الأَيقونات
بقلم المعلم الانطاكي
الشماس اسبيرو جبور
في 16تشرين الأوَّل 2011 كان عيدُ المجمع السابع المسكوني الذي قرَّرَ إِكرامَ الأَيقونات. المجامع السبعة المسكونيَّةِ الأُولى هي دعامةٌ كُبرى للإِيمانِ المسيحي في الغربِ والشرق. هذا المجمع حيَّدَ المجامعَ السابقة وإعترفَ بها ولذلك فالمجامع السبعة هي مجامعٌ قانونيَّة لدى روما والكنائس الشرقيَّة، وهي الى حدٍّ بعيد الَّتي وضَعَت الخطوط الرئيسيَّة للإِيمان المسيحي، وثبَّتَت عقيدة الثالوث القدُّوس وعقيدةِ التجسُّد الإِلهي بتفرُّعاتِها، أَي أَنَّ يسوع أقنومٌ واحدٌ في طبيعتَين ومشيئتَين وفِعلَين. كما أَنَّها ثبَّتَت إِكرام الأَيقونات الَّذي هو جِزءٌ أَساسيٌّ في عقيدةِ التجسُّدِ الإِلهي كما سنَرى.
والكنيسةُ تحمَّلَت كثيراً في سبيلِ إِنجاح هذا المجمع الذي شاهَدَ مُقاوماتٍ عنيفة وشديدة ومؤامراتٍ عديدة إِلَّا أَنَّها إِنتصرَت في المجمع السابع المسكوني في العام 787 وفي العام 843 خُتِمَت الحرب على الأَيقونات. كان قد اعْتَلَ عرشَ روما بطريركان سورِيَّان وهُما غريغوريوس الثاني وغريغوريوس الثالث وأَيَّدا الأَيقونات تأييداً حاسِماً. نشَأَت حربُ الأَيقونات في دمشق في العام 723. الدكتور رُستم يُراوِح بين يهودِيِّين المسؤوليَّة عن هذهِ الحرب. اليهودِيُّ كانَ إِمَّا من الَّلاذقيَّة وإِمَّا من طبرَيَّا والأرَجح أَن يكونَ من طبَرَيَّا لأَنَّ طبريَّا كانت في القرن الثامن المركز اليهودي العالمي للعلوم اليهودِيَّة وللحاخامينَ الكِبار وكانت تُرسِل عناصِرَها الى هنا وهناك. إِندسَّ يهودِيٌّ على يزيد إِبنْ عبد الملك وقال له إِنَّهُ قرأَ في التَوراة أَنَّ عُمرَهُ سيَطول إِن حطَّمَ الأَيقونات لأَنَّ المسيحيِّين يعبِدونَ بها الأَصنام. وكانَ يزيد إِبنْ عبد الملك خَلَفَ إِبْنَ عَمِّهِ عُمَر إِبْن عبد العزيز في الخِلافة، وكان عُمَر إِبْنُ عبد العزيز قد تولَّى الخِلافة بعدَ إبْن عمِّهِ سُليمان إِبن عبد الملك. في الأَساس كان مروان إِبْنُ الحكَم قد كتبَ الخِلافة لولدَيهِ عبدُ الملك وعبدُ العزيز ولكنَّ عبدُ الملِك حصَرَها لأَولادِهِ وحَرَمَ منها أَولادَ عمِّهِ. إلَّا أَنَّ قارِئاً يُسَمَّى إبن حياة أَقنَعَ سُليمان إِبن عبد الملك على فِراش الموت لِأَن يكتُبَ الخِلافة لإِبن عمِّه عُمَر إِبن عبد العزيز الوَفي التَّقي بينما يَزيدٌ خليعٌ سِكِّيرٌ فَكَتَبَها، فتَوَلَّى الخِلافة عُمَر إِبْن عبد العزيز فكانَ رجُلاً فاضلاً وصديقاً حميماً للقدِّيس يوحنا الدِمشقي. في كتابي “سمعان العامودي” لائحة بمراجعٍ عديدة تَذكُر أَنَّ عمر إِبْن عبد العزيز ماتَ في دير مار سمعان العامودي في معرَّة النُعمان. وفي كتابِ عمر إِبْن عبد العزيز الدليل القاطع أَنَّهُ كان صديقاً ليوحنا الدمشقي وللرُهبان وماتَ في الدير ودُفِنَ في الدَير. كاتب تاريخ معرَّة النُعمان سليم الجندي ذكرَ أَنَّ عمر إِبْن عبد العزيز دُفِنَ في دير مار سمعان في المعرَّة وهذا هو الرأيُ الأَرجَح جِداً وما زال قبرُهُ في معرَّة النُعمان. ولذلك لا صِحَّةَ للأَقوال الَّتي زَعَمَت بأنَّ يوحنا الدمشقي اخْتَلَفَ مع عُمَر إِبْن عبد العزيز. ولكن عمر إِبْن عبد العزيز لم يكن ذا علاقات جيِّدَة مع اليهود. فاليهود هم الذين دَسُّوا هذه الأَنباء والمستشرقونَ اليهود غالباً هُمْ الَّذين دَسُّوا الأَنباء ضد عُمَر إِبْن عبد العزيز ونَسَبوا إلَيهِ ما نَسَبَ الى جدِّهِ عُمَر بن الخطَّاب من تدابيرٍ ضدَّ المسيحيِّين. فلا عُمَر إِبْن الخطَّاب ولا عُمَر إِبْن عبد العزيز أَخَذوا هذه التدابير ضدَّ المسيحيِّين، هي مزوِّرات لاحقة. في كتاب عمر إِبْن عبد العزيز “الخليفة العادل” أَثبَتَت كِذِب هذه الأَنباء جميعاً.
بدأت المعركة في دمشق. يوحنا الدمشقي كان قد ترَكَ دمشق غالباً في عهد يزيد إِبن عبد الملِك. وفي آخر ما طالَعتُ عن هشام إِبْن عبد الملك أَنَّهُ كانَ صديقاً كبيراً لليهود، والكِتابات اليهوديَّة تُعَزِّزُهُ كثيراً جداً. ولذلك ذَكَرْتُ أَنَّ شهرَ العسل بين آل الدِمشقي والأُمَوِيِّين زادَ مع اضْطِّهادِ الأَيقونات. نُفِيَ ثيودوروس أَخو يوحنا الدِمشقي في عهدِ هشام، الى عُمْقِ بادِيَة الشام وأَتى يوحنا من دير مار سابا في فلسطين الى دمشق وأَخَذَ معه استيفانوس إِبن ثيودورس ورَهَّبَهُ معَهُ وربَّاه على يَدَيْه فصارَ مِثلَهُ مُرَنِّماً كبيراً.
