اليوم البرايا كلها تمـتلـىء فـرحاً – محمود الزيباوي
تظهر صور الميلاد الأولى مع بدايات نشوء الفن المسيحي الأول في القرن الثالث، ويتكون النموذج الإيقونوغرافي الخاص بها في القرن السادس عبر تأليف محدد يبقى ثابتا مدى القرون الوسطى في الشرق كما في الغرب. ولا يحد هذا التأليف الثابت من قدرة الحرفيين على الابتكار والخلق. هكذا تبدو صورة الميلاد ثابتة ومتحولة في آن واحد. تعود وتتكرر إلى ما لا نهاية، إلا أنها تتحول وتتجدّد عبر تعددية الأساليب الفنية التي عرفها تطور الفن المسيحي. ويتجلّى هذا التحول في وجه خاص في نتاج المسيحيين الشرقيين حيث تمتزج الأساليب وتتداخل، فتطل صورة الميلاد في حلل جديدة تجمع بين النموذج البيزنطي الأول وطرق الفنون الإسلامية بفروعها المتعددة.
يتناول متى في إنجيله محطات ميلاد المسيح الأساسية ويروي لوقا في كتابه بعضاً من الأحداث التي سبقت هذا الحدث وبشّرت به. ولا نجد في إنجيلي مرقص ويوحنا أي ذكر للميلاد حيث تبدأ رحلة المسيح باعتماده على يد يوحنا المعمدان في نهر الأردن. في المقابل، تحفل الأناجيل التي توصف بأنها إيزائية ومنحولة، بالروايات الكثيرة التي تتناول بإسهاب ميلاد المسيح وما سبقه وتبعه من وقائع عديدة. ورغم عدم اعترافها بهذه الإناجيل كجزء من الكتب القانونية، فقد تبنت الكنيسة الأولى العديد من هذه الروايات بحيث أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من تقليدها وذاكرتها الحية. ويشهد لهذا التبني بشكل واضح تطور تأليف صورة الميلاد بين البدايات الأولى للفن المسيحي في نهايات القرن الثاني واختماره في القرن الخامس بعدما تبنت السلطة المدنية المسيحية كدين واحد وحيد للإمبراطورية الرومانية البيزنطية.
تكوين الصورة
تقتصر أقدم صور الميلاد على مشهد واحد يتكرّر مرسوماً على جدران المقابر ومنقوشاً على النواميس الحجرية. تجلس العذراء على العرش فيما يستريح الطفل على ركبتيها بينما يتقدم المجوس الثلاثة في اتجاهها على مثال الملوك المغلوبين، وفقا لنموذج إيقونوغرافي يتكرر في الفن الإمبراطوري الروماني. وترمز الصورة إلى خروج البشارة من دائرة العالم العبراني إلى عالم الأمم الواسع وتتويج المسيح كملك الملوك على هذا العالم. تتبلور صورة الميلاد في نهاية القرن الثالث وتحضر مريم مستلقية أمام المزود حيث يرقد المسيح مقمّطا بقطعة من قماش تلف جسده الصغير من أخمص القدمين إلى أعلى الرقبة.
ويظهر التأكيد لأممية الحدث مع حضور الثور والحمار أمام المزود، حيث تستدعي الصورة آية من سفر النبي إشعيا تقول: “عرف الثور مالكه والحمار معلَف صاحبه لكن إسرائيل لم يعرف وشعبي لم يفهم” (1، 3). وفي التأويل المسيحي، تشير هذه الآية الى رفض اليهود للمسيح “ابن داوود ابن إبراهيم” (متى 1، 1)، واعتراف الخليقة كلها به. مريم والطفل هما الشخصيتان الرئيسيتان في هذه الصور الميلادية الأولى، ويظهر يوسف في بعض الأحيان، كما في منمنمة من إنجيل ربولا السرياني الذي يعود إلى عام 586، حيث نراه ينحني على الطفل الذي يرقد هنا في مزود يرتفع فوق مذبح كبير من الرخام الوردي.
