القدِّيسون هم التائبون
لدَينا نصوصٌ كثيرة عن التوبة. فكِتاب التِريودي الَّذي نستعمِلهُ لصلواتِنا في الصَومِ الكبير، كتابٌ كبير وكلُّهُ أَناشيدَ توبةٍ تعودُ الى الله. والمطالبسي الَّذي نتلوهُ قبلَ المناولة، صلوات كِبار آباء الكنيسة مثل باسيليوس ويوحنا فم الذهب ويوحنا الدِمشقي وسمعان الَّلاهوتي الجديد وسواهم. كلُّها كلماتُ توبةٍ. وقانون يسوع كلماتُ توبة، أَمَّا القدِّيس أَفرام فهوَ قدِّيسُ التَّوبة. لدَينا في العربيَّة كتاباً ترجَمَهُ سيِّدَنا أَفرام وكتابٌ آخر “المزامير الروحيَّة” ترجمَهُ الدكتور عدنان طرابلسي وهما كتابان رائعان. في كِتاب المعزِّي قِطَعٌ في التَوبة رائعة جداً جداً.
طابِع كنيستُنا طابعُ تَوبةٍ. الصَوم الكبير هو زمانُ التَوبة والخشوع والإِعتراف. باسيليوس الكبير قالَ: الصَوم يُطفِئُ الحروب. ففي الصَوم يَضبُط الإِنسان نفسُه عن الشرور.
قُلْتُ إِنَّ القدِّيسينَ هم التائبون. مريم المصريَّة نُموذج كبير، إِنقلَبَت من ساقطة كبيرة الى ناسكة كبيرة. صمَدت في البريَّة 47 عاماً ولا نعرف ماذا كانت تأكل وماذا كانت تشرب وماذا كانت تلبِس. ويوحنا المعمدان الذي عاش في البريَّة على الجراد والعسَل البرِّي وبِثوبٍ خَشِنٍ، ماذا كان يعمل في البريَّة؟ كان يُصلِّي ويتوب. ماذا فعَلَ النُسَّاكُ في البريَّة؟ صَلُّوا وتابوا؟ وبَّخوا أَنفسَهُم توبيخاتٍ كبيرة.
في المزامير: أنا دودةٌ أنا لستُ بإِنسانٍ، أَنا عُشبٌ وزهرُ عُشبٍ. أَيُّوب بعدَ كلِّ صبرِه، رأى الله وماذا قال؟ ” أَتوبُ في التُراب “. أَشعيا النبي، ماذا قال؟ أنا إِنسانٌ دَنِسٌ أَعيشُ بين قومٍ دَنِسٍ. وإِبراهيم قال: أَنا ترابٌ ورَماد. بطرس عندما اسْتَفاقَ بعد نكران يسوع، ماذا قال؟ أُبعُد عنِّي فأَنا إِنسانٌ خاطئ.
هؤلاء الَّذينَ حظوا بِرؤيَةٍ إِلهيَّة كان شعورُهم أَثناءَ الرؤية هوَ أَنَّهم خاطئونَ كِباراً. الَّذينَ يقتربونَ من الله، الشعور الَّذي يُخامرُهُم قبلَ كلِّ شيءٍ هو الشُّعور بأَنَّهم عَدَم وتُراب ورَماد وبأَنَّهُم خاطئونَ ومنبوذونَ لا يستحقُّونَ هذه الرُؤى الإِلهيَّة. الِّلقاءُ بالله يَتِمُّ بهذا التواضُع، بهذا الإِنسحاق. كما انسَحَقَ المسيحُ ونَزَلَ الى الأَرض وأَخفى مجدَهُ في جسَدٍ بَشَريٍّ، كذلك نحنُ نسلكُ الطَريقَ نفسَهُ. ننسحِق ونرتفِع معهُ على الصليب لنَصعَد معَهُ الى السماء، فطريقُ السماء بالنسبةِ إِلينا هو طريقُ تجسُّدِ المسيح الَّذي طأَطأَ السماوات ونَزَلَ وارتَفَعَ على الصليب. بدونِ الصليب لا نستطيع أَن نَسلُكَ الحياة الأَبديَّة. يجب أَن نُصلَب مع المسيحِ أوَّلاً. وكيفَ نُصلَب؟ إِن لم يَصلِبنا الناس صَلَبْنا أَنفُسَنا في التوبة. فالتوبةُ هي صليبُنا الَّذي نحمِلهُ.