ويهودِيٌّ آخر وقَفَ وراءَ الحرب في القسطنطينيَّة في العام 626 في عهدِ الأَمبراطور لاون، وهذا ما أَثبَتُّهُ ايضاً في كتاباتي عن المجمع السابع وعن الأَيقونات في محاضرةٍ أَلقَيتُها في 20 تشرين الأَوَّل في دمشق أَثناء الإِحتفال بمرور 12قرناً على انعقاد المجمع السابع المسكوني أَي في العام 1987 والَّذي نظّمته وزارة الإِعلام السوريَّة.
خضَعَ الموضوع في القُسطنطينيَّة لإِصلاحاتٍ قانونيَّة وإِصلاحاتٍ إِقتصاديَّة. سُرِقَت الأَديرَة ونُهِبَت الأَديرَة وحُرِقَت الأَيقونات وحُطِّمَت الأَيقونات وفضَّلَ يوحنا الدِمشقي الدِّفاعِ عن الأَيقونات وهو في دَير مار سابا. ولذلك فقصَّة قطعَ يدِهِ غير واردَة لأَنَّهُ كانَ قد غادَرَ القصر قبل اندلاعِ الحرب في القسطنطينيَّة في العام 726. يوحنا الدِمَشقي سليلُ بيتٍ عَريق أَصلُهُ عربي ولكِنَّهُ ليسَ من بَني تَغلِب كما يقول البعض، فَبَني تَغلِب كانوا أَصحاب الطبيعة الواحدة. هوَ ليسَ من تَغلِب بَلْ دِمَشقي وأَبوه وربَّما جدَّهُ وجد جدّه أُرثوذكس أَصحاح. جَدُّهُ وقَفَ ضدَّ الملك هِرَقِل في عقيدةِ الإِنسانُ الواحد والمشيئة الواحدة. ويوحنا الدِمشقي دافعَ عن الإِيمان الأُرثوذكسي بِقوَّةٍ جبَّارَة وما زالت كتاباتُهُ حتى اليوم هي المرجع الأَساسي في الدِّفاع عن الأَيقونات، وكتابُهُ “في الإِيمان الأُرثوذكسي” مَرجعٌ لاهوتي رقم واحد. هوَ ليسَ من بني تَغلِب ولا نعرف إِسْم قبيلتهُ العربيَّة لأَنَّهُ أُرثوذكسِيٌّ وما كانَ من أَصحاب الطبيعة الواحدة ولا من أَصحاب المشيئة الواحدة.
المجمع السابع أَخَذَ بتعليمِ يوحنا الدِمشقي ووَرَدَ فيهِ بطاركَةُ الإِسكندريَّة وأَنطاكيا وأُورَشليم كَمُمَثِّلين لتعليم يوحنا الدمشقي ووافقوا في المجمع بِتَبَنِّي المجمَع صيغَتَهُ في إِكرامِ الأَيقونات. لم يَقْبَل المجمع صيغَة رئيسِ المجمَع بطريرك القسطنطينيَّة، وهذا دليل ٌكبيرٌ على أَنَّ الَّلاهوتَ المسيحي الأُرثوذكسي الكاثوليكي كانَ في سوريا لا في القُسطنطينيَّة. سوريا هي التي تولَّتْ زعامة الَّلاهوت بعد كيرِلُّوس الإِسكندري وظَهَرَ المشاهيرُ في بلادِنا، فمكسيموس المعترِف ويوحنا الدِمَشقي أَشهرَ من نارٍ على عَلَم في العالميَن الأُرثوذكسي والكاثوليكي.
ما هو المنطَلَق في عقيدةِ إِكرام الأَيقونات؟ المنديل الشريف مشهور. هناكَ مَن اعترَض على قِدَمِهِ وصِحَّة نِسبَتِهِ الى وجهِ يسوعَ المسيح. إِن صَحَّ هذا أَو إِن لم يَصُحّ فالمنديل قديمٌ جداً. التواريخ تقول على أَنَّ الرب يسوع المسيح أَرْسَلَهُ مع رسالة الى مَلِك الرُعَى الأَبجر، والرُعَى مدينةٌ في شمالِ سوريا الحاليَّة في الأَرض الَّتي اغتَصَبَتْها تركيا من سوريا وهيَ مدينةٌ مشهورةٌ في التاريخِ القديم. المنديل قديم وهو دليلٌ قديم على أَنَّ الأَيقونات اسْتُعمِلَت في التاريخ. لا أُجاهِد في صِحَّة تاريخِه ولا في موقعه، يبقى هذا لمراجعِ البحث لا للمقالات ولَكِنَّهُ قديمٌ جداً.
أَخذَت الحرب على الأَيقونات طابِعاً عقائدِيّاً. الأُرثوذكس قالوا إِنَّنا لا نسجُد للخشب والأَلوان بل نسجُد للشخص المرسوم على الأَيقونات. هذا الكلام ينتَسِب الى باسيليوس الكبير. فإِذن الإِحترام يعودُ الى الشخص. وذكرَ المؤَيِّدون أَنَّ التجسُّدَ الإِلهي يَسمح بِرَسم صُوَر لربِّنا يسوعَ المسيح لأَنَّهُ تجسَّدَ وصارَ إِنساناً وصارَ من الممكن أَن نُصَوِّرُهُ. لا نستطيع تصوير الثالوث القدُّوس الَّذي لا تستطيع الملائكة أَن تُعايِنَهُ ولا أَجناسُ البشر أَن تَنظُرَهُ، ولَكِن نستطيع أَن نُصَوِّر الرب يسوعَ المسيح الَّذي تجسَّدَ وصارَ إِنساناً. ولذلك ربطَ المؤمنون الأَيقونات بالتجسُّد الإِلهي.
الخُصوم قالوا إِن سَجَدْنا للأَيقونة لمن نَسجُدْ؟ هل نَسجُدْ للطبيعة البشريَّة؟ أَنكونُ من أَصحابِ الطبيعة الواحدة البشريَّة؟ هل نَسجُد للطبيعة الإِلهيَّة الغيرُ المنظورة فَنَكون من أَصحابِ الطبيعة الواحدة الإِلهيَّة؟ وهكذا ربَطوا البَحثَ بِعقيدةِ الطبيعتَين وفي الحالتَين إِتَّهَمونا بأَنَّنا من أَصحابِ الطبيعة الواحدة. نحنُ لسنا من أَصحابِ الطبيعة الواحدة، نحنُ نسجدُ لِشخصِ صاحبِ الأَيقونة. نرسُم أَيقونة لِرَبِّنا يسوعَ المسيح فَنَسجُد للشخص ربِّنا يسوعَ المسيح. والأَيقونة ليسَت شخصُ ربِّنا يسوعَ المسيح. شخصُ ربِّنا يسوعَ المسيح هو الأُقنومُ الثاني من الثالوث القدُّوس المتجسِّد، وهو الأُقنومُ الثاني الَّذي تجسَّدَ وصارَ إِنساناً وهو الإِلهُ الإِنسان. فنحنُ نسجدُ للإِله الإِنسان، أَي للشخص الإِله المتجسِّد بربِّنا يسوعَ المسيح والإِله الإِنسان. فإذن، نحنُ الآن نسجُد لا للخشب والأَلوان والرسوم بل نحنُ نسجُد ليسوعَ المسيح ونُكرِّمُ الأَيقونة لأَنَّها هي صورةُ ربِّنا يسوعَ المسيح. هذه النقطة تحتاجُ الى توضيح: نحنُ نؤمن بأَنَّ الثالوث القُدُّوس هم ثلاثةُ أَشخاص أَي ثلاثةُ أَقانيم. الإِله الواحد، نؤمن به لأَنَّهُ ثالوثاً قدُّوس أَي إِلهٌ واحدٌ في ثلاثةِ أَقانيم.
