القديس باسيليوس الكبير: ولمع في فضاء الكنيسة في هذه الفترة من محنتها كوكب برّاق أنار سبيلها وبهر خصومها فزادها قوة وثباتاً. هو باسيليوس الكبادوكي أسقف قيصرية الجديدة ذو القداسة والطهارة والحكمة. ولد باسيليوس في 329 في قيصرية الجديدة في بلاد البونط من أبوين مسيحيين تقيين ونشأ في جو مشبع بالإيمان القويم والتضحية في سبيله. فإن جدته مكرينة كانت لا تزال حية تحضنه لتسمعه أخبار الاضطهاد الذي عم البونط في عهد ديوقليتيانوس يوم فرّت مع جده إلى الغابات المجاورة ليتخلصا من شر الحكام واضطهادهم.
وتلقى باسيليوس العلوم في قيصرية أولاً ثم في القسطنطينية على يد ليبانيوس الفيلسوف الأنطاكي فأثينا حيث رافق غريغوريوس النزينزي. فأضاف إلى شدة إيمانه قوة الحجة وفصاحة الكلام. وفي سنة 357 عاد إلى مسقط رأسه فأشار عليه رئيسه الروحي الأسقف افستاثيوس أن يرحل إلى سورية ومصر وما بين النهرين ليتفقد شؤون الرهبان والنساك فيها. فلما عاد إلى آسية الصغرى وكانت السنة 360 أنشأ على نهر ايريس بالقرب من قيصرية الجديدة ديراً للترهب على طريقة باخوميوس أصر في على الطاعة زيادة على الفقر والعفة.
وأصبح باسيليوس منذ سنة 360 قارئاً. وفي سنة 362 سامه افسابيوس القيصري كاهناً. ولدى وفاة افسابيوس سنة 370 أجمع المؤمنون على قداسة باسيليوس وثقافته وفصاحته وحنكته فأقامه القديس ملاتيوس الأنطاكي أسقفاً عليهم فخضعوا لرئاسته مختارين غير مكرهين. وفي شتاء 371-372 وصل والنس إلى قبدوقية في طريقه إلى أنطاكية. فأقام فيها مدة يسيرة حاول أثنائها تطبيق سياسته الدينية الجديدة ولكنه لمس في شخص باسيليوس من القداسة والجرأة والحنكة ما اضطره أن يعفَّ عن كنيسة قيصرية ورئيسها.
ومما يروى عن شجاعته وتفانيه في سبيل الإيمان القويم ما حفظه لنا القديس غريغوريوس النزينزي في عظاته. فقد جاء في العظة العشرين أن مودستوس برايفكتوس الشرق قال لباسيليوس: “وأنت لا تخشى سطوتي”، فأجابه القديس: “وأي شيء ينتظرني عندك؟ فإن لجأت إلى المصادرة فإنك لن تجد عندي سوى بعض الكتب وإن قلت بالنفي فإني غريب في هذا العالم أينما حللت، وإن أمرت بالتعذيب فإن هذا الجسد النحيل لن يلقى منك سوى ضربة واحدة. أما الموت فإنه سيعجل لقائي بالرب إلهي الذي من أجله أحيا وأتحرك ولأجله أصبحت نصف ميت وللقائه أتلهّف منذ أمد بعيد”. ومما قاله القديس غريغوريوس أيضاً أن والنس نفسه توجه يوم عيد العنصرة إلى كنيسة قيصرية وتقدم إلى المذبح بهدية فلم يتناولها منه أحد فارتعد وارتعش ثم قبلها الأسقف فلانت صلابة الأمبراطور وعامل باسيليوس معاملة طيبة. ثم أراد أن ينفيه فمرض ابنه الوحيد وأشرف على الموت فطلب الامبراطور إلى باسيليوس أن يصلي عليه فقبل شرط أن يُعمَّد الولد عمادة أرثوذكسية، فتعافى الولد. ثم عمّده أسقف آريوسي فمات حالاً. فغضب الامبراطور وأخذ القلم ليأمر بنفي باسيليوس فانكسر، فبراه، فانكسر، وهكذا للمرة الثالثة، فارتجف الأمبراطور ومزق الصك.
كنيسة أنطاكية أعظم الكنائس: وهال باسيليوس أمر الإنشقاق في كنيسة أنطاكية وإبعاد ملاتيوس رئيسها الشرعي وخروج بفلينوس الأرثوذكسي على هذا الراعي الجليل واعتراف اثناثيوس الكبير باسقفية بفلينوس وتعاونه معه. ورأى في انشقاق أم الكنائس علة العلل فقال قوله المأثور: “وهل هنالك أعظم من أنطاكية بين كنائس المسكونة! فإذا ما ساد التفاهم فيها عاد الوفاق والوئام إلى غيرها”. وأخذ باسيليوس يسعى لحل المشكلة الأنطاكية منذ بداءة عهده في الأسقفية فكتب إلى اثناثيوس يحثه على مفاوضة دماوس أسقف رومة ليُرسل إلى الشرق من يتحلى بدماثة الخلق والمقدرة على المفاوضة والإقناع فينقل جميع القرارات التي اتخذت في الغرب بعد مجمع ريميني فمحت أثر العنف وتغلبت على الشقاق فأعدت الوفاق والوئام.
