خواطر في الذكرى الرابعة والثلاثون لرقاد مثلث الرحمات البطريرك الياس الرابع معوض
بقلم الشماس اسبيرو جبور
في هذه الذكرى تبدو صورته لي بعد أكثر من 69 سنة من الصداقة المتينة فالحميمة كما يلي:
1 ـ يجب أن يعرف المرء أن الشاب الياس معوض كان تلميذاً في المدرسة الداخلية الأرثوذكسية ـ الغسانية ـ في حمص ، والتي نشب فيها حريق هدد حياة أكثر من مئة تلميذ وبعض المشرفين ، فأمسك القضبان الحديدية في إحدى النوافذ ولواها بعنف ، حتى تمكن من عمل كوة تكفي لمرور التلاميذ ومشرفيهم ، وكان هو آخر من غادر سالماً ، فصار صيته كبطل ، إذ كان ذا بنية تؤهله للمصارعة الدولية .
( جريدة حمص العدد رقم / 2366 / تاريخ 17 ـ 11 ـ 2000 ، وكتاب ” تاريخ حمص ” لمؤلفه الأستاذ منير الخوري عيسى أسعد ص / 474 / ) .
2 ـ أين غارت هذه القوة الجبارة ؟ حولها إلى حرب روحية ضد الأهواء ، فصار طاهراً كالشمس ، ووديعاً كالحمام ، ودرويشاً مثل آباء البراري ، وهكذا صار الأسد ذا مخلب من عسل ، ما كان قادراً على قتل نملة أو دوسها بقدمه ، كان لديه نوع من الوسواس ضد ارتكاب الأذى ، ولذلك صورته في ذهني هي صورة مار اسحق ، ومن طالع نسكيات القديس اسحق ، يستطيع أن يرى في وجه عاشق مار اسحق أي البطريرك الياس ، مار اسحق الثاني.
بالرغم من كونه جلداً وأعصاباً وعظاماً كان مسيطراً على الغضب ، إلا إذا نفر من الباطل أو الرذائل ، آنذاك كان يحتد ، ولكن للحظات ، كان خفيف الظل يخشى أن يكون ثقيلاً على أحد ، وإن طلب شيئاً كان يطلب بخجل ولطف مفرط ، فهو شبيه بمار اسحق وبآباء البرية .
3 ـ كان مشابهاً لماقتي الفضة ، زاهداً في المال والمقتنيات ، وحريصاً على أموال الكنيسة حتى التقتير ، عين لنفسه في حلب معاشاً بحوالي 750 ليرة سورية كان يدفع منها أجرة السائق والطباخة .
4 ـ القديس أفرام وسواه من الآباء القديسين المذكورين في الكتابين اللذين نشرتهما ( الاعتراف والتحليل النفسي ـ روحانية الكنيسة الأرثوذكسية ) ،قالوا أن الناسك يموت كل يوم بينما الشهيد يموت دفعة واحدة .
مثلث الرحمات البطريرك الياس أنفق عمره مثل النساك في محاربة الأهواء واقتناء الفضائل والصوم والصلاة ، وانتهى في السنوات الأخيرة ناسكاً في شاغورة صيدنايا يصلي فيها ، ويطالع ويترجم ، فهو مع النساك الشهداء .
5 ـ في آخر تسجيل لي عنه قارنته بالقديس اسبيريدون العجائبي ، إذ كان وديعاً بسيطاً مثل القديس اسبيريدون وغير متعلق بالمال .
6 ـ هو أرثوذكسي نقي العظام ، كما هو وطني نظيف طاهر مخلص للوطن كإخلاصه لكنيسته ، وقد وقف على الحرب التي تشنها الصهيونية على الكرسي الأنطاكي ، ولمس وعاين ضراوة هذه الحرب التي جعلت عهد سلفه البطريرك الخالد ثيودوسيوس أبو رجيلي عهد مشاحنات وانقسامات وتخريب وإفساد الضمائر بالمال اليهودي ، كما عاش أزمة محاربة إسرائيل وعملائها وحلفائها لطرح اسمه بطريركاً ، وكان موقفه صارماً من إسرائيل وداعميها ، ولما بلغ السيل ذروته وجدت إسرائيل الحل الوحيد بالقضاء عليه .