هكذا تحضر أحداث الميلاد في القرن السادس عبر مشهدين ثابتين نراهما في الكثير من شواهد الفن المسيحي. على واحدة من قوارير البركة المحفوظة في كاتدرائية مونزا في شمال إيطاليا، تبدو السيدة مع طفلها على العرش الذي تعلوه نجمة كبيرة تحتل وسط أعلى التأليف، فيما تتقدّم نحوهما مجموعتان تتكون كل منهما من ثلاثة أشخاص. عن يمين السيدة، يتقدّم المجوس رافعين بأيديهم الهدايا إلى ملك الملوك. وعن يسارها، يجتمع الرعيان مشيرين بأيديهم إلى النجم الطالع من المشرق. وعلى قارورة ثانية من هذه القوارير التي حملها الحجاج من القدس، نرى الطفل في المزود، يحوط به الثور والحمار في أعلى الصورة، فيما تبدو العذراء ممدّدة على فراشها أمام يوسف الجالس على حجر في القسم الأسفل. وتتكرر هذه الصورة على أيقونة من القرن السادس تجمع بين خمسة أعياد ومصدرها بلاد الشام. يجلس يوسف حائراً أمام مريم التي تحتلّ الجزء الأكبر من مساحة الصورة، فيما يبدو المسيح الطفل فوق المزود وسط مغارة سوداء تعلوها النجمة التي أضاءت في المشرق.
تثير هذه الصور “الصغيرة” كثيرا من الأسئلة المتعلّقة بتاريخ تكوين الصور الأيقونية الثابتة الخاصة بالأعياد،ويرى المختصون أنّ هذه الشواهد “الصغيرة” تستلهم تأليفها من صور “كبيرة” كانت تزين في ما مضى كنيسة المهد في فلسطين، مما يجعل منها مادة استثنائية لدراسة تكوين نماذج التصوير المسيحي الثابتة منذ ذلك العصر.
التأليف الواحد
تتحد صورتا الميلاد في تأليف واحد في القرون الوسطى حيث يستعيد المسيحيون على اختلاف مللهم ونحلهم نموذجاً ثابتا لا يتغير ولا يتبدل. تحتل المغارة المفتوحة بسوادها الحالك وسط التأليف. يظهر المسيح في المزود في قلب هذا الليل، “والنور يشرق في الظلمات ولم تدركه الظلمات” (يوحنا 1، 5). نراه مقمّطاً بقماشة بيضاء تلف جسده على شكل كفن، فهو المخلص الفادي الذي حل بين البشر ليموت ويفتديهم بموته. يكلل المغارة نجم مشع يلقي بأشعته فوق المسيح. يخبرنا متى بأن المجوس تبعوا النجم الذي رأوه في المشرق، وكان “يتقدمهم حتى بلغ المكان الذي فيه الطفل فوقف فوقه” (2، 9). لا يطغى حضور المسيح في هذه الصورة على الشخصيات المحيطة به، فالميلاد يشير إلى دخوله الحياة، أما خروجه إلى الخليقة وإعلانه البشارة فيتم في “الظهور الإلهي”، أي معموديته في نهر الأردن.
تحتل مريم الصدارة في هذا التأليف، فمنها تأنسن الكلمة وأشرق على الكون. يتقدم المجوس الثلاثة من المغارة ليقدموا للذي أتى من مشارق العلو الذهب والبخور والمر (متى 2، 11). وفي حركة موازية، يتقدّم جمع من الرعيان في اتجاه الطفل المضطجع في المزود، وقد أرشدهم إليه ملاك الرب، وفقا لما جاء في رواية لوقا (2، 8-20). كما تقول الترنيمة الميلادية البيزنطية، كل المخلوقات تقدم للمسيح شكراً. “فالملائكة تقدم التسبيح، والسماوات الكوكب، والمجوس الهدايا، والرعاة التعجب، والأرض المغارة، والقفر المزود، وأما نحن فأما بتولا”.
في الجانب الأسفل من الصورة، نرى رجل شيخا أبيض الشعر والذقن يجلس وحيدا، مستغرقا في تأمل عميق. هو يوسف، وقد اختلف البحاثة في تحديد معنى “تأمله”، والأرجح أنّ المشهد يمثل حيرة يوسف واضطرابه أمام حبل مريم، وفقاً لما جاء في الأناجيل المنحولة. “إن يوسف العفيف قد اضطرب في داخله من عاصفة الأفكار المريبة”، يقول البيت السادس من “خدمة مديح السيدة العذراء”، وهذا الاضطراب ما هو برأي اللاهوت إلا التعبير الحي عن عجز الإنسان عن إدراك السر الإلهي الذي لا يفسَّر. ونجد إلى جوار يوسف مشهدا آخر لا يأتي على ذكره متى ولوقا، وهو مشهد حمّام الطفل يسوع. حضور المسيح في المزود أمام العذراء المستلقية لا يمنعه من الظهور مرة ثانية في حوض صغير أمام امرأة متربّعة تتحسس بيدها مياه الحمام، تبعا لنموذج إيقونوغرافي روماني معروف في القرون الميلادية الأولى. وفقا لما جاء في إنجيل يعقوب الإيزائي (20-21)، تحمل هذه القابلة اسم صالومي اليهودية، وقد شكّكت بمريم فيبست يدها، ثم عادت وشفيت حين ندمت وآمنت بالمسيح.