متى نَتوب؟ لا حدوداً لتَوبَتِنا. قبلَ لحظةِ الوفاة، نحنُ تائبون. باستمرارٍ ضميرُنا الحيّ يلومُنا على خطايانا وهفَواتِنا. لا يجوز أَن نعتقد بأَنَّنا أَبرار. نحن مُلَوَّثونَ حتى لحظةِ الوفاة. لا يستطيع بولس الرسول قبل لحظةِ الوفاة أَن يقول: أَنا إِنسانٌ طاهرٌ مئة بالمئة. فإذا كان بولس عاجزاً عن ذلكَ، فماذا أَقولُ انا الإِبن الشَقي؟ إِبن الجحيم الَّذي نزَلْتُ الى الجحيم وما زِلْتُ فيها ولا رَجاءً لي إِلَّا في يسوعَ المسيح. مَن يتوهَّم أَنَّهُ هو مَن يُخلِّص نفسَهُ يكونُ تِلميذاً للشيطان الَّذي يُرَغِّبُهُ بهذه الكِبرياء الفارغة. والكِبرياء هي عدُوُّ التَوبة. الفرِّيسي تكبِّرَ وتَعَجرَفَ وافْتَخَرَ بِصَومِهِ وصَلَواتِهِ وصَدَقاتِهِ وتعشيراتِهِ فسَقَط من حيثُ إرتفع، أَمَّا العشَّار الذي قرَعَ صدرَهُ تائباً نادِماً فارتفَعَ. الإِبن الشاطر الذي تَجبَّرَ، إِرتمى على قدَمَي والدِهِ يَطلُبُ المسامحة عمَّا خَطِئ بهِ الى السماء وأَمامَ أَبيهِ ومُكتَفِياً بأَن يكونَ أَجيراً مِن أُجَراءِ أَبيهِ لأَنَّهُ لا يستحقَّ أَن يكونَ لهُ ابناً فيما بعد.
الشعور بعَدَم الإِستحقاق مهمٌّ جداً. نحنُ لا نستحقُّ إلَّا المكواة. أَي إذا كان ابراهيم ويوحنا المعمدان في الجحيم، فأَينَ أكونُ أَنا الشَّقي؟ ولكِن دم يسوع المسيح يُطهِّرُنا من كلِّ خطيئةٍ. بعد مجيءِ المسيح صارَ لنا هذا الحظُّ الكبير أَي التطَهُّر بِدَمِ ربِّنا يسوعَ المسيح. فإلى أَيِّ حدٍّ نستعمِلُهُ حَسَناً؟ الشيطان يخدَعُنا لدى كلِّ عَمَلٍ صالحٍ نَعمَلُهُ لنُعجَب بأَنفُسِنا. العُجْبُ بالناس وحشٌ ذو آلاف الرؤوس: إِن تَصَدَّقْنا إِنتَفَخنا بأَنَّنا قُمنا بعَمَلٍ عظيمٍ جداً، إن خَدَمْنا إِنساناً بَوَّقْنا أَمامَنا بالبوقِ. في كلِّ تصرُّفاتِنا الحَسَنَة يتدخَّل العُجْبَ بالذَّات. والشيطان لنا بالمرصاد إِمَّا لأَن يدفَعُنا الى الغضب أَو الى العُجْبِ بالذَّات أَو الى الضَّجَر أَو الى الشَراهَة أَو الى سِوى ذلكَ من العيوب والرذائل.
في كلِّ يومٍ، خلال الَّليلِ والنَّهار أَي خلالَ 24 ساعة تامَّةً، نحنُ مُدَنَّسونَ بالخطايا. لا يستطيعُ قدّيسٌ في العالم منذُ الرُسل حتى اليوم أَن يقولَ في لحظةٍ من لحظاتِ عُمرِهِ إِنَّهُ بارٌّ نقيٌّ طاهِرٌ. كلُّ القدِّيسينَ شَعَروا خلالَ الليلِ والنهار بأَنَّهم مُدَنَّسونَ خائنونَ خاطئونَ، أولادٌ لجَهنَّم.