في حلب أتاه مأجور ليغتاله ، وامتنع عن تنفيذ فعلته قائلاً له : أتيت لاغتيالك ولكنني وجدتك إنسانا صالحاً فامتنعت عن تنفيذ مهمتي .
وفي أيلول 1970 أبلغنا أحد المخبرين بأن أحدهم استأجر من سيغتال معوض وصديقه اسبيرو أثناء مرور سيارتهما في منطقة العربانية ( تلستار ) فكلف البطريرك الياس المطران جورج خضر باستحضار حماية ، فأرسل المحافظ 4 سيارات أمنية تمشط المنطقة وتواكبنا .
وفي ذكرى انتقاله الخامس كتب الأب رومانوس جوهر في كتاب ” رجل المحبة ” الذي نشره المطران الياس قربان عام 1984 حول ماحدث معهم في الأرجنتين :
” … أذكر ذلك ولا أنساه أننا كنا في الأرجنتين ، وإذا بنا نرى من حولنا القوى المسلحة تطوق الدور التي نقطنها وتقف على مفارق الطرق لتحمي البطريرك من غدر الصهيونية ومن تآمرها ” .
والمتداول هو أن جرعة السم الأولى أعطيت له في البرازيل ، وأخذ يتوعك صحياً بحسب ما رواه لي المغبوط مطران حمص أليكسي عبد الكريم ، وكان أن فارق الحياة في فجر الخميس الواقع في 21 حزيران 1979 ، وبعد رؤية جثمانه من الشهيد الدكتور يوسف صايغ صرخ ” هذه ليست جلطة ” ، وعند نقل جثامين البطاركة من القبر القديم إلى القبر الجديد تحت هيكل الكاتدرائية المريمية ، لوحظ بأن لون عظامه أزرق ، فارتفع الصوت بأن هذا زرنيخ الذي سبب تحول اللون إلى الأزرق ، وكما أن قدس الأب المرحوم جورج شحوارو ( الحلبي ) قال لي بأن شخصاً مرتبطاً بالمخابرات السوفييتية أعلمهم مراراً بأن البطريرك مات مسموماً بطريقة علمية فنية مجهولة في الشرق الأوسط ، وهذا يعني بأن السم مستورد من وراء البحار بنفوذ يهودي كبير .
الصورة المشرفة والمشرقة للبطريرك الياس في ذهني وقلبي هي أنه شهيدٌ مضاعفٌ : فهو شهيد النسك والزهد والوداعة والدروشة ومقت الفضة ، كما أنه شهيد التسميم .
فهو الشهيد البار الماقت الفضة والبسيط كالقديس اسبيريدون العجائبي ، كما أنه بسبب خفة ظله وخاصة في سنواته الأخيرة كان يشبه الملائكة بالجسد كيوحنا المعمدان وايليا النبي .
سيبقى البطريرك الياس مع الخالدين في الكرسي الأنطاكي المقدس وفي العالم الأرثوذكسي ، فصيته الحسن في القسطنطينية وأثينا وموسكو ورومانيا وصوفيا وسواهم سيبقى مؤبداً .
أيها الأب البار القديس الشهيد الياس الرابع معوض ، ابتهل إلى الله لكي يحفظ الكرسي الأنطاكي في عهد خليفتك المحبوب مولانا البطريرك يوحنا العاشر يازجي ومجمعه المقدس منيعاً لكي يقف بجدارة وعلى قدم المساواة مع الكنائس الأرثوذكسية في العالم لخير المؤمنين ولمجد الله . 20
ـ 21 حزيران 2013
أخوك الوفي أبداً الشماس
اسبيرو جبور