1- النعمة الإلهية والحرية البشرية بين البيلاجية والأغسطينية:
لقد انتشرت في الغرب آراء غريبة بشأن علاقة حرية الإنسان بالنعمة في قضية الخلاص. فلاهوتيو الغرب يقرّون بضعف إرادة الإنسان الخاطئة في قضية الصلاح وينسبون كل أهمية الخلاص للنعمة. بلغ هذا الرأي ذروته في بداية العصر الخامس مع اللاهوتي الغربي أغسطينس والذي اقتنع من حوادث حياته بأنّ قوى الإنسان خاصة لا أهمية لها في أمر الخلاص وأنّ نعمة الله وحدها توجّهه إلى الطريق الحق وتخلّصه. فالإنسان حسب مفهوم أغسطين قبل السقوط كان حراً أن يعمل الصلاح وأن لا يخطأ مع أنه كانت فيه إمكانية الخطيئة إلاّ أنها كانت مائتة وغير فعّالة. بعد السقوط خسر الحرية في أن لا يخطأ وبقي في طبيعته الساقطة إمكانية الصلاح لكنها مائتة لا تنتقل إلى العمل، بينما إمكانية الخطيئة فعّالة والإنسان يستطيع فقط أن يخطأ. وبقوة الخطيئة الجديّة صارت الخطيئة أمراً ضرورياً لا يمكن التخلّص منه وانتقلت إلى كلّ ذرية آدم، ولهذا كل البشر يخطئون ولا يستطيع أحد منهم أن يعمل بل لا يستطيع أن يفكر بشيء صالح لكي ينال الخلاص. لكن الله وحده برحمته التي لا نهاية لها بنعمته يمكّن الإنسان أن يخلص بدون أي استحقاق من قبله. انتشرت هذه الآراء بين مسيحي الغرب والذين دخل كثيراً منهم المسيحية ليس عن عقيدة بل لأجل منافع دنيوية مما أدى إلى تشويش المفاهيم الأدبية في الجماعة المسيحية الغربية. فكثيرون منهم أخذوا يبررون أخطاءهم بضعف الطبيعة البشرية ويسكتون ضمائرهم على أمل الخلاص بواسطة النعمة، مما أدى إلى مواجهة هذه التعاليم من قبل بيلاجيوس وكان متعلّماً عارفاً بكتابات آباء الكنيسة الشرقيين واستعار منهم مفهومه حول علاقة لحرية البشرية بالنعمة الإلهية لكن بصورة معكوسة. فالنعمة بالنسبة لبيلاجيوس تظهر كوسيلة مخفّفة تُعلن للإنسان بواسطة الوحي في الناموس أولاً ثم في الإنجيل وفي معرفة الوصايا الإلهية وتقدّم أعلى مثال للفضيلة بشخص يسوع المسيح، إلاّ أنها لا تملك قوة مقدّسة ومجدّدة للإنسان فعمل النعمة المباشر على قوى الإنسان هو بمثابة اغتصاب لحريته. وهكذا عكس البيلاجيون مفهوم أغسطين في أمر الخلاص، فقد أعطوا كل الأهمية لقوى الإنسان مما يقود إلى إنكار الحاجة إلى الفداء، وحكم على بيلاجيوس بالمجمع المسكوني الثالث 431. على أثر هذا الجدال ابتدأ في الغرب ما يسمى الجدال نصف البيلاجي مثّل هذا الاتجاه يوحنا كاسيانوس ذاته، والذي كان يؤكد بأن النعمة تحلّ على الإنسان عندما يجعل نفسه مستحقاّ لها، وبالاتفاق معه تتم خلاصه. النعمة تعطى للجميع ولكن لا يقبلها الجميع، ولذلك لا يخلص جميع البشر. من هنا سابق التحديد الإلهي لخلاص البعض ولهلاك البعض ليس على أساس إرادة الله المطلقة بل على سابق العلم الإلهي، هل يقبل الناس النعمة أم لا يقبلونها[1][1].
