رؤية اباء الكنسيةالشرقيين في الفقر والفقراء
منذ وُجدَ الإنسان على الأرض وُجدَ اختلاف في الحياة، ووُجدت الطبقية والقسمة. والإنسان مهما عمل لن يزيل الانقسام بل فقط يخفّف من حدته. والإنسان في هذه الأيام أصبح لا يرضى بحالته، ولا يطيق حالة غيره. فالدول تحسد بعضها البعض وكذلك المؤسسات والأشخاص. يصعب وجود شخص راضٍ بحالته وبحدوده وبقسمة الحياة له. فالغني يريد الاستزادة في الغنى، فيعمل على السرقة، والرشوة والاستغلال. والفقير يريد أن يتخلّص من الفقر فيثور، ويتذمر ويهدد. القناعة هي الغنى والحدّ الفاصل في الخصام والتعدّي، وهي الحلّ لكل مشكلة.
لذلك الغنى والفقر موضوعان شقاء البشرية وموجودان في فكر المفكرين طوال حياة الانسان . لذلك هذا الامر هو موضوع اجتماعي حاد وسبب صراعات طويلة . فكل دين وكل فكر لا يمنكه ان يتجنبه او محاولة ايجاد حلول له لذلك الحرب بين الاغتياء والفقراء تجري وتشتعل في كل العصور بطرق مختلفة وبالتالي شغل ايضا الفكر المسيحي وكان له مكانةخاصة عند القديس يوحنا الذهبي الفم والقديس باسيليوس الكبير والقديس غريغوريوس النيصصي.
لذا الموضوع الغنى والفقر لا يبحث عند القديس يوحنا الذهبي الفم كموضوع اجتماعي دائما كمشكلة انثروبولوجية بمعنى ان مشكلة الفقر والغنى هي مشكلة تخص الانسان قبل ان تخص المجتمع وتتعلق في العمق في هدف الانسان ورجائه قبل ان تتعلق بحالته الراهنة . اذا لها بعد استخالوجي قبل ان تكون ذات ابعاد سياسية اجتماعية.
لذلك تكلم القديس الذهبي الفم كثيرا عن الفقر والغنى ، موضوعات برزت امامه في مدينة صاخبة ذات بذخ . وقد عالج هذه الموضوعات وغيرها من الموضوعات الاجتماعية من جهة علاقتها بقواعد السلوك المسيحي . لقد رأى في كل مكان ظلما وقوة ومعاناة وبؤسا وفهم سبب كل ذلك ألا وهو : روح الطمع وعدم المساواة , فحذَر ضد الغنى باعتباره سببا للاغراء من حيث ان المال قادر بان يفسد الانسان الذي يتملكه والغنى يحرك الشهوة لاقتناء المزيد .
ومن هذه الزواية لا يوافق الذهبي الفم على الزينة المتزايدة في الكنائس . لكن الذهبي الفم لم يكن يعتبر ان الفقر في حد ذاته فضيلة . فالفقر حمل ثقيل اذا كان سببا للحسد والحقد واليأس . لذلك كان يحارب ضد الفقر ، ليس كمصلح اجتماعي بل كراع . ان مبدأه هو المساواة لان عدم المساواة يجعل من المستحيل وجود المحبة الحقيقية .
فاساس الفكر الذهبي الفم يكمن في عدم وجود ما يسمى بالملكية الشخصية ،لذلك لا يطالب ان نتقاسم ( مالك) ولكن ان نلغي هذه اللفظة البليدة لان حب الملكية هذا ولو بالتساوي احيانا هو الذي يولد المشاكل وليس الفوارق الاجتماعية .
