البحر و امسك بيده قطعة من الورق و قد علقها في قطعة خشبية و كأنها شراع مركب، فجلس بجواره الاب ايوب وسأله :
– ماذا تفعل هنا؟
– أكتب توسل إلى ملكنا السماوي. حتى ننجو من برد الشتاء. فإنه صعب على الأخوة أن يعملوا في هذا الصقيع.
– شكراً لله أنك تمزح مجدداً. كنت أخشى أنك جننت.
وضع المركب التي صنعها في البحر و نظر اليها و هي تبتعد. ثم نظر الى الاب ايوب و قال:
– انظر انها تبحر.
احنى رأسه امامه و قال:
– صلي من أجلي أبونا “أناتولي”؟
– بل صلي أنت من أجلي.
– انني خاطئ أكثر منك بثلاث أضعاف.
– ماذا تقول؟
– أنت لا تحبني أيها الاب “أيوب”.. الاب “فيلارت” يحبني، وأنت تسعى لإرضائه.
– لماذا عليّ أن أحبك؟ أنت لا تمر بحجرتي دون أن تقلقني بمزاحك السخيف مرة تشوه قبضة الباب ومرة تملأ المكان بالقمامة.. هل تعتقد أنني محتاج لنصائحك لكي أعرف خطاياي؟
– حسناً.. انسى ما قلته يا أخي.. وسامحني أنا الخاطئ.
ثم نهض بتثاقل بسبب كبر سنه، فحاول ان يساعده الراهب و هو يقول:
– أنت متعب؟ –
– لا –
– حسناً.. دعني اسندك –
– لا، استطيع أن أتدبر أمري –
و اخذ يمشي على مهل و كأنه ينتزع رجله من الارض انتزاعا.
-6-
وفدت الى الدير سيدة و معها ابنها ذو ال 12 عاما و هو يتوكأ على عكازين بسبب رجليه المكسورتين. رآهم الاب اناتولي، و كلم الام:
– .. احترسي… انتبهي لساقه..
– لقد سقط من سقف الحظيرة، وكسر رجله، وأصبح غير قادر على الحركة، أجريت له أربع عمليات لكن لم ينجح أي منها. لقد ذهبنا الى جراحين وأخصائيين كثيرين.قول
رفع الولد نظره الى امه و قال:
– أشعر بالسخونة ، أمي
– هذا الاب سوف يساعدنا
– لا أحد يستطيع مساعدته حتى أصبحت ساقاه لا تعملان
قال الاب اناتولي للام بصوت اجشّ:
– اجلسي أنتي متعبة
– ما اسم الصبي؟-
– “فانيتشكا”-
– فلنضع العكاز جانباً.. انهض..سأحرك قطعة الخشب قليلاً.. ضعيه عليها.. لا تخاف –
– ألن يؤذيه ذلك؟ –
– أمسكيه
– ..يا حبيبي فانيتشكا
– سأصلي لله.. وأنت صلي أيضاً. بكلماتك. واطلب منه أن يشفي ساقك. إن الله حنون وسيساعدك…سوف يفعل
– …ياعمري
– قفي ساكنة
رفع الاب اناتولي عيناه الى السماء و يصلى: أيها الملك السماوي المعزّي روح الحق هلم واسكن فينا وطهرنا من كل دنس أصابنا وخلص نفوسنا.
التفت الى الصبي و قال:
– ادعُ الله.. نعم يا حبيبي ، اسأل الله.
صلي الولد:
– أرجوك ساعدني يا رب واشف رجلي.
صلي الاب اناتولي:
– أنزل نعمتك على عبدك المريض. اغفر كل خطاياه. وأرسل قوتك الشافية على بدنه. اخرج كل ما فيه من أمراض وأوجاع واشفِ مرضه. اشفِ عبدك. أرجوك يا الهي المحبوب. أقمه من أوجاعه. اجعله يذهب للكنيسة حتى يعرف وصاياك. المجد للأب و الابن والروح القدُس دائماً وأبداً..آمين. يا إلهي ساعد “فانيتشكا”ْ واشفِ رجليه أنا أثق بك يا رب.