الَّلاهوت الثالوثي يقومُ على الإِيمان بالثالوث. نحنُ نؤمنُ بالإِله الواحد ولَكِنَّ إِلهنا ثالوثٌ: ثلاثة أَشخاص، وهذا سرٌّ إِلهيّ شَرَحتُهُ في كتابي “الله في الَّلاهوت المسيحي” وبعضهُ في “سِرِّ التدبير” وبعضهُ في كتابي الآخر “التجَليَّات في دستورِ الإِيمان”.
التركيزُ إذن هو على الثالوثِ القدُّوس. في التجسُّد الإِلهي نُرَكِّزُ على الشخص الواحد أَي الأُقنوم الواحد. ربُّنا يسوعَ المسيح أُقنومٌ واحدٌ في طبيعتَين، أَي شخصٌ واحدٌ في طبيعتَين. العِبارة هي للقدِّيس غريغوريوس الَّلاهوتي العظيم. أَخَذَ بِه مَجمَع القسطنطينيَّة عام 448 وأَخَذَ بِه المجمع الخلقِدوني أَي المسكوني الرابع، ودَخَلَ في الإِستعمال المسيحي حتى يومِنا هذا. شخصٌ واحدٌ في طبيعتَين: طبيعة بشريَّة وطبيعة إِلهيَّة، فنحنُ نسجُد لشخصِ يسوعَ المسيح الإِله الإِنسان.
هناك يونانيُّون يُفَرِّقون بين الأَلفاظ. هناكَ لفظة تَدُلُّ على العِبادة أَي نسجد سُجوداً فيهِ عِبادة. نحنُ لا نَسجُد هذا السُجود (سُجوداً فيهِ عِبادة )، نحنُ نسجُد سجودَ الإِكرام والإِحترام. ولذلك فليسَ من وثنيَّة في إِكرامِنا للأَيقونات كما يَدَّعي البعض ويَتَّهِمُنا اليهود. نحنُ نُكَرِّمُ الأَيقونات. وتكريمُ الأَيقونات كان أَمراً هامّاً في الكنيسة. قاوَمت الكنيسة الحربَ ضدَّ الأَيقونات بشجاعةٍ وبُطولة وسَقَطَ الشُهداء من أجلِ ذلك. كانت هذه الحرب حرباً ضاريَة ضدَّ الكنيسة. تشَبَّثَت الكنيسة بإِكرامِ الأَيقونات لأَنَّ رَفضْ هذا الإِكرام سيُؤَدِّي الى نتائج وخيمة في الإِيمان المسيحي.
نحنُ نؤمن أَنَّ يسوعَ المسيح تجَسَّدَ وصارَ إِنساناً مثلَنا في كلِّ شيءٍ ما عدا الخطيئة، ولذلك أَتى أَرضَنا ومَسَّ أَرضَنا وصارَ قريباً مِنَّا وحَلَّ بينَنا وصارَ واحداً مِنَّا. فَكُلُّ إِنقاصٍ لهذهِ الحقيقة يُؤَدِّي الى خطر. إِن رَفَضْنا الأَيقونات رَفَضْنا التجلِّي الإِلهي على الأَرض. اللهُ ظَهَرَ على الأَرض. ولذلك الَّذينَ رَفَضوا الأَيقونات، رَفَضوا الأَسرار.
إِكرام الأَيقونات جزءٌ لا يتجزَّأ من الأَسرار الإِلهية. أَي أَنَّنا نؤمن أَنَّ النعمةَ الإِلهيَّة تتجلَّى في المادَّة. فالمسيح على جبل ثابور تجلَّى وظهرَ النورُ من جسَدِهِ ومن ثيابِهِ، وصارَت ثيابُهُ برَّاقَةٌ بيضاء أَكثرَ من الثلج أَكثرَ من أَيِّ ثوبٍ آخر. هذا النورُ الَّذي ظهَرَ على ثيابِهِ هو دليلٌ قاطعٌ على أَنَّ النورَ الإِلهي صارَ بسبَبِ التجسُّد الإِلهي قابلٌ لأَن يظهَرَ في المادَّة.
ويومَ ميلادِ المسيح ظهرَ النور حولَ الرُعاة، وبولس على طريقِ دِمشق ظَهَرَ النورُ حولِه وحولَ أصحابِه. فبِتَجَسُّدِ الرب يسوع المسيح، صارَ من الممكِن أَن يظهرَ النورَ في المادَّة. ولذلك نؤمن بأَنَّ الروحَ القُدُس يَحِلُّ في المعموديَّة فيُعَمِّد الناس لِيَلِدَهُم في المسيح. المعموديَّة هي الميلاد الثاني. في غلاطية “أَنتم الَّذينَ بالمسيحِ اعتمدُتم المسيحَ قد لَبِسْتُم”. في رومية 13 ألآية 14 نحن نلبَس المسيح: ” بَل البَسوا الربَّ يسوعَ المسيح ولا تهتمُّوا لأَجسادِكُم لِقضاءِ شهواتِها”. ونحنُ وُلِدنا من المسيح بالرُّوح القُدُس كما في رومية 8 الآية 15 – 16 : ” إِذ لم تتلقُّوا روح العبوديَّة ايضاً للمخافةِ بل روحَ التبنِّي الَّذي بهِ نصرُخ: أَبَّا أَيُّها الآب. والرُّوحُ عينُه يشهَدُ لأَرواحِنا بأَنَّنا أَولادُ الله”. وفي غلاطية الفصل 4 الآية 6 :” وبما أَنَّكُم أَبناؤهُ، أَرسَلَ اللهُ روحَ ابْنِهِ الى قلوبِكُم صارخاً: أَبَّا أَيُّها الآب”. نحنُ أَولاد الله بالتبنّي وروحُ التبنِّي ساكنٌ فينا. وفي بولس الرسول نحنُ أَعضاءٌ في جسدِ يسوعَ المسيح.