لان كل شيء يمتلكه الله وله كل شيء . وكل شيء موهوب منه كعطية او عارَية ( اي في شكل استعارة ) . فالكل من الله وما يهبه الله فهو من اجل الملكية المشاعة ( فان كانت الاشياء الصالحة التي تتمتع بها هي ملك السيد الرب ، اذن فهي ملك رفقائنا العبيد بالمساواة. فما يمتلكه السيد هو ملك لكل واحد على (المشاع) . ان كل مقتنيات الامبراطور والمدينة والميادين والطرقات ملك مشاع لكل البشر وكلنا نستعملها على قدم المساواة.
وهكذا الذهبي الفم هو انسان ايجابي ومتقبل للغنى والخيرات الارضية وموقفه تجاهها موقف ليس فقط معتدل دائما ايجابي ،لان كل هذه الخيرات هي هبة من الله . لذلك الذهبي الفم لا يقاوم الغنى ولكنه يراه عاملا واداة يمكن استخدامها بشكل جيد لهذا فحلوله لا تعطي فقط حلا روحيا او اخلاقيا وانما ايضا ( اكوتوميا اقتصاديا) ( شركة اقتصادية) . لذا يرى الذهبي الفم علاج امراض المجتمع من هذه الناحية في الوضع الذي وصفه سفر اعمال الرسل ( لقد جحدوا ممتلكاتهم الخاصة وفرحوا بذلك لانهم عن هذا الطريق نالوا بركات اعظم … وتعبير هذا لي . وهذا لك " الذي سبب حروبا كثيرة في العالم لم يعد له موضع في الكنيسة . فان الناس على الارض عاشوا (كملائكة الله في السماء ) .
لو كان الانسان غني الدنيا عليه ان يعيش كجائع كما كان بولس الذي عرف ان يعيش فقيرا لما كان محتاجا ولما كان في بحبوحة فلم تضره لا العوز ولا الراحة . كذلك هكذا عاش داود داخل قصوره كجائع وكفقير ايضا ايوب البار الانسان الحكيم المدبر الامين عاش في بحبوحة كمحتاج .
ويريد الذهبي الفم ان يحقق في العلم النموذج الذي عاشت به المجتمعات الرهبانية وكان يتمثل في ذهنه الجماعة الرهبانية الصغيرة في انطاكية او القسطنطينية. وفي عظاته كان يحاول ان يشرح كيف ان الجحد الارادي للملكية وتزيعها بالتساوي يمكن ان يسد احتياجات المجتمع . وهذه هي الطريقة التي كانت تنظم بها ممتلكات الكنيسة في ذلك العصر. فقد كانت تعتبر ملكية على المشاع وكانت توزع بواسطة الاسقف . فجزء منها كان يخصص لصيانة الكنائس ولسد احتياجات الكهنة ، ومعظمها كان معتبرا انه ( ملك للفقراء).
لذلك في نظره الغني عليه ان يكون ايضا بسيطا قليل الحاجات وان يعيش في ممتلكاته الكثيرة كفقير لايملك كل ما ما يملكه الغني ذيادة عن الفقير هو فقط ان يدير لمهمة المؤتمن عليها ان يعرف ان يتصرف بالخيرات اي انه لا يزيد عن الفقير بان يملك شيء ما لذاته وان باماكنه ان يستخدم كل هذه الخيرات لراحة الشخصية . اذ ان الغنى لا يفيد الا في شيء واحد وهو ان يصرف على الاخرين هذا هو التدبير الحكيم وحكمة العبد الصالح ،بان استخدام المال بهذا الشكل هو استجابة الى محبة الله للبشر.