– و التفت الى الصبي و قال: الأن ستكون بخير، يا فانيتشكا. هيا امشِ.
اجابته المرأة على الفور: لا، إنه لا يستطيع.
– بلى يستطيع..حاول – كن حذراً – تمهل ، تمهل. انظري إنه يمشي. أنت لن تحتاج العكاز بعد الآن. انس أمرهم.
بنظرات حانية قالت الام:
– تعال إليّ يا ملاكي. ولدي..ولدي الغالي. نحن ذاهبون الآن، شكراً لك –
– تذهبان؟!ْ –
– يجب أن تبيتوا الليلة في الدير. غداً الأب “فيلارت” سيناول ابنك العشاء الرباني حتى لا يعود إلى مرضه بعدها أبداً.
– لا أستطيع البقاء. لدي عمل غداً
– هل تعتقدين أني أمزح معكِ؟
– سأخسر عملي
– ما هو الأهم- ابنك أم عملك؟
– لكن يجب أن أذهب للعمل.
– اغربي عن وجهي.. ارحلي !!ْ
بعد حوالي الساعة غادرت الام الجزيرة هي و ابنها في قارب. بمجرد ان رآهما الاب اناتولي حتى هرع الى القارب و هو يصيح:
– انتظري.. انتظري !ْ عودي إلى هنا..ارجعوا للشاطئ.
– ماذا تظن أنك فاعل؟. أعطني ولدي. ماذا تفعل؟ ..
– إذا كنت لا تريدين التفكير بنفسك – إذن فكري بابنك الذي سيصبح مقعداً طول عمره.
– هاته –
– أنتي جاهلة –
– هاته..
– فانيتشكا تعال معي ، لا تخف.
– سيطردونني من العمل.
– هل تحبين عملك؟
– نعم، أحبه.. مكتبنا الهندسي ينفذ مشروعاً. حتى أننا نعمل طوال الليل.
– لقد انكسر أنبوب في المشروع، وتم صرف الموظفين بأجازة دون أجر لمدة ثلاثة أيام.
– كيف عرفت؟ .. لماذا تكذب علي؟
– أنا لا أكذب ، عندما تتأكدين سيكون قد فات الاوان.. اذهبي يا امرأة، لا وقت لدي للجدال معك.
يحاول احد الرهبان ان يجادله في سبب ابقاء الولد، ينظر اليه في حسم و يقول:
– جدال آخر؟ اسمع.. خذ الصبي. رتب مبيته هنا ليلة واحدة. وغداً سيقوم الأب فيلارت بمناولته العشاء الرباني.
تقترب المرأة من الراهب و هو يحمل الولد، فيسألها:
– ابن مَنْ هو؟.. ما الذي نفعله الآن؟.. هل هو ابنك؟-
– نعم-
– تعاليا لتستريحا.
بقى الولد و امه في الدير، و في صباح اليوم التالى نالا سر القربان المقدس.
-7-
كان الهدوء شاملا فلا صوت و لا حركة.. و القمر يطل من بين السحب تارة و يحتجب وراءها تارة اخرى، واخذ الاب اناتولي يتلو المزمور الاول و وقد استوى في جلسته في موضع مرتفع هو مكان المنارة: “طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة المنافقين. وفي طريق الخطاة لم يقف. وفي مجلس المستهزئين لم يجلس بل سروره في تنفيذ إرادة الله. فيكون كالشجرة المغروسة على نبع المياه الأبدية التي تعطي ثمرها في حينه ووراقها لا يذبل وكل ما يصنع ينجح فيه وليس كذلك المنافقون لكنهم كالقش الذي تذرّيه الرياح.. “.
و فيما كان الرئيس يمر القي بخشبة متفحمة امامه، فسأله متعجبا:
– ماذا تفعل هناك؟
– استريح قليلاً.. بانتظارك
– لماذا رميت هذه الخشبة المتفحمة؟
– لقد قفزت من يدي ، لم أقصد ذلك
– فهمت.
– لا ، لم تفهم –
– انزل –
– لا، أنا مستريح هنا.