الشيءُ الَّذي يُميِّزُ القدِّيسينَ هو شعورُهُم بأَنَّهُم غيرُ مستحقِّينَ لأَيِّ شيءٍ إِلهيٍّ، بأَنَّهم لا يستحقُّونَ إِلَّا جهنَّم. ما كانوا مَرضى عقليِّين، ما كانوا مثلَ يهوَّذا يشنُقونَ أَنفُسَهُم. يهوَّذا شعرَ بأَنَّهُ ارتَكَبَ خطيئةً عُظمى ونَدِمَ ولَكِنَّهُ شَنَقَ نفسَهُ. القدِّيسون يشعُرونَ بالذَّنب أَكثرَ من يهوَذا ولكنَّهُم لا يشنُقونَ أَنفُسَهُم لأَنَّهُم مؤمنونَ بأَنَّ دمَ المسيح يُطَهِّرُهُم من كلِّ خطيئةٍ.
هناكَ أُناسٌ مُصابونَ بتوبيخٍ عنيف للضمير يجعلُهُم ذَوي مَزاج سَوداوي MELANCOLIQUES. هؤلاء هُم مَرضى عَقلِيُّون يَحتاجون الى مشافٍ عقليَّة. أَمَّا القدِّيسونَ فَهُمْ أُناسٌ في أَشَدِّ درجاتِ الوَعي واليَقظة ولكنَّهُم يعرِفونَ أَنَّهُم خاطئونَ وليسوا مستحقِّين. يلومونَ أَنفُسَهُم ليُصلِحوا أَنفُسَهُم لا لِيَنتحِروا مثل ذَوي المزاج السوداوي. الفَرقُ كبير بين القدِّيس التائب وبينَ المرضى العقلِيِّين والمرضى النَفسيِّين. المرضى النَفسيِّين حالاتُهُم مَرَضِيَّة، أَمَّا القدِّيسونَ فَهُمْ الصَّاحونَ مِئة في المئة ولكنَّهُم غَطَسوا في أَعماقِ أَنفسِهِم فاكتَشَفوا أَنَّهُم موبوؤنَ بالأَفكارِ الشِرِّيرة والميول الشِرِّيرَة والرَّغائب الشِرِّيرَة والأَهواء الشِرِّيرَة والعواطف الشِرِّيرَة، ولذلك اجتَهَدوا أَن يُطَهِّروا أَنفُسَهُم من كلِّ دَنَسٍ وأَن يُعَطِّروا قِواهُم ونفوسَهُم بالرُّوحِ القُدس. أَرادوا أَن يكونوا هَياكِلاً للرُّوح القدُس فَسَعَوا الى تطهيرِ أَنفُسِهِم ليكونَ حلول الروح القُدُس فيهِم حُلولاً كبيراً جداً. كان النورُ الإِلهي يتعاظم أَحياناً في القدِّيس سمعان الَّلاهوتي الجديد فيَطلُبُ الى يسوع آَن يُخَفِّف “العيار” ليستطيعَ التَحمُّل. هذا النور الإِلهي يحرِقُهُ فيشُمَّ رائحة الَّلحم المكوي بنارِ الرُّوح القُدس.
كيفَ أَستطيعُ أَن أَكونَ ممتلئاً من الروحِ القُدُس وداخلي كما قالَ يسوع للفرِّيسيِّين: قبورٌ داخِلُها عِظامٌ نَتِنَةٌ؟ عليَّ أَن أُطَهِّر قِوايَ الدَّاخليَّة جميعاً من النَتَن لأَجعلَها أَعضاء يسوعَ المسيح، لأَجعلها أَسلِحةً ليسوعَ المسيح.
ولذلك فالسطحيَّة الدينيَّة خطرٌ كبيرٌ على المؤمنين. أنا أَعرِفُ أَنَّ الأَغلبيَّة تَوَدُّ عَيشاً مُلَطَّفاً، مُبَسَّطاً في الدِّينِ. لا! المسيحيَّة ضدَّ التَبسيط وضدَّ التلطيف. هي ديانةُ الصليب، والصليب مساميرٌ وطريقٌ من الشَّوكِ لا جرَّةَ عَسَلٍ. أَعرِفُ أَنَّ الكثيرينَ الكثيرينَ يَوَدُّونَ أَن يتَجنَّبوا الآلمَ في الدِّيِن فيهرَبونَ أَمامَ الصعوباتِ والشدائد وقد يَنكُرونَ المسيح. ولكن هناك الملايِّين الذين صَلبوا أَنفُسَهُم ضحايا للربِّ يسوع، هم بشرٌ مِثلَنا. كانوا قبلاً حسَّاسينَ ولكن لما دَقَّ ناقوسَ الخَطر عَرَضوا أَرواحَهُم للصليب وماتوا شُهَداءً. في كلِّ ظروفِ الحياة، المسيحي الحقيقي هو مصلوبٌ.