وكان ذهبي الفم يؤكد ان مثل هذه ( الاشتراكية ) في الممتلكات يمكن ان تكون ذات تأثير حقيقي، فقط اذا كانت ارادية واذا كانت تعبيرا عن جحد حقيقي للذات وعن المحبة الحقيقية. وكل هذا يفترض مسبقا درجة عالية من الكمال والتقدم الروحي . انه التعبير المثالي والمطلق للمحبة المسيحية . الا ان الذهبي الفم كان قانعا بما يطلبه من صدقات كريمة واعمال المحبة. ان مفهومه عن المحبة متسع جدا يمتد من المساهمة المادية الى التعزية والمعاونة الروحية ( ألا يعتبر ايضا عملا من اعمال المحبة للنفس حينما يسعى انسان الى ان يحرر انسانا من ضيقاته بعد ان كان مسحوقا من الحزن ، ومهددا بخطر جسيم ومستعبدا تحت نيران الشهوة ) . لذلك بالنسبة للذهبي الفم الحل للمشاكل الاجتماعية لا يقوم على الثورات انما بتطبيق الكلمة الانجيلية ( مجانا اخذتم مجانا اعطوا) اي النسك ولللاملكية . اذا الحل برأي الذهبي هو ذوو اسس اسخاتيلوجية يعتمد على المحبة والنسك وهكذا يفترق عن الحلول التي ظهرت في الحركات السياسية والمعتمدة على اسس اقتصادية. وايضا براي الذهبي الفم المجتمع يجب ان يكون كعائلة مثل اولاد متساويين في عائلة واحدة ، الجميع حيث الجميع ياكلون ويشربون وينعمون ليس مما لهم وليس مما للاخرين ولكن مما للجميع للابيهم الواحد.
هنا الذهبي الفم لا يكرز بالاشتراكية ولكن يكرز بالاقنية لا يكرز بمجتمع لا طبقية فيه ولا تعدي وانما بما هو اكثر بمجتمع اسخاتولوجي مرتبطة ليس بالانظمة وانما بالمحبة. ومن هذا المنطلق يؤكد القديس يوحنا الذهبي لفم على المحبة بتعبيرها العضوي اي الاحساس بالانتماء الى الجماعة والمسؤولية المشتركة للاعضاء . لذلك فهو يعتبر اعمال المحبة امرا لا يمكن الاستغناء عنه وهو اساسي في الحياة المسيحية . ( فالمحبة هي هدف ومعنى المسيحية) .
اذا ان الغنى والفقر بفضل النظرة الاسخاتولوجية للقديس يوحنا الذهبي الفم لا يصنفان لا في الصالحات ولا في السيئات واما في مصاف الامور الحيادية وذلك لان الاسلوب استخدامها انما هو الذي يحدد نتائجها الصالحة او السئية لانه في النظرة الاسخاتولوجية هو الوصول الى الفضيلة والفلسفة بمعنى الحياة الروحية المسيحية .اذا عندها الغنى يرتب ويصنف في الامور الحيادية لان الخير الناتج عنه او الشر ليسا من طبيعته لكن كما يقول : من الذين يستخدمونه يصير خيرا او شرا . الغنى يفيد فقط عندما يتواجد مع حياة الفضيلة .
لهذا يشدد ويكرر الذهبي الفم ان الغنى والمال والصالحات الارضية ليست شرا لانه على العكس يمكنها ان تساعد كثيرا في الخير كما في حالات ابراهيم وايوب الذي استخدموها كاسلحة للفضيلة . لذلك المال في المحبة هو مفيد جدا ويقود الى الخير . اما الجشع فهو حالة انانية واستخدام سيء للطاقات والمواهب والهبات .
هكذا النظرة العميقة الاسخاتولوجية لهدف الغنى والفقر ترتبط مع هذا التمييز الواضح بين الجشع وبين الغنى . وهذا التمييز بفضل هذه النظرة الاسخاتولوجية يعطي للغنى دوره الحقيقي ويوجهه الى مسعاه الصحيح وهدفه الحقيقي , ويضعه في مكانه المناسب حيث يغدو الغنى مفيدا وهكذا نلاحظ دائما التمييز بين الغنى الحقيقي الابدي وبين الغنى الظاهري العالمي المشكوك به .