– عليك شكاوى كثيرة.
– الأعداء قاموا عليّ والأقوياء العنفاء طلبوا نفسي.
– وماذا تريدني أن أفعل أيها المهرج؟
– عظيمة هي أعمالك يارب.
– سمعت أنك تنشر الخرافات وتجرّب إخوتك الرهبان والعلمانيين.
– احفظني من لسان السوء.
– انسَ الصلوات الآن واستخدم عقلك وبما أني رئيسك فيجب عليّ أن أعاقبك.
– الله نوري فمِمَنْ أخاف؟
– انتظر أيها المهرج. ستحصد ثمار أفعالك.
– في الله خلاصي وراحتي. اغفر لي وارحمني. ارشدني في طريقي يا الهي لأن نفسي ضعيفة وجسدي أيضاً وشهواتي آثمة و أنا انسان خاطئ.
تركه الراهب بينما استمر الاب يتأمل و يصلي..
-8-
كان الأب “أناتولي” يتجه لاتجاه خاطئ أثناء الصلاة في الكنيسة . فاشار احد الرهبان لاخر قائلا:
– اجعله يتجه للشرق.. و بالفعل نبهه الراهب..
ما هي الا لحظات حتى سمع صراخ احدهم:
– حريق أيها الاخوة.. حريق..
هتف رئيس الدير على الفور:
– أطفئوها.. أطفئوها..
خرج الكل مسرعا لكي يطفئ الحريق و اخذ الكل يعمل جهده في اخماد الحريق المندلع ..
بعد ان اخمد الحريق سأل رئيس الدير الاب اناتولي:
– لقد علمت بأمر الحريق، أليس كذلك؟
– لا أحد يعلم ذلك إلا الله.
– لقد فهمت الآن لماذا ألقيت عليَّ الخشبة المحترقة..
– كثيرون يحزنون على الصديق أيها الأب فيلارت..
– لماذا لم تخبرني؟.. لماذا استخدمت الخشبة المحترقة؟
– أنا رجل عادي ولا أفهم إشاراتك
– لو أصبحت مٌفتَرى عليك لأجل المسيح فسيسكن روح الله فيك.. أجبني.. أنا رئيسك
– طوبى لكم إذا اضطهدوكم وعيروكم من أجلي
– لا تتفوه بكلمة أخرى.
أتي احد الرهبان و خاطب رئيس الدير:
– بصلواتك يا أبانا أطفئنا الحريق. حجرتك احترقت قليلاً لكن أنقذنا الدجاجة التي كنت محتفظا بها فيها.
– يكفي.. كفاك ضجيجاً كالدجاج، فأنت لست في مكتبك. أنت في بيت الله.. دعنا لا نناقش الأمور الدنيوية هنا. الكنائس تحب الصلاة.
خارج الكنيسة يشرح الراهب لرئيس الدير ما حدث:
– لقد كان الأخ “أمفروسي” الذي تحت الاختبار هو السبب. فقد ملأ المصباح بالزيت، و أشعل عود ثقاب، فسقط منه في الإناء –
– فهمت – سنبدأ إصلاحه في الحال.
-9-
فيما الاب اناتولي يقوم بتحميل الفحم على عربة صغيرة لنقله الى غرفة المرجل، مر به الاب فيلارت و هو يحمل بطانيته، و قال: أريد أن أخبرك شيئاً أب أناتولي.. لم أرغب بأن أكون رئيساً للدير.. لقد أردت فقط أن أحيا في البرية.. حياة الناسك.. لقد شعرت أن الحريق إشارة لي كي أتوحد.. أريد أن أعرف رأيك؟
– أنا لست رجلاً متعلماً.. انا لا أعرف أي شيء
– جئت هنا لأتقاسم الحجرة معك، حتى يتم ترميم حجرتي. هل تقبلني عندك؟
– إن القرار بيدك.