هل هذا الكلام مجازيّ؟ أَين المجاز في هذا الكلام؟
رومية واضحَة، وُلِدنا من آدم للموت، وُلِدنا بالمسيح للحياةِ الأَبديَّة. فهي ولادةٌ حقيقيَّة. جميعُنا أَعضاءٌ في جسدِ المسيح، كلام بولس الرسول كلام نَظَري؟ الكلام حقيقي يُؤخذ بمعناه الحقيقي. وسِرُّ القربان المقدَّس في العهد الجديد واضح. الخبزُ هو جسَدُ الرب والخمرُ هو دَمُ الرب. وفي الفصل 6 من يوحنا الآية 55 :” لأَنَّ جسَدي حقًّا هوَ مأكَلٌ ودَمي حقًّا هو مَشربٌ “. “حقّاً ” ضدَّ المعنى المجازي. هذا يعني أَنَّهُ حقيقةً جسَد الرب ودَمَهُ.
بالميرون ننالُ الرُّوحَ القُدُس والرُّوحُ القدُس يسكُن فينا ونحنُ هياكلٌ لِلَّه. إِن كانَ الجوهَر الإِلهي لا يحُلُّ فينا ولكِن نعمَتُهُ تَحُلُّ فينا فَنِعمَتُه هي نورٌ يُشرِقُ فينا لهُ المجد. في كورنثوس الثانية الفصل4: ” اللهُ أَشرَقَ في قلوبِنا “. النورُ يسكنُ في قلوبِنا. كلامُ يوحنا فم الذهب واضحٌ: النورُ سَكَنَ في قلوبِنا. رسالة بطرس الثانية واضحة: كوكبُ الصُبحِ يسوعَ المسيح يَشِعُّ في قلوبِنا.
هذا هو التجسُّد الإِلهي. يسوع أَخَذَ جسَدَنا، أَخَذَنا نحنُ، وكلُّ العهد الجديد يَدُلُّ على أَنَّنا صِرنا شُرَكاء في الجسد. في رسالة بولس الى أَهلِ أَفسس الفصل 3 الآية 6: ” وهوَ أَنَّ الأُمَم هم شُرَكاءُ في الميراثِ والجسدِ ونوالِ موعِدِهِ في المسيح بالإنجيل”. هذا هو الإِشراك الفِعلي الحقيقي في جَسد الرب يسوعَ المسيح أَي صِرنا ويسوعَ المسيح جسَداً واحداً.
الأَلفاظ اليونانيَّة في روميَة 6 قويَّة جداً الآية 5 : ” لأَنَّا إِذا كُنَّا قد غُرِسنا معَهُ على شبهِ موتِه فَنَكونُ على شِبهِ قِيامتِه ايضاً “.نحنُ ويسوع غرسةٌ واحدة، نحنُ وآلامُهُ وقيامتُهُ وصليبُهُ وكلُّ شيءٍ في العهد الجديد. نحنُ صِرنا وإِيَّاه واحداً، وهنا أَهميَّة التجسُّد الإِلهي.
والتجسُّد الإِلهي ما هو؟ الإِله تنازلَ واتَّحَدَ بالإِنسان. إِتَّحَدَ بالإِنسان لماذا؟ ليَتَّحِدَ بهِ. لماذا صارَ إِنساناً؟ لِيَتَّحِدَ بهِ. كلُّ هذا صارَ من أَجلِنا. لذلك في العنصرة المجيدة حلَّ الرُّوح القُدُس له المجد فينا، وماذا فَعَلَ؟ وَلَدَنا في المسيح. العنصَرة هي إِمتدادٌ للتجسُّدِ الإِلهي. التجسُّد الإِلهي وقَعَ مرَّةً في التاريخ ولَكِنَّهُ ممتدٌّ في التاريخِ الى الأَبد.
ولذلك فالكنيسة قالَت منذُ القرن الثاني مع اريناوس: صارَ الإِلهُ إِنساناً ليَصيرَ الإِنسانُ إِلهاً، وهذا كلامٌ رَدَّدَهُ الآباء جميعاً. وفي الإِستعمال الكَنَسي، آمَنَت الكنيسة باستمرار بأَنَّ الخبزَ هو جسدُ الرب والخمرَ هي دمُ الرب. وكلُّ الكنائس القديمة تُؤمِن بالأَسرار الإِلهيَّة وهي الأَقرَبُ الى الرُسل. أَمَّا المماحكات بعدَ العهد الرَسولي فهي مرفوضة. المهم هو ما تَسَلَّمَتْهُ الكنيسة من الرُسُل: المناولة والإِيمان بأَنَّ الخبزَ هو جسدُ الرب والخمرَ هي دمُ الرب، والمعموديَّة هي الميلاد الثاني، والميرون هو خِتْمُ الرُّوحِ القُدُس. هذه هي الحقيقة الثابتة لَدى الأُرثوذكس وروما والسِريان والأَرمن والأَقباط والآشورِيِّين…. هي الحقيقة التاريخيَّة الممتدَّة من عهدِ الرُسُل الى يومِنا هذا وكل ما جاءَ خلال ذلك هو مماحكات. بولس الرسول لفَتَ أَنظارَنا الى خَطر المماحكات.
الإِيمان بالأَسرار المقَدَّسَة يُؤَيِّد إِيمانَنا بإِكرامِ الأَيقونات. فالمادَّة تقَدَّسَتْ بِتَجَسُّدِ رَبِّنا يسوعَ المسيح. ثيابُ الرب يسوع صنعَت العجائبَ. طَيف بطرس كان يَشفي الناس، محارم بولس كانت تشفي الناس. فإذن، النِعمةُ الإِلهيَّة، النورُ الإِلهي يُبارِكُ الأَشياءَ المادِيَّة. بِتَجَسُّدِ يسوعَ المسيح لهُ المجد الكَون تمجَّدَ بِرُمَّتِهِ. دمُ يسوعَ المسيح سقَطَ على الجُلجلَة وقَدَّسَ الحَجَرَ وقَدَّسَ الأَرضَ بِرُمَّتِها. سارَ في أَرضِ فِلسطين فَقَدَّسَ الأَرضَ الَّذي سارَ عليها. إِعتَمَدَ في الأُردن فَقَدَّسَ المياه. بارَكَ الأَرغِفة الخمس والسمكتان فأَطْعَمَ منها خمسة آلاف، وأَمَرَ تلاميذَهُ بأَن يجمَعوا الكِسَر لأَنَّ هذه الكِسَر تباركَتْ كي لا تُرمى على الأَرض. وهو نفسُهُ قالَ لا تُعطوا المقَدَّسات للكلاب فهذا خبزٌ مبارَك لا يلمُس الأَرض.
خيمة الإِجتماع كانت مرسومة. الفصل 25 من الخروج واضح وهيكل سليمان كان مرسوماً وفيهِ كاروبيم. الفصل6 من سِفر الملوك الأَوَّل واضح وتابوت العهد المكرَّم عند اليهود إِكراماً هائلاً ماذا كان؟ كان تابوتاً. وماذا كان فيه؟ لوحا الحجَر وجَرَّةَ المنّ وعصا هارون. في المزامير والعهد القديم تكريمٌ لهَيكل سُليمان ” لِبَيتِكَ ينبغي التَقديس على مَدى الأَيَّام “. وفي تدشينِهِ على يد سُليمان حلَّ فيه مجدُ الله. كلُّ هذا رمز وكذلك خيمة الإِجتماع. كلُّ هذه هي رموزٌ أَمَّا الحقيقة فهيَ في الكنيسة.