اما القديس باسيليوس أتى وصرخة بصرخة عالية ضد كل ما هو فاصل بين الغني والفقير. فهو أظهر للغني ما هي حالته، وأظهر للفقير ما هو وضعه إن كان في هذه الحياة أم في الحياة الآخرة. فهو عاش الفقر، الفقر المادي ليغتني روحياً، خلال حياته الرهبانية ليوضح لكل إنسان يسعى للوصول إلى الحياة الثانية والجلوس في أحضان إبراهيم، كما كانت حال لعازر الفقير الوارد في إنجيل لوقا (19:16-31).
في احدى عظاته ( أدبيات – 76) يقول : " " لا تخف ولا تيأس، فأنت يا من يعيش وضيعاً مرذولاً. أنت فقير ابن فقراء دون بيت ولا عائلة، أنت ضعيف وتفتقر إلى خبزك اليومي.ترتجف أمام الأقوياء وتخاف الجميع بسبب ذُلِّكَ وتواضع حياتك. . انهض وارفع نظرك إلى الله واشكره على نِعَمِهِ لك. وتأمل بالخيرات التي أعدها الله لمحبيه. ألست ابناً لله؟ إذاً فهذا يكفيك. . وبما أنك على صورته يمكنك أن تبلغ كرامة الملائكة. . أليست كل الحيوانات على هذه الأرض، الأليفة والبرية، وكل ما يحوي البحر وما يطير في الهواء تخضع لك؟.. تأمل وأدرك أنَّ هذه إنعامات خصَّ الله بها الطبيعة الإنسانية. أضف إلى ذلك ما هو أسمى بكثير، الله ذاته بيننا، والروح القدس يوزّع مواهبه على كل أحد. فالموت أبيد، وانتعش أمل القيامة وفُتِحَت لك أبواب السماء، فأصبح بإمكانك بلوغ المراتب الإلهية ودخول الملكوت. ها الأكاليل والجوائز السماوية معدَّة لمن يكتنز الفضيلة ويعمل بوصايا الله. "
من خلال هذه العظة للقديس باسيليوس، نرى أن القديس باسيليوس يركز على نقطة أساسية وهي أن الإنسان هو ملك، ملك على كل المخلوقات الأرضية، وهو ليس بفقير، أي أنه لا يملك أي شيء. فهو، كما خلقه الله على صورته ومثاله، يملك ما لا يستطيع أن يملكه أي غني بأمواله. فالأموال التي هي بيد الأغنياء لا تساوي أي شيء، مهما كثرت ومها بلغ حدها من الاتساع. الإنسان الغني يخدمه خدّامه الذين هم معدودون، أما الإنسان، بشكل عام، وُضِعَت كل المخلوقات بخدمته " . . الأليفة والبرية، وكل ما يحوي البحر وما يطير في الهواء . . ". وأيضاً يظهر القديس باسيليوس في هذا المقتطف شيء هام في حياة الإنسانية جمعاء وهو أن الله ذاته بيننا والروح القدس يوزّع المواهب، وبالتالي لا معنى للفقر ولا يساوي أي شيء. فالخوف من الفقر واليأس من هذه الحالة لا مكان له الآن بين البشرية لأن الله اختارها واحبها وميّزها عن كل المخلوقات، وساوى فيما بينها، وجعلها ابناً واحداً له، لا فرق بين كبير وصغير، ولا بين غني وفقير، فاتحاً لها أبواب الملكوت.
وإذا تأملنا في بعض العظات التي ألقاها القديس باسيليوس:
}" لا تخف أيها الفقير ولا تتباك أمام الأغنياء. اعتمد على نفسك واستثمر الوزنات التي وهبك الله إياها لكي تعيش. بِعْ كلَّ شيء عندك: الأواني، ثيابك، حصانك وأثاث بيتك، واشتر حريتك وكرامتك. لا تقرع أبواب الأغنياء الآخرين، * فبئر جارك هي فارغة دوماً * (أمثال23/27) الأفضل أن تعيش فقير من أن تستغني فجأة بسبب إحسان غيرك. . ".