– أين تنام؟ –
– هنا –
– هنا على الفحم؟ –
– نعم هنا، على الفحم – تستطيع النوم بجانبي
– جيد. سنعتني بأنفسنا معاً ونصلي معاً ونفكر بالله والحياة الأبدية
– للعلم، فأنا رفيق نوم مزعج، فلدي نوبات سعال. أحياناً أرغب بالغناء فجأة في منتصف الليل. هل تمانع؟
– لطالما رغبت أن أسألك أيها المهرج، لماذا تتصرف بشكل غير لائق وتخالف الترتيب المتبع أثناء الصلاة في الكنيسة؟. يجب أن تصلي كالنظام المتبع. لو كل أحد بدأ بالصلاة بطريقته إلى أين سنصل؟
-10-
امسك الاب اناتولى فردة حذاء رئيس الدير و قال:
– أب فيلارت لديك حذاء جميل.
– هل أعجبك؟ –
– جداً –
– إنه ناعم جداً، أليس كذلك؟. إنه الوحيد الذي أستطيع ارتداءه. غبطة الاب البطريرك أعطاني إياه كرماً منه. إنه يعلم أنني أعاني من قدمي
ثم التفت الى بطانيته و قال:
– وبطانياتك أجمل. فهل غبطته وهبها لك أيضاً؟
– لا، لقد اشتريتها من اليونان عندما زرت أنا والمطران جبال أثوس
– حسناً… لننام.
ناما الاثنان نوم الابرار ووجهاهما مشرقان بنور الايمان و الثقة..
***
في اليوم التالي اذ سقطت اشعة الشمس على تمثال المسيح المصلوب في غرفتهما فبدا كأنه يباركهما..
في الليل جلس الاب اناتولي بقرب المدفأة و هو يمسك بأحد الكتب و كأنه يقرأ. فسأله الاب فيلارت متعجبا:
– ماذا تفعل أب أناتولي؟
– أقرأ كتاب الخطايا البشرية.
– عندما أنتهي منه سأرميه في الموقد ولن يبقى بعدها خطايا
ثم امسك الاب اناتولي فردة حذاء الاب فيلارت و القاها في نار المدفأة. فنهض الاب فيلارت مسرعا محاولا ان ينقذ فردة حذاءه. و خاطب الاب اناتولي بصوت اجشّ موبخا:
– ماذا تفعل بحق الجحيم؟
– سأقرأ الصفحة الثانية.
– صفحة؟! .. إنه حذائي.
– وهذه الأخرى .. ألم تعلم..أن أغلب أعشاش الخطايا موجودة في أحذية الأساقفة؟
– إنك لمهرج..
ثم يسرع الى الباب ليخرج تاركا القلاية فيجد الباب مغلقا فيسأل:
– لماذا الباب مغلق؟
– سنطرد الشياطين –
قال هذا و هو يضع فحما في المدفاة و جعلها تزداد اشتعالا، وتصاعد الدخان بكثرة، بينما الاب فيلارت تبدو عليه علامات الخوف و هو يسأل و يسعل في نفس الوقت بسببب الدخان المتصاعد:
– أية شياطين؟ –
– إنهم حولنا في كل مكان، ألا تراهم؟
– افتح في الحال
– الشياطين لاتحب الدخان. نجعلهم يصيرون كالدخان. انظر إلى أين وصل أحدهم.. وهذا واحد آخر
– إنك أنت الشيطان
– ..هذا عش تكاثرهم. انظر ، هاهُم..اللعنة عليهم..اخرجوا
– لكننا سنختنق –
– على وشك الإنتهاء – سنتخلص منهم جميعاً
– سوف نختنق –
– انتظر لحظة –
– لماذا أغلقت فتحة الهواء.. هل تريدني أن أموت؟
– انتظر-
– هواء، هواء-
فتح الاب اناتولي الباب فاندفع الاب فيلارت الى الخارج ليستنشق الهواء البارد، بينما الاب اناتولي يبدو و كأنه يطارد اشباحا يراها. ثم قال: تقريباً انتهى كل شيء. اذهب هناك. لقد انتهينا.. ثم عاود الكرةمن جديد و كأنه نسى شيئا فاندفع الى جانب الغرفة و امسك بالبطانية التى تخص الاب فيلارت و قال: آه، لقد نسيت رئيس الشياطين هناك.. لقد أمسكته.. صغير لكنه مؤذِ.. سوف أُغرقه.