2-النعمة الإلهية والحرية البشرية معاً على طريق الخلاص:
أ- لا تنافس بين النعمة الإلهية والحرية البشرية: ترفض الكنيسة الأرثوذكسية في تعليمها حول النعمة الإلهية كل اعتقاد يقلّل قيمة الحرية البشرية، والتي لا يستطيع أي حدث مهما عَظُم أن يسلبها من الإنسان كونه فُطر عليها عندما خُلق على صورة الله. فالنعمة الإلهية لا تتعامل بأسلوب قصري ولا تلاشي الحرية البشرية، فهي عملت في بعض الناس إلى فترة معينة ثم عادوا فرفضوا هذه النعمة فلم تجبرهم على الخضوع ولا لاشت حريتهم البشرية، وأكبر مثال على هذا يهوذا الإسخريوطي[2][2]. فالنعمة الإلهية ليست قوة ملزمة تعمل كما لو بصورة آلية. الله لا يجبر الإنسان على الخلاص ولا يفرضه عليه فرضاً دون اعتبار لحريته وإرادته، وإلاّ انتهى بنا الأمر إلى الاعتقاد بالخلاص العام، لأن الله صالح يعطي نعمته للجميع ويشاء الكل أن يخلصوا (1تيم3:2). أو لآمنّا بوجود نعمتين عند الله إحداهما بدون ثمر. معنى كهذا للنعمة يجرد الحياة من صفتها الأخلاقية، لأن العمل الأخلاقي لا يستقيم معناه إذا سُلب المرء حريته واختياره وأصبح بالضرورة يخضع لعمل النعمة[3][3]. طبعاً بدون النعمة لا نستطيع أن نخلص "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً" (يو15:5). ولكن هذا لا يعني أبداً إلغاء مبدأ الحرية البشرية. يقول القديس مكاريوس المصري: " المشيئة البشرية إذا جاز التعبير هي شرط أساس، فبدون هذه المشيئة لا يستطيع الله أن يفعل شيئاً وحده"[4][4]، ويقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: "الخلاص لمن يرغبون الخلاص"[5][5]. ويقول الذهبي الفم: "الله لا يجذب أي إنسان إليه بالقوة والعنف، إنه يرغب بخلاص الجميع لكنه لا يرغم أحداً… كل اعتمادنا هو على الله ولكن ليس لدرجة أن يعيق إرادتنا الحرة"[6][6]. والإنسان بحسب القديس باسيليوس هو خليقة نالت أمراً لتصبح إلهاً وهذا موجّه للحرية الإنسانية دون أن يسيطر عليها[7][7]. وهكذا نجد أنه لا مجال للتنافس بين النعمة الإلهية والحرية البشرية، فهذا يناقض مفهوم المحبة الإلهية وعقيدة كنيستنا حول مفهوم خلق الإنسان.
ب- التآزر بين النعمة الإلهية والحرية البشرية: تشدد الكنيسة الأرثوذكسية من خلال الكتاب المقدس والتقليد والآباء على مدى ارتباط نعمة الله بحرية الإنسان وذلك في سبيل تحقيق خلاصه، فتستعمل تعبير sunergi1a أي التعاضد أو التآزر للدلالة على الصلة بينهما. فيقول بولس الرسول: "إننا عاملون sune1rgoi مع الله" (1كو9:3)، ويقول بطرس الرسول: "نحن مشاركو الطبيعة الإلهية" (2بط4:1). فكوننا عاملون مع الله بغية أن نشارك الطبيعة الإلهية هذا يدل على ضرورة التآزر بين ما هو إلهي وما هو إنساني أي بين نعمة الله وحرية الإنسان. كنيستنا الأرثوذكسية لم تفصل يوماً بين النعمة الإلهية وحرية الاختيار، فهما يظهران معاً ولا يمكن تصور الواحد دون الآخر، إذا يخاطب بولس الرسول أهل كورنثوس قائلاً: "ولكن بتعمة الله أنا ما أنا ونعمته المعطاة لي لم تكن باطلة بل أنا تعبت أكثر منهم جميعهم ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي" (1كو10:15)، وينادي أهل فيلبي