رؤية المسيحية في العطاء والاحسان
كل مسيحي مؤمن يجب ان يكون كريما معطاءا وهذا جزء من التغيير الذي يحدث في شخصياتنا عندما نصير خليقة جديدة في المسيح . فاننا عندما نصبح خليقة جديدة في المسيح نصير مثل ابينا السماوي الذي هو اكرم الجميع .
ان اول سبب من اجله يجب ان نكون كرماء معطائين . هو ان نظهر لله شكرنا وعرفاننا وحبنا له . فالطريقة الوحيدة لان نقدم عطاينا وتصدقاتنا المادية له هي ان نعطي الاخرين فالعطاء والكرم هو نوع من العبادة .
اذ يمتلئ الكتاب المقدس وخاصة الانجيل المقدس بوصايا المسيح والتي يحث فيه على مساعدة المحتاجين والمساكين والفقراء والعطف عليهم والسخاء والكرم في اعطاء الصدقات والتحرر من حب المال والحث على تنمية الصدقة وعدم اعطائها في العلن حتى لا تكون رياء .
لقد ورد لفظ الصدقة والصدقات في انجيلي متى ولوقا ، وياتي اللفظ اليوناني للصدقة بمعنى " أجر" كثيرا في انجيل متى مرادفا لمعنى الصدقة. كما تدل الكلمة ايضا على الامانة الشخصية في الممارسات الدينية اليهودية المتعلقة بالصلاة والزكاة ( الصدقة) والصوم اذ اوصى المسيح تلاميذه بالعمل بها او بالدعوة لها .
ايضا تأتي كلمة الصدقة بمعنى المكأفاة كما جاء في انجيل لوقا ( 2: 33- 34) وايضا يميل انجيل لوقا الى نزعة تصدقية متشددة في مكان اخر من انجيليه اذ يقول : " بيعوا ما تملكون وتصدقوا ، اتخذوا لانفسكم اكياسا لا تبلى ، وكنزا في السماوات لا ينفد ، حيث لا يقرب سارق ، ولا يبلى سوس ، لانه حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبك ايضا . وقال متى :" اذا اردت ان تكون كاملا ، فاذهب وبع مالك . واعط الفقراء لك كنزا في السماء (متى19-21) وايضا يعطي مرقس امثال توضحية لمعنى الصدقة اذ يروي مثال الرجل الغني الذي يتصرف بالمال ، والمرأة التي تتصدق بفلسين ، فيوضح بان تلك المرأة قد تصدقت بما تملكه حقا ، في حين ان الغني تصدق بفضله رزقه وبقي رأس ماله محفوظا. ( مرقس 12: 41- 44) .
لذلك يحصر الكتاب المقدس مفهوم الصدقة بصفات محدودة منها :
– الانفاق على المساكين ، فمن اعطاهم شيئا خيره دائم الى الابد.
– اعضاء الصدقة بنيَة صادقة لله وللفقراء .
– يفضل اعطاؤها سرا وليس امام الناس .
اما عند بولس الرسول فيظهر ان الانفاق على الصدقات والعطاءات بكثرة هو اكتناز للحياة الابدية. اذ يقول في رسالته الى تيموثاوس :"… وان يكونوا اغنياء في اعمال الصالحة وان يكون اسخياء في العطاء والتوزيع مدخرين لانفسهم اساسا حسنا للمستقبل لكي يمسكوا بالحياة الابدية ( تيموثاوس 6: 9 – 18) .
ايضا يوصي بولس الرسول ان يكون محور العطاء الامتثال بالمسيح الذي وهبنا نفسه (2 كورنثوس 5: 18 و 8: 9 و9: 15 ) .