بعد قليل جلس الاب فيلارت بجوار الاب اناتولي و كان الصمت يلف المكان فنظر اليه و كأنه يستكشف تضاريس و جهه، فقال: لماذا تنظر إليّ هكذا؟. أنا حقير، أليس كذلك؟ هذا هو أنا.
اجابه الاب فيلارت و كانت تصرفات الاب اناتولي كالعاصفة التى هزت كيانه هزا عنيفا: انا لا أُكن لك ضغينة يا أخي .. أنا شاكر لك يا أخي.. في الحقيقة.. لقد خلصتني من أشياء سطحية وغير ضرورية كنت بالفعل متعلقاً.. بذلك الحذاء والبطانية وأنت خلصتني منهم. شكراً لك. وأنت أريتني كَـمْ أن إيماني ضعيف. لقد خفت فعلاً وظننت أنني سألاقي الموت داخل الغرفة. لقد خفت من الموت لأني قليل الإيمان وهذا يعني أنني لست مستعداً للقاء ربنا. لقد خفت من مواجهة الموت وأنا غير تائب. إن بداخلي القليل من الفضائل والكثير من الذنوب.
كانت الافكار تختلج رأسه و كأن معركة تدور داخلها: أية فضائل؟ لقد فاحت رائحة نتانة فضائلي امام الله. أستطيع أن أشم الرائحة الكريهة. ثم وضع رأسه بين يديه و اطرق برأسه و تسآل: لماذا أنا بالذات؟.. لماذا اختارني الله لأقود هذه الجماعة؟ كان يجب أن يتم شنقي بسبب خطاياي بدلاً من ذلك جُعِلتُ قديساً. اية قداسة بداخلي؟ فلا يوجد بقلبي سلام..”تيخون” “تيخون بتروفتش” هل تسمعني؟..
و بكى كما تبكي المرأة الضعيفة، و كما يبكي الطفل المذعور، و استعرض حياته و غلطته الاولى و كأن سحبا مظلمة تخيم على ذهنه فأخذ يقول: أنني طوال حياتي أعاني من العذابات. لا أستطيع الحياة. ولا أستطيع الموت. أخي. أنت أملي الأخير. إن روحي ضعيفة. أنا أحمل هذه الخطية لسنوات. احساسي بالذنب لم يفارقني لحظة واحدة.
و ازال البكاء عن صدره عبئا ثقيلا، فبدأ يفكر في جو من الهدوء واردف: أنا أعلم أنك غفرت لي. صل إلى الله ان يرفع هذا الحمل عن صدري.
-11-
في احدى غرف القطار جلس الادميرال بجوار ابنته الشابة ذات العشرين ربيعا، ولا يقطع سكون المكان سوى صوت عجلات القطار ورنين الملعقة و هي تهتز في كوب الشاي .. قدم الاب لابنته كوبا من الشاي.. و لكنها رفضت: لا أريد الشاي منك.
رد عليها الاب: أنا أريد.. ولم يكمل اذ انحبس الكلام داخله، فقد غشيته الذكريات باشجانها، و اكتفي بنظرة حانية الى ابنته..
– لماذا نظرت إليّ تلك النظرة يا أبي؟
– لم انظر.
– بلى، نظرت.. ألا تحبني ابداً؟
– لماذ تقولين هذا؟ أحبك يا ابنتي الصغيرة.
اخذت تنظر من نافذة القطار و كأنها عصفور محبوس في قفص، و قالت:
– انت تكذب، أنت لا تحبني.. لا استطيع الجلوس هنا.. لا أريد البقاء هنا.
اجابها الاب على الفور:
– ماذا حدث، يا ابنتي؟
– لماذا تحبسني هنا؟
– ماذا؟ –
قطع حديثهما دخول الجندي عليهما غرفتهما في القطار:
– سيادة الأدميرال –
– ماذا تريد؟ –
– ..أنا آسف – ثم اعطاه رسالة يأخذها منه و يقرأها..