الكنيسة هي هيكلُ سُلَيمان وأَهمُّ من خيمةِ الإِجتماع، الكنيسة هي جسد المسيح. الرب يسوع قالَ للسامريَّة في الفصل الرابع من إِنجيلِ يوحنا الآية 21 – 23: ” يا امْرأة، صدِّقيني إِنَّها تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أُورشليم تسجُدونَ فيها للآب. أَنتُم تسجُدون لِما لا تعلَمون ونحنُ نسجُد لِما نعلَم لأَنَّ الخَلاصَ هوَ من اليهود. ولكِن تأتي ساعةٌ وهي الآن حاضِرةٌ إِذ الساجِدونَ الحقيقيُّون يسجُدون للآب بالرُّوحِ والحقِّ لأَنَّ الآب إِنَّما يَطلُبُ السَّاجِدينَ لهُ مِثلَ هؤلاء. اللهُ روحٌ والَّذينَ يسجُدونَ لهُ فبالرُّوحِ والحقِّ ينبغي أَن يسجُدوا”.
القدِّيس غريغوريوس الَّلاهوتي العظيم قال: الرُّوح، والرُّوح القُدُس، والحقُّ هو يسوع المسيح. أَي يسوعَ المسيح له المجد والرُّوح القُدُس صارا هيكَلَنا الَّذي نسجُدُ فيهِ للآب. ويسوع قال أَنقُضوا هذا الهيكل وأَنا أُقيمُهُ في ثلاثةِ أَيام، أَي جسد يسوع هو هيكلُنا. يسوع هو هيكلُنا وهو الَّذي كما قال بولس في أَثينا: فيهِ نَحيا ونتَحرَّك ونُوجَد. هو حَيِّزُنا الطبيعي، فيهِ نسجِدُ للآبِ بالرُّوحِ القُدُس. عبادَتُنا إِذن هي عبادةٌ في الإِبنِ والرُّوح القُدُس، والكنيسةُ هي جسد يسوع المسيح.
الرموز كانت في العهد القديم. العهد الجديد هو عهدُ الحقيقة. إِنتهى عهد الرموز فلذلك التفسير الرمزي والتفسير المجازي لم يَعُدْ ممكِناً في العهد الجديد. في العهد الجديد ظَهَرَتْ الحقيقة. ماذا قال يوحنا الإِنجيلي: الناموس في موسى أُعطي أَمَّا النعمةُ والحقّ فَبِيسوعَ المسيح. نِلْنا النِعمةَ والحق. حَقَّقْنا الحقيقة في يسوعَ المسيح وانتهت الظِلال والرموز الى الأَبد.
ولذلك التركيز على الصليب لمغفِرَة الخطايا فقط هذا لا يكفي. في دستورِ الإِيمان نقول: الَّذي من أَجلِنا نحن البشر ومن أَجلِ خلاصِنا نَزَلَ من السماء وتجَسَّدَ من الرُّوحِ القُدُس ومن مريم العذراء وتأَنَّس. أَي صارَ إِنساناً. الَّذي من أَجلِنا نحنُ البشر. من أَجلنا؟ آه عمليَّةُ الخلاص ليست فقط بدَمِ المسيحِ، يسوع المسيح تجسَّدَ أَي صارَ إِنساناً ولكن لماذا؟ ليَجمَعَني بالله. يسوع ماتَ على الصليب من أَجلِ خطاياي واكتفى بذلك. بولس في رسالتِهِ الى العبرانيِّين: كلمة التكفير لا تعني فقط التكفير بدَمِ المسيح، تعني التكفير والفوز بالآخِرة ايضاً. التطهير بدَمِ المسيح مُهِمٌّ جداً ولَكِن ماذا بعدَ ذلك؟ بعدَ ذلك الحياة مع المسيح الى الأَبد. فيسوع لهُ المجد إِتَّحَدَ لاهوتِه بناسوتهِ. لماذا؟ لِكَي أَنا أَتَّحِدْ بنِعمَتِهِ الإِلهيَّة. طبيعتُهُ البشريَّة امْتَلأَت من أَنوار الثالوث القدُّوس. هل هوَ بحاجةٍ لذلك؟ صَنَعَ ذلك من أَجلي أَنا.
بطبيعةِ الحال إِتِّحاد طبيعته البشريَّة بطبيعتِهِ الَّلاهوتيَّة تُؤَدِّي بصورةٍ آليَّة الى امْتِلائها بأَنوارِ الرُّوح القُدُس. وكلُّهُ صارَ من أَجلي، تَجَسَّدَ من أَجلي. لماذا أَرسَلَهُ الآب الى العالم؟ لماذا أَتى الى هذا العالم؟ أَتى من أَجلي. طبيعتُهُ البشَريَّة المتَّحِدَة بالَّلاهوت أَفادَتني. يجب التركيز على سرِّ التدبير الإِلهي، على إِتِّحاد الإِله بالإِنسان والإِنسان بالإِله. في يسوعَ المسيح إِتَّحَدْنا بالأُلوهة، بالنعمةِ الإِلهية طبعاً لا بالجوهر. لا نستيطع أَن نتَّحِد بالجوهر ولكن إِتِّحاد الطبيعتَين في يسوعَ المسيح كان لأَجلِنا. المرحلة المستحيلة هي مرحلةُ التجسُّد الإِلهي. كيف يصيرُ الإِلهُ إِنساناً؟ هذا أَقصى المستحيلات ولكن ليس من مستحيلٍ لدى الله، ومع ذلك ركِبَ يسوع بحرَ المخاطر هذا من أَجلي. يجب التركيز على الفوائد المستمِدَّة من اتِّحادِ الطبيعة البشريَّة بالطبيعة الإِلهيَّة. هذا كان لأَجلي ولأَجلِ كلِّ إِنسانٍ.
لا يجوز تقطيع يسوعَ المسيح الى قِطَع، يجب أَن نأخُذَهُ كَكُلّ. منذُ يومِ الحبَل بِه يوم البِشارة الى جلوسِهِ عن يمينِ الآب. أَمَّا تقطيع يسوع بهذه الطريقة فَهُوَ تضييع لعقائد الإِيمان. يجب أَن نبدأ َبالتجَسُّد الإِلهي، ونَعلَم أَنَّ اتِّحادِ الطبيعة البشريَّة بالطبيعة الإِلهيَّة في شخصِ يسوعَ المسيح مَورِد نِعَم لا نهايةَ لها. غسَلَنا بِدَمِهِ الطاهر على الصليب لِكَي نصيرَ آلهةً بالنعمة. يسوع والأُقنوم الغيرِ المخلوق، وأَنا الأُقنوم المخلوق على صورَتِهِ له المجد. جاءَ وحَمَلَني مثلَ الخروف على منكِبَيهِ. مَن هُما مَنكِباه ؟ هما الطبيعتان الإِلهيَّة والبشريَّة. ولذلك فالطبيعةُ بِرُمَّتِها نالَتِ التقديس بمجيءِ ربِّنا يسوعَ المسيح.