سر العطاء هو ان يهب المرء نفسه لله اولا ( 2كورنثوس 8: 5) . وما العطاء المادي سوى تعبير عن بذل النفس هذا المستمر . امكانية العطاء المادي من ثمار عمل الروح فينا ( 2كورنثوس 8: 1 و 9 : 14 ) . العطاء في شركة الكنيسة اذن فعل ايجابي ، تعبير عن عمل الله في ما بيننا ( 2كورنثوس 9:5 و7 ) . لذا فالرسول بولس يلح في اظهار المحبة التي تجمعن اساسا لكل عطاء مادي ( 2كرنثوس 8: 4* . والعطاء بفرح ( 2كورنثوس 8: 2) و9 : 7 ) وبسخاء ( 2كورنثوس 8: 2- 3 ) و9 : 6 و11) وضمن المتيسر للانسان اي حسب طاقته ( 2كورنثوس 8: 11 – 12 ) . فالمعطي لا يتصدق باستعلاء على المعطى اليه ولكنه يعطي على صورة عطاء الآب للابن والابن للاب , كل ما هو لي فهو لك وكل ما هولك فهو لي ( 2كورنثوس8: 14) . العطاء من ثمار المحبة التي تجمعنا (2كورنثوس 8:8 ) وهو متأهل في يقين ان الله سيهبنا نعمة العطاء وبركته ( 2كورنثوس9: 8) . لا اكراه في العطاء بل نحن نعطي في حرية الابناء التي دعينا اليها (2كورنثوس 8: 10 -11 ). صحيح ان المعطي ينتقد احينا ولكنه عطاءه يحرَض الاخرين على البذل . والعطاء المادي في الكنسية ينظم باتفاق الكل حتى لا تنشأ وشوشات وشكوك في الجماعة نتيجة الى عدم الوضوح في امر مسؤولية لتصرف بالمال . والعطاء اذا ارتكز على هذه المقومات يثبت حياة شركة الصلاة ( 2كورنثوس 9: 12- 14 ) ويبني الاخوة. ومع ان بولس الرسول يتحدث هنا عن العطاء المادي لكنيسة اورشليم ، ولكن الذي يبينه لنا هو ان الامر لا يقتصر على ارسال فضلاتنا من اجل سد اعواز الاخرين . العطاء بالدرجة الاولى تعبير عن المحبة التي تجمعنا ابناء عائلة واحدة في المسيح يسوع ( 2كورنثوس 8: 1- 15 ) .
وهناك موقف مميز عند القديس يوحنا الذهبي الفم اذ يناشد ويطلب بالحاح من ابناء رعيته ان يسارعوا في الاحسان وتقديم الصدقات وان يكونوا كرماء في سبيل الفقراء والمساكين ، اذ يقول :" … الكلام في الاحسان مفيد في كل وقت ونحن كلنا بحاجة الى رحمة الله خالقنا لا سيما في هذه الايام التي زاد فيها البرد . في زمن الصيف يجد الفقراء تعزية الطبيعة ودفأها . العراة يكتفون ، بدلا عن اللباس، باشعة الشمس. يستطيعون النوم ملتحفين الارض. يشربون الماء من النبع ويقتانون العشب والثمار ….اما في الشتاء فهم محاربون من كل جهة : الجوع يتأكل احشاءهم من الداخل والبرد يميت اجسادهم من الخرج يحتاجون الى مزيد من الطعام ، من اللباس ، من سقف ولحف واحذي واشياء اخرى. لا يجدون عملا يعملونه في الوقت الصعب . لذا علينا في مثل هذه الحالة ان نمد يد العون والاحسان اليهم . لنذكر ما فعله بولس الرسول من اجلهم .
يذكر الرسول بولس الفقراء في كل رسالة كتبها مع ضرورة الاحسان اليهم . تكلم مثلا عن القيامة ثم انتقل الى موضوع اعانة فقراء اورشليم قال :" واما من جهة الجمع الى القديسين فكما اوصيت كنائس غلاطية هكذا افعلوا انتم ايضا . في كل اول اسبوع ( اي نهار الاحد ) ليضع كل واحد منكم ما عنده .. ومتى حضرت فالذين تستحسنوهم ارسلهم برسائل ليحملوا احسانكم الى اورشليم " ( 1كورنثوس 16: 1-3 ) .
لاحظ كيف استغل الرسول المناسبة ليفتح لهم مثل هذا الموضوع . بعد ان ذكرهم بالدينونة المستقبلة وبالحياة الابدية يدخلهم الى هذا الموضوع بحيث ان السامع الذي حمل بمثل هذه الرجاءات المستقبلة واصبح كله عطية للاخر ، يتقبل نصحية الرسول مدفوعا من بخوف الدينونة واكتساب الرجاءات الصالحة . كل من يؤخذ بالقيامة وحياة الآخرة ، لايعود يعتبرالغنى شيئا ذا قيمة ولا الذهب ولا الفضة ، لا اللباس ولا الرفاهية . حينئذ يفكر اكثر بالفقراء وباعانتهم . تكلم الرسول لا عن الفقراء بل عن " القديسين" ليحث القراء على الاعجاب بالفقراء عندما يكونون مؤمنين والتحفظ من الاغنياء عندما يزدرون الفضيلة . لقد دعا مثلا نيرون " سر الاثم " بقوله " " لان سر الاثم الان يعمل فقط " ( 2 تسالونيكي 2- 7 ) . في حين يدعو الفقراء المؤمنين " القديسين " .