الإِنجيل الذي نحمِلُهُ في قلوبِنا هو صليبٌ، كيف؟ لأَنَّ الإِنجيل يُعَلِّمُنا أَن نعيشَ المسيح. والمسيحُ في الإِنجيلِ هو في الدرجةِ الاُولى المسيحُ المتجسد المصلوب. في إِنجيلِ يوحنا خاصَّةً نرى أَنَّ يسوع آتٍ من السماء لِكي يموتَ على الصليب. غايتُهُ الأُولى والأَخيرة: الصليب الصليب الصليب… ونحن كمسيحيِّين مُطالبونَ بِأَن نَحيا الإِنجيل وبِأَن يتجسَّدَ الإِنجيلُ في حياتِنا. وإِن تَجَسَّدَ الإِنجيلُ في حياتِنا فهذا يعني أَنَّ المسيح تجَسَّدَ في حياتِنا وصارَ المسيحُ فينا كلَّ شيءٍ.
يوحنا فم الذهب قالَ إِنَّهُ يجب أَن يكونَ المسيح فينا وأَن نكونَ نحنُ بيتاً من البَلُّور يظهرُ المسيح فينا ويتراءى فينا من كلِّ جنَباتِنا. هل هذا شِربَةُ ماءٍ؟ هل أَستطيعُ أَنا أَن أَجعَلَ يسوع المسيح في داخلي كَبَيتٍ بَلُّورٍ لهُ دونَ أَن أُصلَبَ مَعَهُ؟ هل مِنَ المعقولِ أَن يَتراءى يسوعَ المسيح من كلِّ جَنَباتي وجَسَدي هذا مُلَوَّثٌ وابنٌ لجَهنَّم؟ هل صارَ جسَدي روحانيّاً شفَّافاً ليَتراءى يسوعَ مِن كلِّ جنَباتِهِ كَما ظَهَرَ النورُ من جسدِه على جبلِ التجَلِّي؟ ولَكِنَّ هذا ممكنٌ بالتَّوبةِ. حينما أَسحَقُ نفسي تائباً نادِماً مُغَيِّراً سلوكي، أَصيرُ مَسكِناً للنُّورِ الإِلهي. حينما أَخلَعُ الإِنسانَ العتيقَ، إِنسانَ آدمَ لأَلبَسَ الإِنسانَ الجديدَ أَي يسوعَ المسيح، يصيرُ هذا ممكِناً. ولَكِن هَل من السَّهلِ أَن أَخلَعَ آدمَ وأَلبِسَ المسيح وبعبارةٍ أُخرى أَن أُحَوِّلَ آدمَ الى المسيح؟ فأَنا إِبنُ آدم من والدَيَّ، ولَكِن انا ابنُ المسيح في المعموديَّة والمسيحُ وآدم يعيشان فيَّ، والمطلوب منِّي أَن أَكونَ مع المسيحِ لا مع آدم.
على المسيحيِّين أَن يفهَموا هذهِ الحقيقة: في المعمودِيَّة المسيحُ فيهِم، بالميرون الروحُ القدُس فيهم. ولَكِنَّ المسيح والرُّوح القُدُس يوَدَّان تبديلَ آدم تبديلاً كامِلاً وتحويَلَهُ الى يسوعَ المسيح لأَنَّ هذا الجسد التُرابي الفاني يلبَسُ المسيح وهو يتغيَّرُ بنِعمةِ الروحِ القُدُس لِيصيرَ بالقَولِ والفِعلِ جسَد المسيح.
