سر الموت
الحجاب السري
" أي إنسان يحيا ولا يرى الموت ؟ ومن ينجي نفسه من يد مثوى الأموات ." (مزمور89) " من يقول أن الله قد خلق الموت يعادل من يقول بان الله غير موجود"( القديس باسيليوس الكبير) " من يقتني ذكر الموت لا يمكن أن يخطئ فيما بعد . " ( القديس هيزيخيوس ) |
كل واحد منا سيعرف انه سيموت ولكن متى يكون هذا؟ لا يعرف . لأن الموت لا يميّز ولا يحدّد الوقت ولا يحسب كم سنة عاش الإنسان ولا ينظر إلى الشيخوخة ولا يرأف بالشباب ولا ينتبه أو يصغي إلى أن الإنسان هييأ نفسه ام لا ، لذلك يقول النبي داود :" الإنسان كالعشب أيامه وكزهر الحقل كذلك يزهر لانه إذا هبّت فيه الريح ليس يثبت ولا يعرف أيضا موضعه " ( مزمور 1.2 ) .
ومن الكتاب المقدس يظهر لنا أن آدم وحواء الذين خرج منهما الجنس البشري خلقا عديمي الموت فمن أين جاء الموت وظهر ؟ وكيف يهاجم الإنسان ؟ أن الموت لسر عظيم لا يعبر عنه ، في الكتاب المقدس يعلم أن الموت كان نتيجة الخطيئة ،كذلك بولس الإلهي يقول : " بالخطيئة دخل الموت إلى العالم " ( رومية 5 – 12). أيضا الله أوصى الإنسان أن يفكر في الموت عندما قال له : " لا تأكل من شجرة معرفة الخير والشر لأنك في اليوم الذي تأكل فيه تأكل منها تموت .
إذا قبل السقوط عندما خلق الإنسان لم يكون هناك الموت ، كان يرتدي لباسا " إلهي الحياكة " هو لباسه النفسي – الجسدي الذي حيك بالنعمة، بنور الله ومجده . كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم : " أن جديّنا الأولين قد التحفا بالكرامة من العالي .. الكرامة السماوية قد غطتهما بصورة أفضل من أي لباس ".هذا يعني أن الإنسان كان ذا طبيعة سابقة للسقوط "على صورة الإلهية " قد خلقت بنفحة الله ومنحت بنية إلهية الشكل كما يقول القديس غريغوريوس بالاماس .
لكن بعد السقوط " صنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما " ( تكوين 2:25 و3: 21و 24 ) . يعني هذا أن الاقمصة الجلدية التي ارتداها الإنسان بعد السقوط (اقتراف الخطيئة) لا تؤلف مركبا من عناصره التركيبية الطبيعة الأصلية.
وما ندعوه اليوم بـ " طبيعة الإنسان " أي الطبيعة اللاحقة للإنسان ، حالة دخلت على الإنسان بعد السقوط وليست حالة أصيلة بل دخيلة .
إذا سقط الإنسان كله في الخطيئة والموت، وأضاعت الطبيعة البشرية المخلوقة على صورة اله جمالها الأول وخصائصها الملائكية، وصارت أقرب ما تكون إليه على صورة الكائنات غير العاقلة، إذ انحصرت ضمن حدود ": الشكل غير العاقل " فصارت الطبيعة غير العاقلة تفعل في الإنسان وتظهر فيه بطرق وصور شتى .
لذلك كان الموت النتيجة الطبيعية للسقوط والخطيئة ، فتحولت الحياة في الإنسان إلى البقاء على قيد الحياة، إلى حياة الموت طالما مؤجل . لذا الله لم يخلق الموت ولم يخلق الشر ولم يخلق الخطيئة في حياة الإنسان .
كما يقول القديس باسيليوس الكبير : " الإنسان برفضه الحياة والخير والبر خلق الموت والشر والخطيئة في حياته " .لكن الله لم يشأ أن يترك الإنسان خليقته بعد أن تركته هي ، فتحمل بفيض محبته هذه الحالة الجديدة وحوّلها إلى بركة ، أي ما هو سلبي إلى ما هو ايجابي نسبيا ، كما يقول القديس مكسيموس المعترف : " لأن الله يعمل بطريقة محبة نحو أولئك الذين صاروا أشرارا بحيث يحدث تقويمنا .
وبالتالي ما هو الموت ،فالموت ضد الطبيعة الإنسان الأصلية كما رأينا . فان الله خلق الإنسان خالدا وصنعه على صورة ذاته " (طكمة2:12) كذلك "ليس الموت من صنع الله ولا يسره هلاك الأحياء"( حكمة1:13) إذا فالموت هو نصيب كل إنسان ولا احد يتخلص منه كما يقول النبي داود :"أي إنسان يحيا ولا يرى الموت" (مزمور48) .