من الطرق الاساسية للعطاء المادي هو العشور ، اي اعطاء عشر دخلنا ومن خلال المثال المعاش والوصية المباشرة ، كان اعطاء العشور امرا طبيعيا لكل من يعبد الله في العهد القديم . اذ تؤخذ لعشور من الاوال النقدية وغير النقدية، فتؤخذ العشور من بكر الغلات الزراعية ومن نتاج الحيوانات وتعطى لمستحقيها من الفقراء والمساكين . حتى ان العشور كانت قبل الشريعة ( تكوين 14- 20) والمسيح اوضح صراحة ان العشور يجب ان تراعي دون اهمال ( متى : 23- 23 ) .هكذا تعد العشور مصدرا اقتصاديا لمسعدة الفقراء والمساكين والمحتاجين.
ولكن العشور ما هي إلا تذكير لنا أن الله يملك كل شيء – مائة بالمائة من كل مصادر الثروة في العالم. والرب يقول إن الفضة والذهب له (حجي 8:2) وإن الأرض وملؤها ملكاً له (مز 1:24) فنحن بحسب كلمته لا نملك شيئاً وكل شيء نقتنيه هو مجرد سلفة منه ونحن مسؤولون أن نتصرّف فيها بحكمة لخدمة مقاصده وأهدافه. وهذا هو السبب في أن العطاء في العهد الجديد يتجاوز العشور، لان الصدقة اصبحت تندرج ضمن مفهوم المحبة لله وبمقدار ما نحب الله بمقدار ما نعطي . لذا السخاء في العطاء لا يظهر في الصورة إلاّ إذا تجاوزنا الحد الأدنى الذي قاله العهد القديم وهو العشور.
إن كلمة الله تقول إن وضعنا المالي بالكامل يصير ملعوناً إذا لم نعط العشور (ملاخي 9:3). ربما لا تعرف كيف يمكن أن تعيش وتدفع كل ديونك الحالية بتسعين في المائة فقط من دخلك الضئيل.
إن الله نفسه هو الذي وعد أن يباركنا إن نحن أعطينا العشور: "… وجربوني بهذا قال رب الجنود إن كنت لا أفتح لكم كوى السموات وأفيض عليكم بركة حتى لا توسع" (ملاخي 10:3). إن المبدأ الكتابي البسيط. إنك كلك وما تملك لله. وكما قال المسيح، يجب أن تسأل الآب أن يرشدك في كل شيء فقط قل: "ها أنا يارب وها هو كل ما أملك ماذا تريدني أن أفعل؟". وعندما ترى احتياج اسأل الرب إن كنت تعطي لهذا الاحتياج وكم؟ أطع الرب. إن عطاء العهد الجديد مبني على التسليم الكامل لله وطاعته في أي شيء يقوله، ثم الثقة به أن يفعل ما لا تقدر أنت عليه.
من المعروف أن العشور تمثل 10% مما يمتلك الإنسان. و لكن من كتاب هاتوا العشور و جربوني أوضح الكاتب أنه يجب أن تكون العشور أكثر من العشر لأنه يجب على المسيحيين أن يدفعوا أكثر مما كان يدفع الكتبة و الفريسيين حيث أنهم كانوا يعشرون كل شيء بدقة. و يستشهد الكاتب بنص الإنجيل: "إن لم يزد بركم عن الكتبة و الفريسيين" كما يضيف، (فإذا كان هؤلاء قد عشروا أدق الأشياء مثل الشبت و الكمون و النعنع، فإننا في عهد النعمة نعطي أكثر من العشور … لهذا لا يجب أن نخدر ضمائرنا بدفع العشور فقط، و نشعر أننا قد أزحنا المسؤولية عنا تماما."
لذلك العشور فريضة على الجميع و ليست مقصورة على الأغنياء فقط. فكل فرد مسيحي عليه أن يقدم العشور سواء كان غنيا أو فقيرا.