" إنَّ الفقر ليس عيباً. فلماذا تذهب لتستدين من الغير. إنك لا تداوي الجرح بجرح آخر؛ فالدَين ليس دواء الفقر. لك يدان، عندك مهنة، فاستفد منها لمعاش قليل. . ".
" علاوة على ذلك إنّ الفقر يعفيك من الهموم وعذابها. فأنت لا تقلق طول الليل بسبب همّ المال، فأنت بالعكس تنام ملء جفونك. . ".}
من خلال هذه المقاطع نرى أن القديس باسيليوس يوجه المؤمنين إلى عدم القنية والزهد في الحياة. فالفقر ليس بعيب ، فليس عليك أيها الفقير أن تبكي حالك أمام الأغنياء، فكل إنسان عنده وزنات في حياته أعطاه إياها الرب، فعليه أن يحسن استخدامها. فالقديس يعطي أكبر مثال في حياته فهو باع كل ما يملك ووزعه على الفقراء، وجعل حياته أكبر مثال في التواضع وعدم الملكية.
القديس غريغوريوس النزينزي يعطي صورة عن فقر القديس باسيليوس فيقول " من ذا يمدح تجرُّده وحياته الخالية من المقتنى ومن فضلات المعيشة.لعمري ماذا كان يمتلك ما خلا جسده والأغطية الضرورية لستر جسمه. غناه كان الاستغناء عن كل شيء والصليب وحده الذي رافقه وكان يحتسبه أثمن لديه من الأموال الوافرة. ليس بوسع إنسان، ولو شاء أن يجوز كل شيء ولكن بوسعه أن يتعلم ازدراء كل الخيرات فيظهر أعلى منها. ولمّا كان باسيليوس يعتقد ذلك ويجري عليه لم يكن إلى أن يصعد على قاعدة من المجد الفارغ ولا أن ينادي على رؤوس الأشهاد: . . إنّ أقراطيس هو الذي حرَّر أقراطيس الثيبي . . ([1])، إذ كان همه في أن يكون حقيقة لا أن يظهر فاضلاً. ولم يأو إلى برميل في منتصف الساحة حتى يتنعّم بولائم الجميع متخذاً الفقر تجارة جديدة ([2]). كان فقيراً معوزاً وهو لا يرغب في الكرامة. ولما فضَّل طرح كل الأشياء التي في حوزته جاز بخفّة بحر هذه الحياة".
لذلك نرى القديس باسيليوس الكبير أنه كان في حالة ثورة على ما هو ضد الفقر. فهو يوجه أنظار الفقراء إلى شيء مهم، وهو أنهم هم الذين يملكون العالم وليس الأغنياء، وهم الذين يسيطرون عليه بتواضعهم وطول آناتهم ورفقهم وحلمهم فكان هو أكبر مثال على هذه الثورة الهادفة إلى الوصول إلى حياة ليس لها وجود على هذه الأرض بل في الملكوت المعدّ للمختارين " ثم يقول الملك للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعدَّ لكم منذ تأسيس العالم " ( متى34:25).
ومن خلال ما قدمه لنا القديس باسيليوس عن مستوى الحياة التي يعيشها الفقير وما هو واجب عليه نراه يتوجه في أحاديثه و وعظاته إلى جانب مقارنة مباشرة بين ما هو الفقير ما هو الغني ويضعهما في مكان الوكيل على أعطاهم الله من هبات. فالإنسان هو وكيل الله على الملك. ومساعدة المحتاجين ليست متروكة للحرية ولكنها فرض كإعالة الأهل بالضبط. فحيازة ما هو أكثر من الضروري سرقة لأن للفقير حقاً عليه. " إنّك عبد الله القدوس، مدبر رفقائك العبيد ". عندما يشرح مثل الغني الذي فاضت غلته (لوقا 12: 16-21 ) وقال: ماذا أفعل، كان جواب باسيليوس، أن لسان حاله يجب أن يكون: " يا جميع الذين ينقصكم الخبز تعالوا إليَّ. النِعَم التي أغدَقَها الله عليَّ هي لكل الناس. تعالوا، انهلوا منها كمن سبيل عام " ([3]).