المسيحُ وآدم فيَّ وهُما يتحاربان والمطلوب من ضميري أَن يختارَ بينهُما. فالمعركةُ معركَتي والمصيرُ مصيري وأَنا أُقَرِّرُ مصيري. فَعَلَيَّ كإِنسانٍ حُرٍّ عاقِلٍ أَن أَختارَ بينَ المسيح وآدم، بينَ المسيح والشَيطان. إِن اخْتَرتُ المسيح، أَخضَعتُ جسَدي للصَومِ والصَلاة والنُسكِ والأَعمالِ الصالحة لِروحي، وجَعَلتُهُ يتَصَرَّف تصَرُّفاً روحانيّاً إِنجيليّاً. فَلا أَمُدُّ يدي الى الإِثِم بَل الى الخير، ولا ينطق لساني بالإِثِم بل بالخَير، ولا تَنظر عينيَّ إِلَّا يسوع ولا أَسمع إِلَّا الكلامَ الجيَّدَ المفيدَ، ولا أَدعُ جسَدي يبطَر بالخمرِ والمفاسد والملذَّاتِ الفانِيَة لأَنَّ الجسدَ قابلٌ لأَن يتقدَّسَ. ولَكِن مَن يُقَدِّسُهُ؟ انا، الَّذي اختَرتُ المسيح والروح القُدُس لمجدِ الآب، أَنا الَّذي يُقَدِّسُهُ. عليَّ أَن لا أَنتظِر من أَحَدٍ أَن يُغَيِّرَني جِذريّاً، أنا الَّذي أُغَيِّرُ ذاتي بِفِعلِ الروحِ القُدُس الساكنُ فيَّ.
كلُّ شيءٍ مرتبِطٌ بإِرادتي الذاتيَّة. خلاصي هو بِيَدي، أَنا الَّذي أَختار يسوعَ المسيح ربّاً ومُخَلِّصاً وهادِياً ومعلِّماً ومُنقِذاً وحَبيباً وانا الَّذي أَرفُضُهُ. أَنا الَّذي أُوَجِّهُ كلَّ أَشواقي الى يسوع المسيح وأَنا الَّذي أُوَجِّهُ أَشواقي الى ملذَّاتِ الجسد، فالخلاصُ هو بِيَدي. وكما قال الكتاب: خلاصُكَ بِيَدِكَ. أَنتَ الَّذي تُخَلِّصُ نفسَكَ وأَنتَ الَّذي تُهلِكُها، أَنتَ الَّذي تُصعِد نفسَكَ الى السماء وأَنتَ الَّذي تُنزِلُها الى نارِ جهنَّم، وكيف؟ في التوبة.
ليستِ التوبةُ كلاماً. التوبةُ أَفعالٌ. أَكذِبُ وأَتّخِذُ قراراً بالإِمتناع المطلَق عن الكَذِب فأَتوقَّف عن الكَذِب، وانتهى كلُّ شيء. كتَبَ القدِّيس يوحنا فم الذهب الى غريغوريوس ما مَفادُه: ليسَ كلَّ الشرِّ في الخطيئة لأَنَّنا نَلبِس أَجسادَنا ولَكِن الشر كلَّ الشر هو التَّمادي في الخطيئة، والتَّمادي في الخطيئة هذا هو الشرُّ الهائل. علينا أَن نُصلِحَ أَنفُسَنا باستمرارٍ، فالتجربةُ قائمةٌ حتى لحظة الوفاة. وعلَّمَنا يوحنا السُلَّمي في الفصل 26 في الصفحة 407 أَن لا نَدينَ احداً قبلَ الموتِ لأَنَّنا لا نعرفُ شيئاً قبلَ الموتِ. في لحظةِ الموت يتقرَّرُ مصير الإِنسان إمَّا الى العُلى وإمَّا الى أَسفل. ما زِلنا على الأَرض فنحنُ مجتهِدون، نُجاهدُ على رجاءِ الفَوزِ بالحياةِ الأَبَديَّة. فمعموديَّة الدموع هي معموديَّة هامَّة كما علَّمَنا غريغوريوس الَّلاهوتي ويوحنا السُلَّمي وغريغوريوس بالاماس. فالدموع عطيَّةٌ إِلهيَّةٌ مُقَدَّسةٌ تَجعَلُ نفوسَنا رقيقة شفَّافة. نتخوَّف من سماكةِ الحسِّ، نتخوّف من قساوةِ القلب الغيرُ التائب، تَجرَحُنا محبة المسيح. فالتوبة العميقة الصحيحة هي الفِردَوس قبلَ الموت. من هذه الأَرض ونحن عليها، نستطيع أَن نكونَ في الفردَوس بواسطةِ التوبة. ولكن لا توبةَ في الكلام بل توبةَ في الأَفعال. فنَسحَق الكِبرياء بكلِّ أَلوانِها، ونسحَق العُنفِ بكلِّ أَلوانِهِ، ونسحَق الغَضَب والبُخُل والأَنانيَّة والطَمَع والشَّراهة وكُلّ الفواحش وكُلّ الأَهواءَ الأَرضيَّة فنَلبَسُ الثوبَ السماوي ونحنُ بعدُ في الأَرضِ.
