من تاريخ الكرسي الأنطاكي المجيد
طرح مرة كاهن فرنسي مسألة القوانين الرهبانية فقال: “القانون كان صنعة سوريا لا صنعة مصر”.
كانت مدرسة بيروت الحقوقية أشهر مدرسة في الإمبراطورية الرومانية ثم الإمبراطورية البيزنطية. لما شاء الإمبراطور يوستينيانوس الكبير في العام 529 أن يُصدر مجموعة قانونية تامّة استدعى أساتذة بيروت ليكونوا رؤساء لجان جميعاً.
هذا العقل الحقوقي المدبِّر ظهر في إدارة الكنيسة في بلادنا. فالقديس إغناطيوس الأنطاكي هو أول من أعلمنا بالفصل التام بين الرتب الكنسية أي الأسقف، الكاهن والشماس. ولمّا توسّعت رقعة الكرسي الأنطاكي شرَّع المجمع المقدس تنظيماً يؤمن حسن الرعاية.
القديس أنستاسيوس بطريرك أنطاكية في النصف الثاني من القرن الثالث كان ألمع رجال الكنيسة. في 565 وقف في وجه الإمبراطور المذكور أعلاه لمنعه من نشر هرطقة، فكان قُبلة الدنيا شرقاً وغرباً. والأمر هو أن جوليوس ألياكرناسس ( Halicarnassus) المصري طلع بهرطقة تقول إن طبيعة المسيح الجسدية غير فاسدة. فقاومه في مصر الأرثوذكس والأقباط، إلا أن أسقفاً فلسطينياً اندسّ على الإمبراطور فلقَّنه هذه الهرطقة. جمع البطريرك المطارنة والأساقفة فكانوا 153 وقرروا الاستقالة جماعياً ليتخلصوا من ضغط الإمبراطور على الأساقفة فيبقى قراره غير قابل للتنفيذ، فضلاً عن سيرة العالم المسيحي وراءه في هذه الانتفاضة البارعة. أخذ اللهُ الإمبراطور فنجونا (راجع الصفحة 154 من كتابنا “سر التدبير الإلهي”).
نظرية عدم الفساد تعني أن يسوع ما اتخذ طبيعتنا الساقطة. في الرسالة إلى العبرانيين (4: 15) يسوع صار مثلنا في كل شيء ما عدا الخطيئة، أي أنه قابل “للموت والآلام وسائر الأعراض ما عدا الخطيئة، وذلك لكي يشفي ويخلِّص طبيعتنا الساقطة (غريغوريوس اللاهوتي وكيرللس الإسكندري). في زمان هذا البطريرك العظيم كان الكرسي الأنطاكي يُدار من قِبَل البطريرك وعدد من المطارنة وعدد كبير من الأساقفة. واستمرت هذه القاعدة الحقوقية دهوراً بعده. في كتيبي (موجز التاريخ الأبيض للكنيسة الأنطاكية) ذكرت هذا التنظيم البارع خلال حقبة طويلة من التاريخ[1].
في هذا الزمان لدينا مطرانيات واسعة الانتشار مثل نيويورك والبرازيل وعكار وجبل لبنان وطرابلس ودمشق نفسها و… والأفضل إداراياً، في هذا الزمان، أن يستعين المطارنة بالأساقفة لا أن يُزاد عدد المطارنة فتضعف قبضة المجمع على الكنيسة. كل مطران ينحصر في أبرشيته مع أساقفته، فيسيطر على الإدراة من جهة ويؤمن الخدمات للرعية. ولكن هل نستطيع أن نؤمِّن العدد اللازم من الأساقفة الجيدين المطيعين المتواضعين الأتقياء الورعين ليعيشوا مع مطرانهم بسلام وتقوى؟
فأبرشية البرازيل مثلاً ذات مساحة شاسعة والمؤمنون فيها موزَّعون. فمن يستطيع ضمّهم في بوتقة واحدة بدون عدد وافر من الأساقفة؟
المغبوط المطران بولس بندلي شعر بالإرهاق فطلب انتخاب أسقفين مساعدَين. خليفته صاحب السيادة باسيليوس طلب أسقفاً ثالثاً، فكان أمر.
أبرشية جبل لبنان مثلاً تحتاج إلى عدد وافٍ من الأساقفة. أبرشية دمشق تحتاج إلى عدد وافٍ من الأساقفة وعشرات الكهنة الجيدين، وهكذا دوااليك. طبعاً أنا أعرف أن التربية الروحية في الكرسي الأنطاكي تحتاج إلى روحانية جبل آثوس وروحانية الفيلوكاليا، وإلا فشل النظام الأسقفي نسبياً.
المطلوب في الأسقف الممتاز أن يكون في خطى فمّ الذهب البارع في الخطابة ونموذج التواضع والوداعة وبذل الذات في خدمة الرعية.
الأسقفية صليب. الأسقف الحقيقي مصلوب في الجلجلة مع يسوعه.
ليست الأسقفية وجاهة بل خدمة. كلما كانت الأسقفية صغيرة هانَ أمر العناية بالمؤمنين.
في الوضع الحاضر لا يستطيع المطران أن يصل إلى كل عضوٍ في الكنيسة والعكس. كان المغبوط ألكسي عبد الكريم، مطران حمص، نموذج الراعي العامل. ولكنه كان مرهقاً جداً، لا ينام إلا ساعات قليلة. طبعاً لا يسمح الشيطان بأن تسير الأمور جيداً بدقة. ولذا فالتربية الإكليريكية كفيلة بتجويد العناصر وتقويمها في حسن العبادة.
لا شك أننا قد قطعنا مسافة ما في طريق التجويد ولكن لا بد من خطوات أخرى أوسع بكثير. جعل الله كنيستنا جديرة بماضيها المجيد وأعاد إلينا أشباهاً ليوحنا فم الذهب ومكسيموس ويوحنا الدمشقي ورومانوس الحمصي وأفرام وسواهم.
الأربعاء نصف الخمسين
29/5/2013
الشماس اسبيرو جبور
[1] – في العام 1145 كان في الكرسي الأنطاكي 171 مطراناً وأسقفاً. وفي أواسط القرن 17 كان عدد أبرشياتنا 14 وقد اختفت منه المصيصة وبومبيوبوليس الواردتين في لائحة العشر: أي 6 أبرشيات علاوة على لائحة العشر (رستم 3: 60-62). في مجمع العام 565 حضر 153 أسقفاً (راجع الآراء المتضاربة في ص 154 من كتابنا “سر التدبير الإلهي”). ديفريس (Devres) نظم لائحة للكرسي الأنطاكي في القرون 4-7 للميلاد. حذف منها فلسطين، و8 أسقفيات ما ورد ذكرهن إلا في مجمعَي نيقية وأنطاكية. بلغ عدد المطارنة والأساقفة 138 (ص 305 – 306 من كتابه في تاريخ الكرسي الأنطاكي بالفرنسية).