التفتت الفتاة الى ابيها ، ..
– ابي، هل تظن أني مريضة؟
– بالطبع لا..أنتي متعبة وتحتاجين للراحة.
– لكنني مريضة.. مريضة جداً
***
ذات يوم دخل الاب ايوب على الاب اناتولي و يبدو انه كان ينهي صلواته و سأله:
– لماذا ارسلت لي ذلك البخور؟
– سيكون هناك جنازة يوم الأربعاء
– جنازة مَنْ؟ –
– الذي اختاره الرب –
– مَنْ الذي تتحدث عنه؟
– تيارات الموت قد غمرتني وشباك الموت أحاطت بي..
– أتريد أن تموت حقاً؟.. سأحضر لك تابوتاً.. هل تريده من خشب البلوط؟ الصنوبر؟ اختر ماتريد فلا يهم..
– ليس ضرورياً. لدي واحداً بالفعل.
– أين هو؟
– في المدخل.. انظر الصندوق الموضوع هناك
– ألا تستطيع الموت مثل باقي البشر العاديين؟.. لماذا لا نجهز لك تابوتاً ملائماً؟
– أنا أريد الصندوق أبتي ، الصندوق.. هذه رغبتي.
– أي نوع من البشر أنت؟.. كل البشر يرقدون داخل تابوت عند الموت حتى القديسين الأبرار، لكنه يريد صندوقاً مربوطاً بالحبال.. هذا غرور.. غرور..
– أنت فعلاً تحبني يا أبت أيوب. أليس كذلك؟
– لا أستطيع أن أفهمك. أيها العجوز الرجعي..
و استطرد قائلا:
– لقد سألتني. لماذا قايين قتل هابيل؟..سأخبرك. لقد حاولت مساعدة آخرين مثلك، لكن الله لم يقبل تضحيتي.. لماذا أتحدث إليك أساساً؟
– انتظر..عندما أموت هل ستبكي علي ؟!
***
– يبدو أنك تستمتع بوقتك أيها الأب أناتولي
– سمعت أيها المهرج أنك تتحضر للموت.
– إذاً لقد أخبروك ؟!
– أنا لا أريد أن أفقدك..كنت أتساءل، هل يجب أن أرسمك كاهنا؟
– ماذا تقصد؟
– لقد عشت حياة دنيوية وقد تجنبت ممارسة الطقوس فهل الآن أترك كل شيء؟.. أبتي، انس الموضوع ، هذا مستحيل.
– ما الذي تتحدث عنه؟
– الخطايا.. الخطايا الحارقة.. لقد أحرقت قلبي..
– أنت تتكلم بالألغاز مرة أخرى يا أخي.. الله يقدر أن يغفر كل الذنوب.. فليس عنده شيء مستحيل
– هذا يكفي !!ْ
***
ركبا الادميرال و ابنته مركبا ليذهبا الى الدير حيث الاب اناتولي. يرى ابنته و هي تبتسم في وجه النسيم البارد الذي يداعب شعرها الذهبي. همس الاب لابنته التي تجلس على الجانب المقابل في المركب:
– ماذا بكِ يا “ناستيا”؟.. تعالي يا طفلتي..
قامت الفتاة و جلست بجوار اباها، فوضع يده على كتفها في رفق و بدت عيناه الزائغتان في افق البحر و كأنه يسترجع ذكريات الماضي و حنين المستقبل والامل في شفاء ابنته على يد القديس الذي جاء اليه طلبا لصلاته..
وبعد حوالي الساعة وصلا الى الجزيرة، و ما ان رست المركب حتى هرولت الفتاة منطلقة يملأها المرح و يتألق في عينيها بريق السرور..
قابلها الاب اناتولي، و قال لها:
– أنتِ لم تأتي لوحدك، صحيح؟
– أبي ..هناك.
– وما الاسم؟ –
– “ناستيا” –
– لا اقصد اسمكِ. بل اسم أبوكِ.
– اسم ابي “تيخون بتروفتش”.. إنه أدميرال.