ذكَرَتُ قساوةَ القلبِ: قساوةُ القلبِ جحيمٌ. ولَكِن بالتوبةِ يُصبِحُ القلب رقيقاً. التذلُّل أَمامَ الله، الإِنسحاق أَمامَ الله ضروريٌّ جداً لِكَي تَلينَ رِقابُنا وقلوبُنا. هناكَ خطرٌ كبيرٌ على الحياةِ الروحيَّة، وهذا الخطر هو إِلتحامِ الأَنانيَّة والكبرياء والغَضب وقَساوةُ القلب.
الإِلتحام الكبير بين هذه الأَهواء مُضِرٌّ روحيّاً. الأَنانيُّ منكمشٌ على نفسِهِ لا يستطيع أَن يكونَ شديدَ الشوق الى يسوع وشديدَ المحبة للآخرين. والمتكبِّر متعجرِف، لا يَحني رقبَتَهُ لله ولا للبَشر. والغَضوب الحَقود العُدواني القاسي القلب، حجرٌ لا يَلين. لذلك الجهاد الروحي يتطلَّب بطولاتٍ هائلة جداً، والتوبةُ هي عملُ الأَبطال. لا يستطيعُ كلُّ إِنسانٍ أَن يضَعَ رأسَهُ في الأَرضِ والدموعُ تنهمرُ من عينَيهِ على الأَرض. هذا يتطلَّب تواضعاً كبيراً جداً ويتطلَّب بطولةٌ كبيرةٌ جداً. كما قال الشاعر: ليس من يَقطَعُ طُرُقاً بطَلاً بل مَن اتَّقى اللهَ البَطَل. البطولة هي في تقوى الله لا في الحروب . الربُّ يسوع علَّمَنا أَنَّ باب الملكوت ضيِّق وباب الهلاكِ واسعٌ. فإذاً يحتاجُ الأَمرُ الى البطولة لا الى الرخاوَة. الرَحوم يدخُل من الباب الواِسع. ولذلك فالأَبطال روحيّاً هُم الَّذينَ يدخُلونَ من البابِ الضيِّق. والرَخاوة مرضٌ عامٌ، سرطانٌ عام. نَرى الناسَ يُكافحونَ من أَجلِ هذهِ الدنيا ويَقضونَ العُمرَ كُلَّهُ في الكِفاحِ من أَجلِ هذه الدنيا. والطمَّاعُ طمَّاعٌ ولو كانَ عمرُهُ مئة سنة. أَمَّا السَّاعونَ الى الملكوتِ السَّماوي يتضَّجرونَ كثيراً حتى المجاهدون الروحيُّون الكِبار يَشكونَ كثيرا من التجارب. الإِنسانُ مائلٌ الى التَّراخي. لا يُحِبُّ أَن يضغَطَ كثيراً على نفسِهِ، ولكِن من أَجلِ شؤونِ العالَم يضغَط على نفسِهِ. فالمقامر يسهر 48 ساعة، والمهرِّب يقطع الطُرُق، وقُطَّاع الطُرُق يقضونَ الَّليالي في البَراري وفي الجبال هَرباً من السُلطات التي تلاحِقُهُم. ولكن مَتى أَتَينا الى مَيدان الجِهاد الروحي نرى الضَجر والملَل والكلَل تُسَيطِرَ على الناس. إن أَعطَينا فلاناً قصَّةً إِلتَهَمَها وإِن أَعطَيناه الإِنجيل رفَضَ حيناً، وإِن قَبِلَ رَماهُ جانباً بعدَ قليل.
