كتابياً:
يعلم الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد أن الله خلق الإنسان من البداية حر الإرادة والقرار، له كامل السلطة والسيادة، فله أن يحكم نفسه بنفسه وهو سيد قراراته واختياراته. يتضح هذا من الوصية المُعطاة من قبل الله لآدم مرفقاً إياها بالوعد بالملكوت من جهة وبالوعيد والعقاب من جهةٍ أخرى[1]. فال"الوعد" و"الوعيد" أي مبدأ "الثواب والعقاب"يفترض حرية ومسؤولية. المحروم من حريته ولا يمتلك حرية قرار لا يُعطى وعداً ولا يرضى بالوعيد والتهديد، لأنه بحال النجاح لا يستحق المكافأة وفي حال الفشل ليس مسؤولاً ولا يستحق العقاب. فللإنسان حرية اختيار ما يريد وعلى هذا الاختيار تترتب مسؤولية، لهذا لم يقل الله لآدم: "موتاً أميتك" بل قال له: "موتاً تموت" (تك17:2)، أي: أنت ستكون قد اخترت موتك، وعلى هذا الأساس ستتحمل مسؤولية اختيارك هذا[2]. يؤكد سفر التثنية على أنه يعود للإنسان أن يختار بين البركة واللعنة: "انظر اليوم أنا واضع أمامكم بركة ولعنة، البركة إذا سمعتم لوصايا الرب إلهكم… واللعنة إذا لم تسمعوا لوصايا الرب إلهكم وزغتم عن الطريق الذي أنا أوصيتكم بها…" (تث26:11-28). كما يعود له الاختيار بين الموت والحياة وبين الخير والشر " وتقول هذا للشعب، هكذا قال الرب: هاأنا أجعل أمامكم طريق الحياة وطريق الموت، الذي يقيم في المدينة يموت بالسيف…والذي يخرج إلى الكلدانيين ..يحيا وتصير نفسه له غنيمةً" (أر8:21)[3]. ونجد أن يشوع بن سيراخ يرفض حجج منكري الحرية، مؤكداً على أن الله ترك للإنسان منذ خلقه أن يختار بكامل حريته ما يريد فيقول: "هو صنع الإنسان في البدء وتركه يستشير نفسه، فإن شئت وحفظت الوصايا وأتممت ما يرضيه بأمانة وضع أمامك النار والماء فتمد يدك إلى ما شئت " (سيراخ13:15-16)[4]، ويقول الله على لسان أشعياء النبي: " إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض، وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف لأن فم الرب تكلم" (أش19:1-20)[5]. وهكذا نجد كيف أن العهد القديم مبني على إيمانٍ راسخٍ بإرادة الإنسان الحرة في كل أعماله ومواقفه وقراراته وأقواله.
في حين يشدد العهد القديم على إرادة الإنسان الحرة في اختياره، نجد أن العهد الجديد يسمو بتأكيد هذه الحرية إلى حدّ ترك له حرية اعتماد الخلاص أو عدم اعتماده، ترك له أن يخالف المشيئة الإلهية وهذا يظهر في كلام المخلص نفسه، إذ يقول: " يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرةٍ أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا" (متى37:23، لو34:13)[6]، إلا أن هذا الاختيار يستوجب مسؤولية: "هو ذا بيتكم يترك لكم خراباً" (متى38:23، لو34:13) فلا يمكن لنا أن نفهم الحرية البشرية دون مسؤولية، بالتالي لن تكن حرية وتفقد كل معناها سواء أ كان أخلاقياً أم خلاصياً. ونجد في موضعٍ آخر أن يعقوب الرسول يحتج بشدةٍ على هؤلاء الذين يلقون المسؤولية على عاتق الله[7]. ويقول بطرس الرسول مشيراً إلى إرادة الإنسان الحرة في الاختيار: "لأن من أراد أن يحب الحياة ويرى أياماً صالحة فليكفف لسانه عن الشر وشفتيه أن تتكلما بالمكر" (1بط10:3). إلا أن المفهوم الكتابي للحرية البشرية لا يقوم فقط على إمكانية الاختيار بين أمرين أو طريقين، بل يقوم أيضاً على إمكانية تحقيق الإنسان لذاته والوصول إلى كمال كيانه[8]. الإنسان كائن مرتبط بالكون وبالآخرين وبالله، والإنسان الحر هو الذي يسعى أن يحقق في ذاته تلك القوة التي فُطر عليها وذلك بأن يكون على مثال الله الذي خلقه حراً ليصل بملء حريته إلى تحقيق كمال ذاته. لما ملكت الخطيئة في العالم، واستُعبد لها الإنسان، أتى يسوع المسيح ليحررنا من عبوديتنا ويعيدنا إلى الحرية التي فُطرنا عليها، هذا ما يؤكده السيد في إنجيل يوحنا بقوله: "إن ثبتم في كلامي فتكونون تلاميذي..وتعرفون الحق والحق يحرركم،……فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً" (يو31:8-32،38)، ويقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية : " لإ اثبتوا إذاً في الحرية التي حررنا المسيح بها ولا ترتبكوا أيضاً بنير عبوديةٍ" (غلا1:5). تكمن هذه الحرية في الإنسان كونه خُلق على صورة الله (تك26:1)، هذا ما سنتكلم عنه في المفهوم الآبائي لحرية الإنسان.