لمسَ الأَرضَ فتجدَّدَت كلَّ الأَشياء. هذا المجد الَّذي ظهَرَ في جبل التجلي ما لَمَسَ الأَرضَ ايضاً؟ بطرس الرسول في رسالتِهِ الثانية يُسَمِّي جبل التجَلِّي الجبل المقَدَّس. وهو مقدَّسٌ أَكثَرَ من سيناء. لما ظَهَرَ اللهُ في العُلَّيقَة، هذا رمزٌ. ولَكِن أَما كان المكان مُقَدَّساً فأَمَرَ موسى بأَن يخلعَ الحِذاء لأَنَّ المكان مقدَّس؟ هذا التنزيه لِلَّه عن ملامسةِ المادَّة لا يتَّفِق مع سرّ التجسُّد الإِلهي.
اليهود يشتِموننا بسبب قَولِنا بالتجسُّد الإِلهي، ونحنُ نقول بالتجسُّد الإِلهي وبِآثارِهِ الإِلهيَّة. التجسُّد الإِلهي مستَمرٌّ في المعموديَّة والمناولة. رَفضْ الأَيقونات ورَفضْ الأَسرار السبع هو في النهاية رفضٌ لتقديسِ المادَّة. لَبِسَ يسوع المسيح جسد بشري كامل. في أَيام الرُسُل وبعدهم ظهَرَت هرطقةُ إِسمُها هرطَقة الظاهريِّين الَّذينَ يقولون إِنَّ التجسُّد كان ظاهريّاً.
يجب أَن نقبَلَ التجسُّد بِرُمَّتِهِ، واللهُ ظَهَرَ في الجسد. وبما أَنَّهُ ظَهَرَ في الجسد، إِذن فَقَد قَدَّسَ الجسد وقَدَّسَ المادَّة وقَدَّسَ العالم. مشى على الأَرض فَقَدَّسَها، إِعتَمَدَ في الأُردن فَقَدَّسَ الماء، نَزَلَ دَمَهُ على صخر الجلجلَة فقَدَّسَ الأَرضَ بِرُمَّتِها. حَصْر المسيح بالإِيمان لا يكفي، لو كان الإِيمان وحدَهُ يكفي فما كان من حاجة للتجسُّد الإِلهي. لماذا تجسَدَّ الربُّ يسوعَ المسيح؟ تجسَّدَ الربُّ يسوعَ المسيح ليَحمِلَني على منكِبَيه، ليَضُمَّني اليه، لِيَجعَلَني مُقيماً فيه. في إِنجيلِ يوحنا العبارات عن استقرارِنا بيسوع واستقرارِ يسوع فينا عديدة. كيف يستقِرُّ فينا؟ فقط بأُلوهَتِهِ، أَم يستَقِرُّ فينا بِدون فصلٍ بين الطبيعتَين؟
نحنُ نؤمِنُ بأَنَّ يسوع هو إِلهٌ وإِنسانٌ. الطَعن في الأَيقونات وفي الأَشخاص هو نقصٌ في الإِيمان بالتجسُّد الإِلهي. الرسالة الأُولى الى كورنتوس الفصل11 الآية 24 – 25 أَوضَح من الشمس بأَنَّنا نتناول جسد ودم الرب: ” خُذوا كُلوا، هذا هوَ جسَدي الَّذي يُكسَر لأَجلِكُم، إِصنَعوا هذا لِذِكري. وكذلكَ الكأسَ من بعد العشاءِ قائلاً:” هذه الكأس هي العهدُ الجديد بِدَمي، إِصنَعوا هذا كُلَّما شَرِبتُم لِذِكري”.
هنا قوَّةُ التجسُّد أَي أَنَّ يسوع صارَ ذبيحةً على الصليب ليَصيرَ لنا طعاماً وشراباً. هو قال هذا جسدي هذا دمي، اأَقولُ لهُ أَنتَ كذاب؟ حاشى. قال هذا جسدي وكسَرَ الخبزَ، هذا هو دمي الذي يُهرَق والعبارة صحيحة. أَنُكَذِّب المسيح، أَنُكَذِّب الكنيسة التي تؤمن بهذا منذُ عهدِ الرُسل حتى يومِنا هذا؟ منذ عهدِ الرُسل حتى يومِنا هذا نحنُ نقول إِنَّ الخبز هو جسدُ الرب والخمر هو دمُ الرب، ويوحنا فم الذهب قال: هي ذبيحةُ الصليب. هل كان يوحنا فم الذهب من القرن الثمانين بعد الميلاد؟ كان من القرن الرابع، وحولَهُ عديدون الَّذينَ ذَكَروا ذلك، حتى في كتابِ تعليم الرُسُل من القرن الأَوَّل ذَكَروا ذلك. ولا ننسى أَنَّ المعموديَّة استعمال، وخِدمَة القدَّاس استعمال، وخِدمَة الميرون استعمال. هذا الإِستعمال لم ينشأ بعدَ عشرةَ قرون بَلْ تناوَلناه من الرُسُل مباشرةً. قد يشكُّ الإِنسان في الكتاب قد يشكُّ في شيءٍ آخر، ولكن هذا كانَ إِستعمال يومي. كان الرُسُل كلَّ يومٍ يُعمِّدون في الدنيا كلَّها. وهذا الإِيمان منتشرٌ في كل العالم المسيحي القديم والجديد. ما اخترَعنا شيئاً جديداً، من أُورشليم حتى أَفسس وتسالونيكي وكورنثوس والإِسكندرية فالإِيمانُ واحدٌ والإِستعمالُ واحدٌ منذُ القَرن الأَوَّل حتى يومِنا هذا. ان اخْترَعت هذا الإِيمان وهذا الإِستعمال كنيسة روما أَو كنيسة أَفسُس أَو كنيسة أُورشليم أَو كنيسة أَنطاكيا، فالآخرون يرفضون ذلك. تشَدُّد الكنيسة العقائدي في القُرون الأُولى معروف جداً. ما كانت الكنيسة تسكُت للهراطِقَة ابداً ونرى حِدَّة يوحنا الإِنجيلي ضدَّ الهراطقة في رسالتِهِ الأُولى. وفي إِنجيلِهِ التركيز على أُلوهَة ربِّنا يسوعَ المسيح تركيزٌ هائلٌ جداً وواضح أَنَّهُ موَّجَّه ضِدَّ الهراطقة الَّذينَ كانوا يُنكِرون أُلوهَة الرب يسوع والَّذين يُنكِرون التجسُّدَ الإِلهي.