الشيطانُ يحاربُنا هذا لا شكَّ فيهِ والهاربونَ من مُطالعة الإِنجيل كثيرون. المطالعونَ لهُ بعمقٍ قليلون، قد يُوجد أُناسٌ يُطالعونَ الإِنجيلَ ولكن ليس بالعُمقِ المطلوب. المطلوبُ عندَ مطالعةِ الإِنجيلِ أَن يتجسَّدَ المسيح مع الإِنجيلِ فينا. أَن يتغلغَلَ المسيح فينا كلَّما تغلغَلَ الإِنجيلُ فينا. الإِنجيلُ أَداةٌ ممتازةٌ ليتغلغلَ المسيحُ فينا، ولَكِنَّ الشيطانَ يُحاربُنا. عدوُّ الشيطان المطالعات الروحيَّة ومطالعة الإِنجيل. قد يتحمَّل المرءُ مطالعة باقي أَقسام العهد الجديد، ولكنَّهُ لا يتحمَّل مطالعة الأَناجيل لأَنَّ الشيطان يُشِنُّ عليهِ حرباً هائلة. لا يريدُ الشيطان أَن يرانا ونُصبَ أَعيُنِنا ربَّنا يسوع المسيح. ومَن يُطالع الإِنجيل حقيقةً يكون يسوع المسيح نُصْبَ عينَيهِ، وهذا يدفَعُ الشيطان الى حربٍ ضَروس. علينا أَن نَكويَهُ بإِسمِ ربِّنا يسوعَ المسيح. كما علَّمَنا يوحنا السُلَّمي أَن نَجلُدهُ باسمِ ربِّنا يسوع. علينا أَن نُتابع مُطالعة الإِنجيل بشَغَفٍ كبيرٍ وشَوقٍ عظيمٍ. الإِنجيلُ وسيلةٌ رائعةٌ لِكَي يتجسَّدَ يسوعَ المسيح فينا، لِكَي نلتَهِمَ ربَّنا يسوعَ المسيح بِشوقٍ عظيمٍ لا بفُتورٍ وبُرودة. الربُّ يسوعَ المسيح لا يدخُل إلَّا الى القلوبِ الحارَّة. علينا أَن نتبع الإِنجيل ونحنُ نارٌ من نارِ يسوعَ المسيح.
الكلامُ سهلٌ والتطبيقُ عسيرٌ وأَنا الَّذي أقولُ هذا. هل انا فِعلاً لهيبٌ من نارِ يسوعَ المسيح؟ وهل أَستطيع أَن أَكونَ كذلك؟ إِنَّما، أَلتمِسُ منهُ أَن يكونَ الأَمرُ كذلك. فَجَسَدي الثقيل لا يتحمَّل هذا الَّلهيب. كلُّنا نشكو المرض نفسَهُ وهو التباطؤ والتخاذُل والكَسَل والتراخي والميوعة. نحنُ عاجزون أَن نكونَ حارِّينَ في الرُّوحِ، والمطلوب هو أَن تكونَ قلوبُنا أَتوناً مُتَّقِداً بنارِ الروح القُدس.
لا نُحِبُّ التأَمُّلَ الروحي، كيف نستطيع أَن نغرُسَ المسيحَ في قلوبِنا إِن لم نُفَكِّر في مصيرِنا بعد الموت؟ يجب أَن نُقَنِّع دائماً نفوسَنا لكَي يكونَ يسوعَ المسيح حاضراً في حياتِنا، لِكَي يكونَ صليبُهُ مصلوباً باستمرارٍ أَمامَ أَعيُنِنا، لِكَي نقولَ أَمام الصليب خَطِئنا الى السماء وأَمامَكَ، لِكَي أَقولُ أَمامَ صليبِهِ أَنا مجرِمٌ، انا إِبنُ الجحيم إِبنُ جهنَّم.
بِدَمكَ الطَّاهر أَطفِئ لهيبَ شَهَواتي وهَفَواتي وغرائزي وأَهوائي وسَهَواتي وكلُّ رديءٍ فيَّ.
يجب أَن أَقَرع صدري أَمامَ صليبِ يسوعَ المسيح باستمرارٍ وأَن يكونَ صليبُهُ مَنصوباً أَمامَ عينيَّ باستمرارٍ. صليبُ يسوعَ المسيح له المجد يُذَكِّرُني باستمرارٍ بحالَتي السَّاقطة. ولذلك يجب أَن أَنتصِر باستمرار في الجلجلة أَمامَ صليبِ الرب يسوعَ المسيح ورأسي يلمُسُ الأَرضَ ندامةً وتوبةً واستغفاراً ملتمِساً منه له المجد والإِكرام والسجود أَن يَغسُلَني بِدَمِه الطَّاهر الكريم ويُطهِّرُني من كلِّ خطيئةٍ ويجعلَني مسكِناً طاهراً لِروحِهِ القدُّوس.