وأضاف باسيليوس راجياً أن يتيسر لدى الزملاء الغربيين أمر الاعتراف بشرعية انتخاب ملاتيوس والحكم على ماركلوس أسقف أنقيرة. فرحَّب اثناثيوس باقتراح باسيلوس وأفاده بذلك. فهبّ باسيليوس لساعته يفاوض ملاتيوس في الأمر. ثم كتب إلى دماسوس أسقف رومة يرجو تدخله في الشرق بإيفاد من يتمكن من جمع الشمل وأحياء المحبة بين كنائس الله وكشف اللثام عن المفسدين فيعرف من يستحق الدخول في الشركة. ووكل باسيليوس أمر القيام بنقل هذه الرسالة وتوضيحها إلى دوروثاوس أحد شمامسة ملاتيوس الأنطاكي.
ووافق وصول دوروثاوس إلى الإسكندرية مجيء سبينوس شماس ميلان حاملاً رسالة سلامية من المجمع المحلي الذي عُقد في روما سنة 368 تجدد القول بدستور نيقية. فاطلع اثناثيوس على الرسالة ونصح إلى سبينوس أن يقوم بها إلي قيصرية الجديدة. فسُرَّ باسيليوس بقدوم الرسول الروماني وكتب رسائل إلى الغربيين عموماً ثم حرر بالإشتراك مع ملاتيوس الأنطاكي وافسابيوس السميساطي وغريغوريوس النزينزي (الأب) وافستاثيوس السبسطي وغيرهم من أساقفة الشرق رسالة إلى أساقفة إيطالية وغالية يوضح فيها حالة الكنائس الشرقية المحزنة ويرجو تدخل أساقفة الغرب لإنقاذ الموقف. وعاد سبينوس إلى رومة حاملاً هذه الرسائل. وتوفي اثناثيوس الاسكندري وخلفه أخوه بطرس. وقضت ظروف مصر بقيام بطرس إلى رومة. فلما وصل إليها بحث الوضع الراهن في أنطاكية فاعتبر ملاتيوس خارجاً عن الإيمان القويم مغتصباً وأوصى ببتفلينوس أسقفاً شرعياً على أنطاكية. وفي صيف 374 أمَّ قيصرية افاغريوس الكاهن الأنطاكي عائداً من رومة حاملاً نصاً معيناً موجباً توقيعه بحروفه دون أي تغيير مُصراً على قيام وفد من كبار الأساقفة إلى روما للمفاوضة. فأحجم باسيليوس وزملائه عن القبول وأوضحوا السبب في ذلك فقام افاغريوس إلى أنطاكية واشترك في الذبيحة الإلهية مع بفلينوس.
على أكثر من هذا، فإن والنس عاد إلى التشديد والتضييق فأمر بخلع عدد من الأساقفة الأرثوذكسيين ونفيهم. ولكن باسيليوس وطَّن نفسه على الصبر فتلقى هذه الأمور جميعها بسعة صدر وثبات وعاد إلى مفاوضة الغرب فكتب ثانية في سنة 375 كتاباً مؤثراً مبيناً ما قاساه الشرق من تصلف الآريوسيين واستئثارهم بالسلطة مؤكداً صعوبة انتقال الأساقفة الشرقيين إلى الغرب راجياً الإصغاء إلى دوروثاوس لفهم الموقف في الشرق.
ولكن التفاهم بين الشرق والغرب كان قد بدأ يبدو صعباً لاختلاف التعبير وكثرة الهموم وتنوعها. وما كاد باسيليوس ينتهي من وضع رسالته هذه ودفعها إلى دوروثاوس حتى علم باعتراف دماسوس أسقف رومة بيفلينوس أسقفاً على أنطاكية. وعاد دوروثاوس حاملاً جواب دماسوس وفيه يستنكر أسقف رومة أخطاء ماركلوس وأبوليناريوس ويوضح دستور الإيمان الواجب القبول والإتباع ولكنه يتجنب الكلام في وحدة الجوهر. فاستأنس باسيليوس بهذا الجواب وكتب في ربيع 377 يشكر لأساقفة الغرب اهتمامهم ويرجو زيارة كنائس الشرق لتعزية المضطهدين وتقوية الضعفاء. ثم يشير إلى خطر جديد مداهم فيرى في افستاثيوس سبسطية وأبوليناريوس اللاذقية وأتباعهما ذئاباً بلباس الحملان تندس بين الصفوف لتمزق الكنيسة تمزيقاً. ويتهم بفلينوس بهرطقة ماركلوس وبالتسرع في القبول بالشركة. وحمل دوروثاوس هذه الرسالة وأسرع إلى رومة فصادف اجتماع الأساقفة في مجمع محلي. فتُليت الرسالة على الأساقفة فتهجم بطرس الإسكندري على ملاتيوس الأنطاكي وأفسابيوس السميساطي فاضطر دوروثاوس أن يرد على هذا التهجم رداً شديداً. ثم حمل جواب الأساقفة إلى باسيليوس وفيه شيء من التعزية. ولكن رومة ظلت تعترف ببفلينوس
د. اسد رستم