وهذا ما يعلمه إياه الرسول بولس الإلهي: " وكما حتم على الناس أن يموتوا مرة واحدة ثم من بعد هذا الدين كذلك المسيح قرّب مرة واحدة ليرفع خطايا كثيرين وسيظهر للخلاص المرة الثانية بلا خطيئة للذين ينتظرونه " ( عبرانين 9: 27 ) ولكن الإنسان لا يعلم وقته فانه كالأسماك التي تؤخذ بشبكة مهلكة ( جامعة 9: 12 )
فنتج عن سقوط الإنسان أنواع مختلفة من الميتات: 1- الموت الروحي ، هو أقسى أنواع الموت وأمرّها وأقبحها،انه العدم على الاطلاق. انه العودة إلى حالة اللاوجود ،حالة اللاحياة واللاحركة ،العدم أو اللاشيء أو الجمود التام . فكأن الإنسان عندما يموت روحيا يقع في حال اللاوجود وكأنه لم يخلق ولم يكن . يصبح محروما من التمتع بكل ما تقدمه له الحياة من ميزات وخصائص ونعم . فأصبح الإنسان يحيا في واقع الكفر والنكران ،واقع الكبرياء واقع الشهوة مما أدى إلى أن يعم الشر عالم الإنسان . 2- الموت الجسدي، يمثل موت الإنسان الجسدي ذلك الجانب المنظور أو المظهر المحسوس من عملية الانتقال من الحياة إلى العدم والفناء. لقد حتّم عدل الله المطلق أن يموت آدم وحواء ليس فقط موتا روحيا بل موتا جسديا أيضا نتيجة لهما على فعلتهما .
3- الموت الأبدي، انه يمثل ويشكل آخر وأقسى درجات الموت،هو الموت الذي لا قيامة بعده. معه وبه تختزن في غياهب الروح وذاكرتها،كل ذكريات ماضي الإنسان المرير،بما هذه الذكريات من آثار ومعالم وبقايا ،تبقى كلها مائلة في ذاكرة الروح المائتة . لقد سمي الموت الأبدي هذا في الكتاب المقدس بالموت الثاني. والسبب في هذه التسمية هو انه يمثل النهاية الأبدية نسبة إلى الموت الجسدي الذي يعتبر موتا أولا ،وموتا هو بداية نهاية الحياة والوجود.
تعتبر حالة الموت الثاني هذه نهاية لكل كائن بشري حي . أنها حالة حقيقة مرعبة مخيفة والموت الأبدي هو نقيض حالة العدم والفناء، في هذه الحالة يبقى الإنسان منفصلا عن الله فلا يرى وجهه ولا يبتهج ولا يرى حتى وجه أخيه لذلك يعيش شعور الوحدة إلى درجة أن هذه الوحدة تكون بالنسبة له جحيما لا يوصف .
وما سبب كل موت،سواء كان موت النفس أو موت الجسد إلاّ تعدّي الوصية . والحق أن الموت هو انفصال النفس عن الله النّاجم عن اتحادها بالخطيئة . هذا هو الموت الذي يجب على كل إنسان متعقّل أن يتجنبه هذا الموت المخيف فعلا ، انه لأفظع من جنهم النار لنزهد بكل الأمور وكل ما شأنه أن يبعدنا عن الله ويولّد ذلك الموت . من خشي ذلك الموت وحفظ نفسه منه لن يخشى موت الجسد لأن في داخله الحياة الحقة التي لا طائلة للموت الجسدي عليها .
كما أن الموت بكل معنى هو موت النفس ،كذلك إنما هي حياة النفس. وكما أن حياة الجسد هي اتحاده بالنفس،هكذا النفس اتحادها بالله .عندما تنفصل النفس عن الله بتعدّي الوصية تموت إلاّ إنها بطاعة الوصية تتحد بالله من جديد وبذلك الاتحاد تستعيد الحياة .
وما بعد الموت؟ ما من أحد يمكنه أن يفي هذا السؤال حقه ويجيب بما يرضي قلق الإنسان أمام الموت. بعض النصوص الكتابية تتطرق إلى هذا الموضوع بكل تحفظ حتى تكاد لا تعرف إلاّ القليل عما يخبئ لنا الموت . من هذه النصوص هناك بحسب الدارسين للكتاب المقدس مقطعين يتكلمان عن الحياة بعد الموت : اشعياء( 26: 19 ) : " تحيا أمواتك، تقوم الجثث، استيقظوا، يا سكان التراب. لأن طلك طلّ أعشاب والأرض تسقط الأخلية . " ودانيال (12: 2 ) : " وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدي. " وفي إنجيل متى (1.: 28 ) وإنجيل يوحنا (11: 25- 26 ) ورسالة إلى كولوسي( 3: 3- 4 ) .