إِنجيل يوحنا إِنجيلٌ عقائديٌّ يُركِّز على الثالوث القدُّوس وعلى الرُّوح القُدُس، يُرَكِّز على التجسُّد الإِلهي، يرُكِّز على القربان المقدَّس، يُرَكِّز على المعموديَّة. هو كِتابُ عقائد وكِتابُ إِستعمالات. نراهُ يُرَتِّب الأُمور وِفْقاً للأَعياد اليهوديَّة أَي هو كتابٌ طقسيٌّ. من الواضح تماماً أَنَّ الرؤيا كتابُ صلواتٍ وفيه أَناشيد دينيَّة هي حتماً من أَناشيدُ الكنيسة الأُولى، ولِذلكَ فإِكرامُ الأَيقونات مرتبطٌ بالتجسُّد الإِلهي، مرتبطٌ بإِيمانِنا بأَنَّ يسوعَ المسيح شخصٌ واحدٌ في طبيعتَين. والتركيز على الشخص الواحد في الطبيعتَين هو المهم. عقيدةُ الشخص الواحد في الطبيعتَين هي الَّتي انْتَصَرَت في المجمع الثالث الخلقدوني والمجمع الخامس والسادس المسكوني والسابع المسكوني، وفي كتاباتِ يوحنا الدِمشقي. وكلّ الكتَبة الكنَسِيُّون الحقيقيُّون يؤمنون بأُقنومٍ واحدٍ أَي شخصٌ واحدٌ في طبيعتَين. لا نُفَرِّق بين الطبيعتَين ولا نمزِجُهُما. هما متَّحِدَتان الى أَبد الآبدين ودهرِ الداهرين في شخصٍ واحد هو شخص ربِّنا يسوعَ المسيح. نسجُد لهُ في كلِّ موضِعٍ من مواضِع سيادتِه كما يقول المزمور 102.
فإذن تقديسُ الأَيقونات ممكنٌ لأَنَّ تقديسُ المادَّة هو ممكنٌ بما أَنَّ يسوع قد تجسَّد. يُصَلَّى على الأَيقونة فتتَقدَّس الأَيقونة. بولس قال في الرسالة الأُلى لتيموتاوس الفصل 4 الآية 4 : ” فإِنَّ كلَّ خليقة الله حَسَنَةٌ ولا شيءَ مرذولٌ مِمَّا يُتناولُ بِشُكرٍ لأَنَّهُ يُقَدَّسٌ بِكلِمة الله والصلاة”. الطعامُ يتَقَدَّس بالكلمة والصلاة. نُصَلِّي على الطعام فيتقَدَّس، ونتناوَلُهُ بالشُكر وكلُّ ما نَتَناوَلُهُ بالشُكر يتَطَهَّر وليسَ من شيءٍ نَجِسٍ لدى الله. كلُّ حقيقة الله طاهِرة وهذا ما يُعَلِّمُنا إِيَّاه العهد الجديد.
وما قرَّرَتهُ المجامع المسكونيَّة ملزِمٌ لجمبيع المؤمنين. الفَلَتان ممنوع. الرُسُل إِجتَمعوا في أُورشليم وعَقَدوا المجمع واتَّخَّذوا قرارات مُلزِمَة للكنيسة. نحن تَعَلَّمْنا من الرُسُل أَن ننقُلَ المجامع، وهناك مجامع للهراطقة حارَبَتْها الكنيسة ولَكِنَّها إِعتَرَفت بالمجامع السبعة المسكونيَّة، ومن يَرفُض المجامع السبعة المسكونيَّة يرفُض ما علَّمَتْنا إِياه. علَّمَتْنا أَنَّ العذراء هي امُّ الله على ما جاءَ في العهد الجديد ونحنُ نؤمن بذَلِكَ على ما جاءَ في الأَناجيل فنحنُ لم نخترع شيئاً.
نحن اليوم ثابِتونَ في الإِيمان الرَسولي المسَلَّم إِلينا شفويّاً ثُمَّ كِتابيّاً. ما أَخَذْنا إِلَّا الإِيمان الأُرثوذكسي المتَّفَق مع ما علَّمَتْنا إِيَّاه الكنيسة، ورفضنا كل الكتب الأَبوكريفا لأَنَّها ليست كُتُب الكنيسة، هي كُتُب مزيّفة. كُتُب الكنيسة هي كُتُب عَلَنِيَّة والكنيسة تعتمد على إِيمان الرُسُل بدِقَّةٍ شديدة جداً. والإِيمان المسيحي في كلِّ المتوسِّط كان واضحاً عَبْرَ القرون. كلام أغناطيوس الأَنطاكي وكلام بوليكاربوس واضح.
منذُ عهد الرُسُل قامَت هرطَقات فَحارَبَها الرُسُل. وبعد الرُسُل قامت هرطَقات حارَبَتها الكنيسة وما صَمَدَ إلَّا الإِيمان الأُرثوذكسي المستقيم الرأي المثَبَّت في المجامع المسكونيَّة السبعة، هذا مع العِلم أَنَّ لفظتَي كاثوليكي وأُرثوذكسي مُترادِفتان. لا فرقَ في الإِستعمالِ بينهُما وهذا ثابت في كلِّ الإِستعمالات الكنَسِيَّة القديمة.