هذه هي المسيحيَّة. ليست المسيحيَّة صدرُ كنافة ولا جرَّة عسل ولا قالب شوكولا. المسيحيَّة هي الرأسُ المنسَحِق عندَ عودِ الصليبِ في الجُلجُلة. هذه هي المسيحيَّة! أَن أَلتصِق بصليبِ يسوع المسيح، أَن أَكونَ مصلوباً على الصليب معهُ في الجلجُلة، أَن يكونَ عقلي وفِكري وذاكِرَتي ومخيَّلَتي باستمرار مُنتصِبات عندَ قدَمَيِّ يسوع في الجلجلة يُقَبِّلنَ الصليب، يُقَبِّلنَ الحجر الذي غُرِقَ فيه الصليب. يجب أَن نكونَ دائماً عند قبرِ ربِّنا يسوعَ المسيح نُقَبِّلُ قَدَمَيّ يسوعَ المسيح مُلتمِساً منهُ أَن يَكفِرَ عن خطايانا لِنَقومَ معَهُ.
التوبةُ هي قبرُ المسيح تماماً لأَنَّني بالتوبة أَدفِنُ خطاياي وأَهوائي وشهَواتي فيَقومُ المسيحُ فيَّ. التوبةُ هي الصليبَ والدفنَ والقِيامةَ. لا من حلٍّ آخر للإِنسانِ المسيحي ليَصعدَ الى السماء إلَّا بأَن يكونَ مع المسيح في الجلجة ومع المسيح في القبر. على المسيحي أَن يدخُلَ قبرَ المسيح ويعرِف أَنَّ وظيفَتَهُ في الحياة هي تكفير الخطايا ليَقومَ المسيحُ فيهِ.كُلَّما كنتُ تائباً، كُلَّما كان المسيحُ قائماً فيَّ. التوبةُ هي دفنٌ وقيامةٌ. بالتوبةِ نحن مدفونون وقائمون مع المسيح. فلذلك ليست التوبة جحيماً وبؤساً وحُزناً ومِزاجاً سوداويّاً، بل هي بهجةُ القيامة.
نبكي، نستعمل معموديَّة الدموع ولكنَّها دموعُ القيامة في آنٍ واحدٍ. هذا شيءٌ رئيسيٌ عقائديٌ. التوبة هي قبرُ المسيح. التائبُ هو مقيمٌ في قبرِ المسيح روحيّاً. يدفُن خطاياه فيقومُ المسيحُ فيهِ. هذا التنازل الإِلهي الكبير بين الدَفنِ والِقيامة هو المعجِزَة الإِلهيَّة الكُبرى. كيف أَجمعُ الدفنَ والقيامةَ؟ هذه معجزةُ الإِله في حياتي أَنا الساقط. هو أَعطاني أَن أَقومَ فيهِ كُلَّما دَفَنتُ خطاياي فيه في قبرِه. إذن، انا اعيشُ. أَدفِنُ خطاياي وأَقومُ فوراً. ليست الفتَرات زمنيَّة هنا. إِدفِنْ خطاياك الآن تقومُ مع المسيح الآن. هذا هو السرُّ العظيم! سرُّ القبر، قبرُ الخلاص هو سرُّ حياة كلّ إِنسانٍ مسيحيٍّ.
كلُّنا نَموتُ مع المسيح وكلُّنا نَقومُ مع المسيح. العمليَّة واحدة. قبرُ الخلاص واحدٌ وهو قبرُ الدَفنِ وقَبرُ القِيامةِ. السرُّ واحدٌّ، سرُّ الدَفنِ وسِرُّ القيامِة وحياتُنا كلُّها سلسِلة لا تنتهي بِلا انقطاعٍ من دَفنٍ للخطايا وقيامةٍ مع المسيح.
فلِيَسوعَ المسيح له المجد الذي يدفُنَني معَهُ في قبرِه، المجد والإِكرام والسجود مع أَبيهِ القدُّوس الى أَبد الآبدين ودهرِ الداهرين آمين.