– أدميرال؟.. أنا سعيد أنه أدميرال.. تستطيعين الذهاب.. انطلقي في الجوار.
تكلم ابو الفتاة مع الاب اناتولي:
– أنا حزين على ابنتي.. إنها مريضة.
بدا على الاب علامات الارهاق، فسأله الادميرال:
– ماذا بكَ؟.. هل أستطيع مساعدتك؟
– لا شكراً ، الملائكة تغني في قلبي.
استطرد الادميرال: آسف ، إنها ليست كما كانت على الإطلاق.. لقد أخذتها لأطباء.. “حتى أننا ذهبنا إلى “موسكو. لم ينفع شيء. سمعت أن هناك قديس في الدير. إن لم يستطع هو مساعدتنا، فلا أدري مَنْ سيقدر؟
فسأله الاب: كم من المدة وهي على هذا الحال؟
اجابه على الفور: ..أربع سنوات ونصف.. منذ توفي زوجها.. كان يعمل في غواصة في البحر.. ثم سأل اذ لم يكن يعرف الاب اناتولي: أخبرني، هل يستطيع هذا القديس.. هل يستطيع أن يشفي المجانين؟ –
اجابه الاب اناتولي: إنها ليست مجنونة.
فعاد الادميرال يسأل: ماذا أصابها إذن؟
– بها روح نجس.. بداخلها شيطان يعذبها.
– اعذرني، كلامك يبدو سخيفاً.. وكيف لك أن تعلم؟ –
– أنا أعرفه شخصياً –
– تعرف مَنْ؟ –
– الروح النجس.
نادي الاب على ابنته بصوت عال:
– “ناستيا”.. أين أنتِ؟
أتت الفتاة مسرعة و علامات المرح تبدو عليها، فقال لها:
– فلنذهب من هنا .. لنغادر المكان.
و لكن الاب اناتولي يذهب الى القارب فتتبعه الفتاة و لا تنصت الى اباها .. يأخذها و يبحر بها الى جزيرة اخرى مجاورة. و ما ان يصلا حتى يدعوها:
– يا ناستيا.. هيا اخرجي من القارب فقد وصلنا
– لن أذهب معك.
– يجب أن تفعلي، ياحبيبتي.
– لا ، أنا متعبة.
– اذهب أنت، أما أنا سأبقى..أنا لن آتيَ معك..أنت شخص مقرف.. وجزيرتك مقرفة أيضاً.. لن آتيَ معك –
– يجب أن تفعلي – يجب أن تأتي ، لا تخافي
– لن آتي –
– ستكونين بخير –
– لا أريد الذهاب.. لا أريد..
جذبها بقوة خارج المركب، فجرت و اختبأت وراء صخرة .. اما الاب فانه ركع – و الفتاة تلاحظه من بعيد- وصلي:
باسم الآب والإبن والروح القدس. ياربي يسوع المسيح. لتكن مشيئتك..ليَـقـُم الله وليتبدد جميع أعداءه، ويتلاشون كالدخان، وكما يذوب الشمع أمام النار، كذلك تهلك الشياطين أمام الذين يحبون الله أمام الذين يرسمون علامة الصليب..ويقولون بفرحٍ :ْ أيها الصليب المكرم المحيي الذي يطرد الشياطين..
صرع الشيطان الفتاة فارتمت على الارض مثل الميت، بينما لا يزال الاب يقول و هو يرشم علامة الصليب:
يا صليب ربنا الفائق النقاوة ومعطي الحياة، ساعدني بشفاعة العذراء القديسة أم الله، وجميع القديسين إلى أبد الأبد ، آمين
سبحوا الله.. يا الهي اشفِ المرضى. آمين
ثم قام و ذهب اليها و رش وجهها بقليل من الماء وعندما استفاقت نظر اليها بحنو و قال:
– أنتِ الآن بخير
اما هي فقد استغرقت في البكاء. فربت على كتفها برقة قائلا:
– ابكي كما تريدين..
ثم ركبا المركب و عادا الى الدير .. قابله الادميرال و قبل يده و قال:
– شكراً لك.. لا أدري كيف أشكرك بما يكفي..ابنتي الآن في صحة جيدة.