لذا القديس باسيليوس وجه دعوته إلى كل الناس ولم يخص أي واحد، لا فقير ولا غني ، ولكن في توجهه هذا كان يدعو إلى اتجاه واحد وهو الزهد وعدم القنية والاقتناع بما أنا أملك وعم النظر إلى ثروات الغير والطمع بها حتى لا تقود هذه الأفكار إلى أفعال شريرة كالسرقة والقتل ونهب ما هو ملك للغير.
اما القديس غريغوريوس النيصصي شقيق القديس باسيليوس الكبير عبَر عن الفقر والفقراء من خلال كتابه القيم " الطوباويات التسع " (ترجمة الدكتور نبيل داود ) واذ اعطى للفقر معنى روحي رفيع وهو الذي يعيد الانسان الى الفردوس والى حالة الانسان الاولى قبل السقوط .
اذ جاء في كتابه :" السيد المسيح بدأ كلامه" طوبى لفقراء الروح لهم ملكوت السماوات " ماذا يمكننا ان نستخلص من السخاء الالهي، ان لم نعرف معنى هذه الكلمات ؟ داخل الصيدلية كثير من الاودية الثمينة والنادرة، تكون بلا فائدة وغير فعالة للجهلاء ، لحين يعلمنا العالم كيفية استعمالها . ماذا يعني فقر الروح الذي يجعلنا نمتلك ملكوت السمات ؟ تعرف الكتابات نوعين من الغنى : واحد منه ممدوح ، والثاني مكروه . الغنى بالفضيلة ممدوح ، اما الغنى المادي والارضي فهو مرذول ، احدهما اقتناء للروح والاخر تجرية سهلة لحواسنا.
لهذا السبب يمنعنا السيد من اقتناء وتخزين الخيرات الارضية لانها معرضة للفساد ونهب السارقين ( متى 6- 9) . فهو يطلب من البحث عن الغنى الذي لا يتفكك ولا يفسد ، عث وسرقون هم اعداء النفس . اذا قارنَا الفقر مع الغنى، نجد نوعين منه : واحد منبوذ ولاخر مغبوط . فمن هو فقير بالاعتدال ينقصه خير العدل ، الحكمة ، الذكاء، او خيرات خرى . انه يشبه المتسول : فهو تعيس . بسبب فقره ، يشفق عليه لان الخيرات الاكثر ثمنا تنقصه .
الفقير المتحرر من كل ما يؤلف الشر ، هو الذي لا يخفي ايا من شرور الشياطين في سر كنزه ، لان روحه تشتعل حرارة وينمو فيه فقر يحوي كل ما هو خال من الشر ، هذا ما يسميه كلمة الله مغبوطا لفقره ويرث ملكوت السماوات ( ليس الفقر او الغنى هما المعيار للمسكنة بالروح . قد يكون الانسان فقيرا ولكن متفلسفا او ملحدا، او قد يكون الانسان غنيا ويساعد الاخرين ، فقط من اجل مدح الناس له ، فالحالة التي تنوجد فيها ليست مهمة ، لكن المهم هو النية التي تقوم بها بالاعمال ، والمعيار الوحيد للمسكنة بالروح هو محبة الاخرين التي تنفي كل شر .