تعددية الأساليب
الأمثلة الفنية البيزنطية التي تستعيد هذا التأليف لا تُحصى. ونجد في نتاج السريان الذين انفصلوا عن إمبراطورية الروم مدنيا وكنسيا منذ منتصف القرن الخامس أعمالا بيزنطية الطابع، كما في منمنمات مخطوط أُنجز في منطقة طور عبدين عام 1226 وهو اليوم محفوظ في دير مار غبريال في مدياة. تحتل صورة الميلاد ظهر الورقة السادسة والعشرين وتبدو بتأليفها وأسلوبها “نسخة” بديعة عن الأعمال البيزنطية المعاصرة، حيث تنحصر اللمسة السريانية في عنصر “خارجي” يتمثّل في الكتابات السريانية التي تسمّي عناصر التأليف الرئيسية. وفي إنجيل محفوظ في مكتبة الفاتيكان يحمل تاريخ 1220 ومصدره دير مار متى قرب الموصل، نجد على ظهر الورقة السادسة عشرة منمنمة تستعيد بأسلوب مغاير تماما التأليف التقليدي الثابت. وفي مخطوط مشابه مجهول المصدر أُنجز بين عام 1216 وعام 1220 وهو اليوم محفوظ في المكتبة البريطانية، نرى على ظهر الورقة الحادية والعشرين منمنمة للميلاد مطابقة لتلك التي تزين مخطوط الفاتيكان.
في القرن التاسع عشر، احتار أول من حاول دراسة هذين المخطوطين في تحديد “هوية” أسلوبهما الفني الذي بدا غريبا عما هو سائد في العالم المسيحي بشقيه “اليوناني” و”اللاتيني”. أما البحاثة الذين تبعوهم في القرن العشرين، فلم ليجدوا أي صعوبة في تحديد هذه الهوية الفنية. في صورتَي الميلاد كما في سائر المنمنمات التي يحفل بهما المخطوطان، تظهر خصائص مدرسة بلاد الرافدين بوضوح تام في المعالجة التشكيلية للموضوعات المسيحية المتوارثة، مما يسمح لنا بالحديث عن فن مسيحي عباسي يرافق ويؤاخي في نموه وازدهاره فن الكتاب العربي الذي لم يشمل في تلك الحقبة على ما يبدو المؤلفات الدينية، فكل ما وصلنا من ذاك النتاج يتعلّق بالكتب الأدبية المدنية والأبحاث الطبية والعلمية. ولا تنحصر هذه الظاهرة في العالم السرياني، ذلك أننا نجد في مصر القبطية نتاجا واسعا يشهد لهذه الشراكة الفنية الكاملة. هكذا يحضر الميلاد منقوشا بالحلّة الفاطمية على لوح خشبي يزين حاجب هيكل كنيسة أبو سرجة في مصر القديمة. تتكرر الصورة في أسلوب بديع فتتجدد وتتألق. تبدو العذراء مستلقية أمام المزود الذي أضحى مذبحا يستقبل خبز الحياة الأبدية. يجلس يوسف مفكرا في السر الذي لا يدركه عقل. يسير الرعيان والمجوس في خطين متوازيين متوجهين نحو ملك السلام. خلف الثور والحمار، يظهر ملاكان يحوطان النجم اللامع الثابت وسط أعلى اللوح.
يسوع المسيح الكلمة، تقول القسمة القبطية في عيد الميلاد، “أتى وحل في الحشى البتولي غير الدنس. ولدته مريم وهي عذراء وبتوليتها مختومة. إذ الملائكة تسبحه وعساكر السماوات ترتل له صارخين: قدوس، قدوس، قدوس”.
محمود الزيباوي