في الحقيقة أن النصوص الكتابية تحذرنا من أي تصور خيالي ما بعد الموت . هناك خطر دائم في أن نلصق في الما بعد الموت ما نتمناه . أو أن نتصور واقعا لن يمكننا التحدث عنه لأنه ما من احد رآه . طبعا أن المفاهيم العادية ليست أهلا أن تساعدنا في تصور هذا العالم الآخر ولا في فهم حالة " الجسد الممجد" الذي يحدثنا عنه الرسول بولس الإلهي . ولا في إدراك معنى " السماوات الجديدة والأرض الجديدة" التي يعدنا بها سفر الرؤيا (21) . كل هذه الأمور لا علاقة لها بما نعرفه على الأرض أنها ستكون لنا مفاجأة عظيمة .
هناك كتاب (الحياة بعد الموت) لطبيب نفسي شاب من الويلات المتحدة يدعى ريموند مودي نشر سنة 1975 وينقل فيه تجارب شخصية لحوالي 15. شخصا مروا بالفعل بتجربة اللحظات الأولى من الموت ثم عادوا إلى الحياة . بالرغم من غرابة هذا الكتاب بالنسبة للكنسية المسيحية لا تندهش بهذا ،وهي متحفظة جدا تجاه هذه الاختبارات ،فهي تؤمن بوجود حياة بعد الموت ويستند هذا التأكيد على قول السيد المسيح : انا القيامة والحياة والذي يعيش ويؤمن بي لا يموت أبدا " ( يوحنا 11: 25 – 26 ) .
أن حياة الإنسان تستمر بعد الموت بقدر ما هي مرتبطة بالله، لذلك يقول السيد المسيح:" لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولا يقدرون أن يقتلوا النفس بل خافوا الذين يقتلون الجسد والنفس معا في جهنم " (متى1.: 28) .
إذا كان الأموات أحياء بعد الموت مع الله فلماذا لا يمكننا الاتصال بهم ؟ لماذا لا يستطيعون الظهور؟ ولماذا لا يمكننا أن نسمعهم ؟ . بكل بساطة لأن وجودهم يتجاوز حدود مكاننا وزماننا وهذا لا يعني إننا لا نؤمن باستمرارية الحياة بعد الموت، علينا أن نحتمل واقعنا الإنساني وحدوده .
الموت يلغي كل إمكانية لأية علاقة مع الغائبين عنا، لكن يوجد علاقة ممكنة وثابتة وقوية مع الأموات إنما هي التي تتم في الصلاة لأجل الراقدين ، إذ الكنيسة تشدد على وحدة المؤمنين الأحياء والراقدين ، فنحن والراقدون نشكل كنيسة واحدة، كنسية أحياء بالرب يسوع القائم من بين الأموات لأن إلهنا هو " اله الأحياء وليس اله الأموات، والكل عنده أحياء" (لوقا 2. – 28 ).
لذلك حدّدت الكنيسة طقوس الجنازة على مفهوم قياميّ مرتبط بقيامة الرب يسوع المسيح. " .. أيها المسيح، بقيامتك من بين الأموات لم يعد للموت سبيل لأن يسود على الراقدين… " من أهمية الإنسان ككل،نفسا وجسدا لا يحرق المسيحيون موتاهم، لأنهم يؤمنون بأنها ستقوم بمجد في اليوم الأخير .
لذا أصبح الموت لم يعد النهاية البائسة ولا مجرد وان يثوِ الإنسان في الرمس المظلم،لأن نور قيامة المسيح كشف عيوبه وأنار ظلمته وحل الإنسان من تمرده وأيضا الموت فقد سلطانه على الإنسان ، الإنسان الحي في الله لا يخضع في أعماقه للموت ولا للإحساس بالموت ، وحتى وهو يموت يشعر انه لا يموت ولن يموت .
لذا الموت الذي نموته بأي شكل وبأية صورة وفي أي وقت هو ربح طالما نعيش الآن للمسيح . لذلك أن استمرارية الحياة على الأرض ليست هي أبدية، كذلك الأمر بالنسبة لنهاية الحياة عليها ليست الأبدية. فكما أن السيد المسيح وهب الإنسان موتا، ربحا ومحبة له، حتى لا تعيش الخطيئة إلى الأبد ،هكذا وهبه القيامة به ليمنحه بواسطتها الحياة الأبدية . فصار مشتهّى للإنسان الذي يتوق إلى اللقاء السريع بربّه.