يتابع القديس غريغوريوس النيصصي ويسأل من هم الفقراء الروح ، لنعد الى ارائنا ، ونبحث بعمق وجدية مما يتألف هذ1الكنز الثمين ، ونحاول الكشف عنه " طوبى لفقراء الروح " قد قيل هذا سابقا يمكننا ان نقول ثانية : هدف الحياة المسيحية ان نصبح مشابهين لله . لا يمكن ان يقارن مع الطبيعة الانسانية من يكون بدون هوى وغيرفاسد ، فكيف يمكن للحياة الخاضعة للاهواء ان تكون مشابهة للطبيعة غير الخاضعة للاهواء . (ان يسوع عندما تجسد شابهنا في كل شيء ما عدا الخطية ، واعطانا امكانية التأله فشابهناه في كل شيء ما عدا الجواهر ) اذا، ان الله وحده مغبوط كما يقول الرسول بولس ( 1 طيموثاوس1-11 و6- 15) . اذا كان اشتراك البشر في غبطته يجعلهم مشابهين له ، لكن المطابقة الكلية مستحيلة لان الغبطة هي غير محققة للطبيعة البشرية ، بل من المحتمل للانسان لان الغبطة هي غير محققة للطبيعة البشرية ، بل من المحتمل للانسان مطابقة الله بطريقة ما . كيف ؟ "فقراء الروح " بالنسبة لي يشير الى التواضع . ان كلام الرسول اعطانا مثلا عن فقر الله الذي افقر نفسه من اجلنا لكي يجعذلنا نشارك غناه بفقره ( 2كورنثوس 8-9 ) .
من جه اخرى كل ما نستطيع ان نشعر به من قبل الطبيعة الالهية يتخطى حدود طبيعتنا ، لكن التواضع هو من طبيعة الانسان قبل السقوط ، والقاسم المشترك بين الكائنات على الارض ، انهم مجبولون من الحقل ذاته الذي سيرجعون اليه. اما اذا اردت تقليد الله حسب قوة طبيعتك ، فانك تلبس ثوبا كثوب طبيعة الله المغبوطة .
لا تتصور انه من السهل اكتساب التواضع ، بالعكس هذا صعب من اكتساب اي فضيلة اخرى . لماذا لان في الساعة التي يرتاح فيها الانسان الذي زرع الحبة الجيدة يزرع عدوه الحصة الاكبر من الزرع الذي هو زؤان التكبر المتجذر فينا ( متى 13- 25) . يحاول الشيطان بكل قواه ان يمنع الانسان من اكتساب الفضيلة التواضع لانها بها وحدها ينهزم ، فهو يستطيع ان يمثل جميع الفضائل ما عداها . لذلك الجهد الذي يبذله الانسان كبيرا جدا لكي يكتسب هذه الفضيلة ، مثل الذي سقط في الخطأ زجر معه كل الجنس البشري التعيس ، هل يوجد من كارثة اعظم لطبيعتنا ، اخطر من التكبر . التكبر جعل آدم يرتكب المعصية ضد الله ، وجر الكارثة على الجنس البشري . لكن هناك فضيلة واحدة نقيض التكبر هي التواضع ، مارسها المسيح مع طاعة عمياء حتى قبول العار على الصليب ، ارجعت الجنس البشري الى الفردوس بالتوبة .
لا يغب عن بالنا شكل اخر من الفقر ،( اذهب وبع اموالك واعطها للفقراء ، فيكون لك كنز في السماء ، وتعال اتبعني) ( متى 19- 21 ) هذا الفقير يناسب الفقر الذي يقال عنه مغبوطا ، فقال بطرس : "ها قد تركنا نحن كل شيء ةتبعناك ، فماذا يكون مصيرنا ؟) (متى:19-27) ، ماذا كان الجواب ؟ كل من ترك لاجل اسمي ينال مائة ضعف ويرث الحياة الابدية )( متى: 19- 29) .
اتريد ان تعرف من هو " فقير الروح " من له روح الفقر هو الذي يطرح عنه الغنى كحمل ثقيل ، ليحلق عاليا مثلما قال الرسول ، لكي نرتفع مع الرب في السماء ( 1 تسلونيكي 4- 16) .
هناك عدة درجات للمسكنة بالروح هي :
– الفقر الارادي ، وافضل مثال على ذلك هو الرب يسوع الذي جعل نفسه فقيرا لكي يغنينا بروحه الغنية .