آبائياً:
انطلق معظم آباء الكنيسة في إيضاحهم لمفهوم الحرية البشرية بدءاً من مفهومهم للصورة الإلهية التي خُلق عليها الإنسان. فعندما يتحدث القديس غريغوريوس النيصصي عن الصورة في صيرورتها، أي، بعد السقوط، يرى أن خاصية الإنسان كمخلوق على صورة الله تكمن في كونه "متحرراً من الضرورة، وغير خاضع لسلطان الطبيعة، بل يقدر أن يتخذ قراراته بحريةٍ بناءاً على تميزه"[9]. يتفق النيصصي بهذا مع مفهوم "حرية الاختيار" الوارد في العظات الروحية المنسوبة للقديس مكاريوس المصري والتي يؤكد فيها على أن هذه المِلكة المزروعة في الإنسان المخلوق على صورة الله لا تستطيع الخطيئة أن تدمرها، ولهذا تماماً نحن نمتلكها بعد السقوط[10]. ويقول القديس مكسيموس المعترف: "إذا كان الإنسان صورة الطبيعة الإلهية، وإذا كانت الطبيعة الإلهية حرة، فالصورة هي أيضاً كذلك"[11]، إلا أنه يفهم "حرية الاختيار" على أنها نقص بحدّ ذاتها، وتحديد للحرية الحقيقية "حرية أبناء الله". وذلك لآن الطبيعة الكاملة لا حاجة لها أن تختار، لأنها تتعرف الخير طبيعياً وبالتالي حريتها قائمة على هذه المعرفة. فاختيارنا الحر، بحسب القديس مكسيموس، دليل على نقص في الطبيعة البشرية الساقطة، وبما أن هذه الطبيعة تغشاها الخطيئة، وبما أنها لا تعرف الخير الحقيقي وتميل غالباً لما هو مخالف للإرادة الإلهية، فالشخص يجد نفسه دائماً بحيرة في الارتقاء نحو الخير، هذه الحيرة تستوجب ضرورة الاختيار[12]. ضرورة الاختيار هذه لا تناقض مفهوم القديسين النيصصي ومكاريوس حول نظرتهم لتحرر الإنسان من الضرورة، لأنه وفي كلا المفهومين حرية الاختيار موجودة ضمناً. إلا أنها بحسب القديس مكسيموس لم تكن ضرورية قبل السقوط حيث الإنسان عرِف الخير طبيعياً، بينما أضحى ضرورةً بعد السقوط عندما أظلمت الصورة الإلهية في الإنسان. لكن عدم ضرورتها لا ينفي عدم وجودها في إنسان قبل السقوط، واستعمالها من قبل الجدين الأولين أكبر دليل على ذلك. يقول القديس غريغوريوس بالاماس مؤكداً على ما سبق: "أما نيران الجحيم فقد وضعت للشيطان لا للإنسان وإنما بملء حرية البشر يختاروا أن يسكنوا في الجحيم مع الشياطين،…والله ترك للإنسان حرية الاختيار بين الحياة والموت"[13]، ويقول القديس باسيليوس الكبير في هذا الصدد: "الله ليس مسبباً لعذابات الجحيم، بل نحن أنفسنا، لآن أصل الخطيئة وجذرها كائنان في حريتنا وإرادتنا"[14]. هكذا، وبحسب المفهوم الآبائي، فإن ما فينا على صورة الله يقدر أن يجرنا نحو الهاوية كما يقدر أن يجرنا نحو التأله، ويبقى الإنسان حراً في أن يختار ويبتعد عن الله أو أن يعود مجدداً إليه. بدون الحرية لا توجد خطيئة، ولكن بدون حرية لا يقدر لإنسان أن يكون على صورة الله. فالحرية هي قدر الإنسان الذي لا يخضع لقدرٍ محتوم، بدونها لن يقدر الإنسان في الدخول في شركة محبة مع الله، لأن المحبة لا تحيا إلا بوجود جو من حرية الطرفين، فلا إكراه في المحبة وإلا صارت عبودية. الله أراد أن يحبه الإنسان بمل جوارحه وكيانه ولكن بنفس الوقت بملء إرادته وحريته، والله كما يقول بول إفدوكيموف: "يستطيع أن يفعل أي شيء ما عدا إكراهنا على محبته"[15]، أكرمنا الله بهذه الحرية والتي بحسب القديس يوحنا الدمشقي " كامنة على الإطلاق بالفطرة في كل خليقة عاقلة……وفي النهاية ما نفع العقل لطبيعة لا تفكر بحرية"[16].
[1] راجع تك15:2-17.
[2] مختارات أفريتينوس، كيف نحيا مع الله، ترجمة الأب اسحق عطا الله، الجزء الثالث، الطبعة الثانية، منشورات التراث الآبائي، بيروت، 1991، ص23.
[3] راجع تث15:30-18.
[4] مجموعة من الباحثين، معجم اللاهوت الكتابي، المرجع السابق، ص189.
[5] راجع مز14:34، 27:37، عا15:5.
[6] راجع متى17:19،21.
[7] يع13:1-14.
[8] بسترس، سليم (الأب)، المرجع السابق، ص173.
[9] لوسكي، فلاديمير، المرجع السابق، ص99.
[10] المرجع نفسه، ص96.
[11] طرابلسي، عدنان، المرجع السابق، ص108.
[12] لوسكي، فلاديمير، المرجع السابق، ص104.
[13] طرابلسي، عدنان، المرجع السابق، ص110.
[14] المرجع نفسه، ص146.
[15] Ware, Kallistos (f), The
[16] آلن، جوزف، الطريق الداخلي. نحو بعث للتوجيه الروحي المشرقي، تعريب الأب ابراهيم سروج، المنشورات الأرثوذكسية، طرابلس، 1997، ص72.