– يجب أن نشكر الله..اذهب الآن إلى الكنيسة.. يجب أن تعترف “ناستيا” بخطاياها.. وتتلقى المناولة.. وانت ألا تريد الإعتراف؟
– أنا لا أفهم.
– تعال، سأشرح لكَ كل شيء.. لا تكن خائفاً أدميرال.. لا أحد يريد اختبار ولائك للحزب.
– أنا لا أخاف أحداً.. سبق أن استنفدت نصيبي من الخوف.. لكني في الحقيقةً ، لا أعلم سبب كل هذا.
جلس الاب اناتولى و اخذ يتحدث كمن يستعيد شريط الذكريات، وكان صوته يبدو عليه الحزن و الضيق:
– في عام 1942 تم أسري في الحرب.. كنت شاباً. وعدني الألمان أن يطلقوا سراحي إن قتلت رفيقي.
– أين كانت خدمتك؟-
– هنا في الاسطول الشمالي-
– ما كان اسم رفيقك؟
– لا أتذكر.. لقد كان أكبر سناً مني. وكان كابتن مركب شحن..
– ..لماذا لم تسألني، هل أطلقت عليه الرصاص؟
– حسناً ، هل فعلت؟
– نعم.. لم أعرف كيف أعيش بهذا الذنب.
– وانا أيضاً.. لماذا تخبرني؟
– لقد كبرت في السن و أخاف أن أموت بهذه الخطية.. أنا خائف.
– لا تخف.. مُت بسلام ، أبتي.. أعرف هذا الرجل.. لقد نجا من الموت.. أنت أطلقت الرصاص..على ذراعه فقط وكان هناك انفجار فسقط من القارب.. وأمسك بخشبة طافية وتم إنقاذه في الصباح التالي.. سامحني.. اغفر لي أرجوك..
– لقد سامحتك منذ زمن بعيد.. لقد كنت متأكداً أنك لم تنجو.. كنت أظن انك مُتّ على متن القارب..
– تيخون” اذهب بسلام”.. ليكن الله معك
-12-
– شكراً لكم يا اخوة.. عمل جيد
– لقد نظفناه ثم لمّعناه. ويمكنك بعد ذلك استخدامه كدولاب.. هل أعجبك؟
– أحتاج تابوتاً وليس دولاباً
– لقد أردت إسعادك.. لا شيء أبداً يسعدك.. أستطيع أن آتي بورق الصنفرة، وأخربشه لك، أو ألوثه لك بفحمك. قل لي ماذا تريد؟.. و أنا أفعله لك يا أبت أيوب.
– سامحني أنا عجوز أحمق..
– اغفر لي مزاحي بالفحم والقذارة ولأجل التابوت
– لا عليك، لا عليك-
– اغفر لي بحق المسيح-
– فلندع الماضي بحاله.. أنت اغفر لي أيضاً.. لقد ظلمتك..سامحني بحق المسيح
– فلتكن مشيئة الله
خاطب الاب ايوب و هو يرقد في الصندوق و كأنه ميت يتم وضعه فيه:
– أبتي “أيوب”، ساعدني
– أخيراً أنا هنا.. اذهب وأخبر الاب فيلارت أن خادم الله أناتولي قد غادر هذه الحياة
– “أيها الأب “أناتولي ألا تخاف الموت؟
– لست خائفاً من الموت. أنا خائف من الوقوف أمام الله.. خطاياي ثقيلة عليّ..
– انصحني: كيف ينبغي أن أحيا؟
– كلنا خطاة.. عش كما ينبغي أن تعيش..لكن جاهد ألا ترتكب الخطية.. حسناً ، يكفي.. يكفي كلاماً ، اذهب ياعزيزي ، اذهب
***
رفع عيناه الى فوق ووجهه يشع بالايمان و ابتسامة خفيفة على شفتيه، و هو يحتضر صلي قائلا:
يا الهي، اقبل نفسي الخاطئة.
ثم اسلم الروح.
===================
1 thought on “رواية الأب اناتولي … !!!”