– افرغ الذات من كل شيء على مثال السيد، وهو الاله القدير اللامحدود الذي ارتضى لاجلنا ان يأخذ صورة العبد ، بذلك متخليا عن عظمته وجبروته ولا محدوديته .
– طرد كل ميل نحو الشيطان .
– التواضع المقدس ، من المستحيل ان نتكلم عن المسكنة بالروح ونحن لم نبلغ بعد الى مستوى التواضع المقدس . هذه الفضيلة هي للكاملين، وطلما نحن في هذا الجسد لا يمكننا ان نصل الى قمتها ، وسبب ذلك عامل التسلط الموجود في كل انسان .
– الوعي باننا لا نعرف شيئا كلما توغلنا في معرفة الالهيات ، وكلا سرنا في قعر المحيط الالهي ، انكشف لنا اغوار جديدة وتيقينا باننا لم ندرك شيئا .
– مماثلة الله في كل شي ، هذه هي غاية الحياة المسيحية . لا يمكن البلوغ الى السعادة الابدية الا بالمطابقة الكاملة مع الله .
بالاختصار من هم الفقراء بالروح ؟ هم الاطفال والشيوخ الذين جعلوا انفسهم اطفالا ، السيد يؤكد ذلك بقوله :" من لم يقبل ملكوت الله مثل الطفل لا يدخله " ( مرقس 10- 16 ) . فالاطفال هم خالون من الشر ولا يتباهون بشيء ، بل يسلمون انفسهم الى الاهل وهم بدورهم يوفرون كل حاجاتهم . باقتضاب الاطفال هم ملائكة يعيشون بيننا على الارض ، نحن نتولى عملية افسادهم عندما يكبرون .
ثقيل هو الذهب ، وثقيل كل ما يساهم في غنانا , خفيفة هي الفضيلة ترفعنا بدون توقف . الوزن والخفية لا يتواجدان سويا . مستحيل على من اثقلته المادة ان يشعر بروح خفيفة .
اذا اردنا ان نرتفع ، لنتخلص مما يشدنا الى الاسفل حتى نصل الى الساكن في الاعالي . صاحب المزامير يعلمنا كيف نتوصل الى ذلك : " ( فرق واعط المساكين ، فبرَه يدوم الى ابد الابدين وقرنه يرتفع بالمجد ) ( مزمور 111- 9) . الذي يعيش باتحاد مع الفقير ، يأخذ هو ايضا جهة الذي جعل ذاته فقيرا لاجلنا . السيد تقلد الفقر دون خوف، لانه ملك لكل الخلق ، لهذا اذا جعلت ذاتك فقيرا مع الفقراء ستحكم مع الملوك . ( طوبى لفقراء الروح لان لهم ملكوت السماوات ) . لنكن مستحقين ذلك في المسيح سيدنا ، له المجد والقوة الى دهر الداهرين آمين . "
[1] -إنَّ أقراطيس هذا كان فيلسوفا من فئة الفلاسفة بلقب " الكبيين" وقد عاش في القرن الثالث للمسيح. يحكى عنه أنه لما ترك أمواله لينقطع إلى عيشة الفلسفة صعد إلى مكان مرتفع وصرخ متباهياً أمام الناس: " إنَّ أقراطيس هو الذي حرّر أقراطيس الثيبي " يعني أنه هو الذي حّر نفسه من ربقة الأموال.
[2] -كان ديوجينيس الفيلسوف يقطن في برميل في وسط ساحة المدينة لكي يستجلب أنظار الناس فتنهال عليه الصدقات الوافرة وهكذا كان يتصيّد المال والغنى عن طريق التظاهر بالفقر.
[3] -المطران جورج خضر، الفقر والغنى في الكتاب المقدس وعند الآباء، تعرّف إلى كنيستك 6، ص 25.
1 thought on “رؤية اباء الكنسية الشرقيين في الفقر والفقراء- الثلاثية الثانية”