فإذن، إِكرامُ الأَيقونات هو إِصرارٌ على حقيقةِ التجسُّدِ الِإلهي أَي أَنَّ يسوعَ المسيح تجسَّدَ حقّاً وفِعلاً وليسَ التجسُّدُ ظاهريّاً أَو مَجازيّاً أَو مَعنويّاً. يجب أَن نُرَكِّز كثيراً على حقيقةِ التجسُّد، على حقيقةِ ظهور النِعمة الإِلهيَّة في المادَّة. يوحنا المعمدان قال إِنَّ يسوعَ يُعَمِّدُ بالماء والنار والرُّوح، هل هذا كلامٌ مجازيٌّ؟ هذا يعني أَنَّ النارَ والرُّوحَ تَتَّحِدان، فيَتَّحِدان بماءِ المعموديَّة، والمعموديَّة بهذا الشكل مُرتبطة بالإِيمان الإِلهي، والقربان مرتبطٌ بسِرِّ التجسُّد الإِلهي. كلُّ شيءٍ مرتبطٌ بِسِرِّ التجسُّد الإِلهي. ولذلك فالكنيسة في القرن الثامن والقرن التاسع تشدَّدَت كثيراً في احْتِرامِ الأَيقونات والدفاع عن الأَيقونات لأَنَّ تحريم الأَيقونات يعني عَدَم الإِيمان بحلولِ النِعمة الإِلهيَّة في المادَّة. ولذلك فالَّذينَ رَفَضوا الأَيقونات رفَضوا الأَسرار المقدَّسَة وقالوا إِنَّها رموز. يُعمَّدُ المرء كما قال المسيح باسْمِ الآب والإِبن والرُّوح القُدُس، هل هذا رمزٌ؟ فلِماذا اسْتعمال إِسم الآب والإِبن والرُّوح القُدُس على المعمَّد؟ أَما يُعطي المعمَّد نِعمةً؟ أَينَ الغَلط في ذلك؟
في آخر الرسالة الثانية الى كورنثوس: ” نِعمةُ ربِّنا يسوعَ المسيحِ ومحبةُ الله وشَرِكة الرُّوحُ القُدُس مَعَكُم جميعاً “. كلُّ هذا معنوي أَم حقيقة؟
في رسالة بولس الى أَهلِ رومية الفصل 5 والآية 5 : ” والرَّجاءَ لا يُخَيِّبُ صاحبَهُ، لأَنَّ محبَّةَ الله قد أُفيضَت في قلوبَنا بالرُّوحِ القُدُس الَّذي أُعطيَ لنا “. هل هذا رمزٌ ايضاً، هل هذا معنوي؟ أَما تسكنُ محبَّةُ الله فينا؟
قال الربُّ يسوعَ لتلاميذِهِ يومَ القيامة بعد أَن نفخَ فيهم: خُذوا الرُّوح القُدُس. أَما أَخَذوا شيئاً إِلهيّاً؟ أَما حلَّ فيهِم شيءٌ من الرُّوح القُدُس أَي نعمة الرُّوح القُدُس؟ فهذا التجريد للأُلوهة لا يتَّفِق مع إِيمانِنا في عقيدة التجسُّد الإِلهي. اليهود يرفُضون أَيَّ مَساسٍ بينَ الله والإِنسان. ولكن في العهد الجديد نرى يسوع قد اتَّخَذَ جسَداً وأَدخَلَهُ بأُقنومِهِ الإِلهي وصارت الطبيعة البشريَّة جزءاً من الأُقنوم الإِلهي مُتَّحِداً بالطبيعة الإِلهيَّة إِتِّحاداً تامّاً الى الأَبد. ” خُذوا الرُّوح القُدُس” هذا ليس كلام مجازي، هذا كلام واقعي. أَخَذوا الرُّوح القُدُس والرُّوح القُدُس في العهد الجديد لهُ معنَيَين: إِمَّا يَدُلُّ أَحياناً على شخصِ الرُّوح القُدُس وإِمَّا يَدُلُّ احياناً على نِعمة الرُّوح القُدُس. وأَينَ تسكُن هذه النِعمة؟ تَسكُنُ في الإِنسان. هل نِعمة الرُّوح القُدُس هي ذَهَبٌ وفِضَّةٌ وجواهر أَم هي روحٌ إِلهيٌّ؟ هي قَبَسٌ إِلهيٌّ.
التجسُّد الإِلهي هو شَرِكة مع الله، وماذا تعني كلمة شَرِكَة؟ نحنُ نَقول الإِتِّحاد الكامل. فالإِتِّحاد الكامل بين الطبيعَتَين الإِلهيَّة والإِنسانيَّة هو أَساسُ كلَّ شيء.
وهل موتُ المسيح على الصليب مُفيد لو لم تَكُن طبيعتُهُ البشريَّة متَّحِدَة بطبيعتِهِ الإِلهيَّة في ذلكَ الحين؟ موتُهُّ على الصليب أَحيانا لأَنَّه موتُ إِنسانٍ مُتَّحِدٍ بالإِله. يسوع هو قالَ عن نفسِهِ في إِنجيلِ يوحنا الفصل 8 الآية 40 انا إِنسانٌ وإِله : ” لكِّنَّكُم الآن تطلبونَ قتلي وأَنا إِنسانٌ قد كلَّمتُكُم بالحقِّ الَّذي سَمِعتُهُ من الله وذلِكَ لم يعمَلهُ إبراهيم”. في كلِّ الإِنجيل، هوَ الإِنسان والإله. مَوتُ الإِله الإِنسان على الصليب هو الَّذي أَعطانا الفوائد، ولَو كانَ موتُ انسانٍ فقط لما كانت لهُ فوائد.
لذلك فإيمانُنا للأُقنومُ الواحد في طبيعتَين متَّحِدتَين الى الأَبد هو أَساسُ كلِّ شيءٍ، بدون هذا الإِيمان تُصبِح المسيحيَّة نظريّات. بهذا الإِيمان قامَت الكنيسة ولم تَزَلْ حتى الآن والى الأَبد جوهرةً إِلهيَّة إِنسانيَّة. نتَّحدُ بالله وننمو الى مِلءِ قامةِ المسيح كما في أَفسس 4. إنجيل يوحنا واضح في استقرارِنا في يسوع واستِقرار يسوع فينا ، كل هذا الكلام مجازي؟ ولماذا كان التجسُّد إذن؟ كان من الممكن أَن يكونَ هذا بدونِ التجسُّد. ولذلك هذا التجريد الواسع لربِّنا يسوعَ المسيح هو إِنحرافٌ نحو اليهوديَّة. اليهود لا يقبَلون بالتجسُّد ابداً ولا يقبَلون بالإِتِّحاد الإِلهي البَشري، ونحنُ نرفُضُهم، وسنبقى رافضين إياهُم لأَنَّنا نُؤمن بأَنَّ الله أَرسَلَ ابْنَهُ الى العالم ليُخَلِّصَ بهِ العالم، وأَطاعَ حتى الموت موتَ الصليب بعد أَن تجسَّدَ من العذراءِ مريم تَجسُّداً حقيقيّاً وصارَ إِنساناً يعيشُ معَنا وبينَنا وفينا الى الأَبد. صَعِدَ الى السماء يومَ الصعود ولَكِن عادَ إِليَنا يومَ العَنصَرة في الأَسرارِ المقدَّسَة.
لذلك هو مُقيمٌ فينا وبيننا وهو حاضِرٌ باستمرارٍ فيما بينَنا وحيثُما اجْتَمَعَ ثلاثة باسْمِهِ هوَ حاضرٌ فيما بينَهُم. هو حياتُنا، هو طريقُنا وهو الَّذي قال أَنا هوَ الطريقُ والحقُّ والحياةُ. نحنُ نسلكُ فيهِ كما علَّمَنا بولس وكلُّ حياتنا مرتبِطَة بهِ، ولا يُمكن أَن يفصُلَنا أَيُّ شيءٍ عنُه ونحنُ نعيشُ على أَساس الِّلقاءَ به بعدَ الموت.
يا يسوعَ المسيح يا ابْنَ الله خلِّصنا في هذه الدنيا والآخرة، لا تُهمِلْنا وإِن أَهمَلناكَ، لا تَتركنا وإِن ترَكْناك بل إِحْفَظنا في مجدِكَ، إِحفَظْنا في نعمَتِكَ، إِجْعَلنا شرُكَاءَ مجدِكَ الأَبَدي. أَنتَ صِرْتَ إِنساناً لنَصيرَ نحنُ آلهَةً لك المجد مع أَبيكَ وروحك القُدُّوس الى أَبدِ الآبدين ودهرِ الداهرين آمين.