قائلاً: "يا أحبائي… تمموا خلاصكم بخوف ورعدة لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة" (فيل12:2-13)، واستعمال بولس لتشبيه المنافس والمسابق في السباق من أجل التقدم في الخلاص الذي يأخذ مسيرة الحياة كلها هو مثل أساسي حول كيفية تآزرنا مع نعمة الله (1كو24:9-27)، (أف8:2-10)[8][8]. ووالدة الإله هي مثال هذا التآزر، ففي البشارة لم يكتف رئيس الملائكة بتبليغ المخطط الإلهي لمريم، بل انتظر إجابتها الحرة والإرادية: "هائنذا أمة للرب، فليكن لي بحسب قولك" (لو38:1)، فكان باستطاعتها أن ترفض لو شاءت. صحيح أن الله اتخذ المبادرة، لكن تجاوب وموافقتها كانا ضروريين، وعلى هذا توقفت تتمة التاريخ البشري[9][9]. ويؤكد الأسقف ثيوفانوس أحد أبرز الكتّاب النسكيين الروحيين في القرن التاسع عشر أن "الروح القدس العامل فينا يتمم خلاصنا معنا، أي أن الإنسان يتمم خلاصه بمؤازرة النعمة"[10][10]. ويعبّر القديس غريغوريوس النيصصي عن هذه التعاضدية فيقول: "كما أن نعمة الله لا تسكن في النفوس التي تهرب من خلاصها، هكذا لا تكفي الفضائل وحدها رفع النفوس الغريبة عن الكمال"[11][11]. ويشير الدمشقي بأن الإنسان خُلق للتأله، متحركا باتجاه الاتحاد مع الله، وللوصول إلى هذه النهاية يبقى تعاون الإرادتين الإلهية والبشرية ولقاؤهما ضروريين[12][12]. وهكذا نجد أن ما يفعله الله أكثر بكثير مما يستطيع أن يفعله الإنسان، إلا أن عليهما الإسهام معاً في سبيل خلاص الإنسان، فهناك تكامل واضح بين إرادة الإنسان ونعمة الله، الإرادة تساعد على اكتمال الشخصية بينما النعمة تُكمل هذه الشخصية باتجاه العودة إلى ما كان عليه الإنسان في الفردوس. فخيار الخلاص هو خيارنا، أما الخلاص بحد ذاته فهو عطية من الله[13][13].
الخاتمة:
في نهاية هذا البحث، نجد أن علاقة النعمة الإلهية بالحرية البشرية هي علاقة تآزر مشيئتين، الإلهية والبشرية. وهو توافق تزدهر به النعمة أكثر فأكثر ويمتلكها الشخص البشري فيما لو أراد أن يخضع مشيئته لها طوعاً. فالنعمة حضورٌ للهِ فينا يتطلب منا جهودٌ مستمرة، غير أن هذه الجهود لا تحدد النعمة أبداً، والنعمة لا تحرك حريتنا تحريك قوةٍ غريبةٍ عنها. هذا ما يريد أن يخلُص إليه الكتاب المقدس والتقليد والآباء في فهمهم لهذه العلاقة. أي أن من أهم العوامل التي لها دور في تحقيق خلاصنا الكامل هي نعمة الله من جهة، وتقبلنا الحر لهذه النعمة مع إيماننا العامل بالمحبة (أف8:2) من جهةٍ أخرى.
[1][1] سميرنوف، أفغراف، تاريخ الكنيسة المسيحية، تعريب المطران الكسندروس جحا، مطرانية الروم الأرثوذكس بحمص، 1964، ص244-252.
[2][2] تاوضروس، موريس، المرجع السابق، ص183.
[3][3] المرجع نفسه، ص180.
[4][4] لوسكي، فلاديمير، المرجع السابق، ص165.
[5][5] مختارات تعليمية للمنفعة الروحية، وجهك يا رب ألتمس، دير سيدة حماطورة، لبنان، 2001، ص54.
[6][6] وير، تيموثي، الكنيسة الأرثوذكسية إيمان وعقيدة، سلسلة تعرّف إلى كنيستك 11، منشورات النور، لبنان، 1982، ص43.
[7][7] طرابلسي، عدنان، المرجع السابق، ص102.
[8][8] العيلان، جورج، الخلاص من وجهة نظر أرثوذكسية، رسالة أعدت لنيل إجازة في اللاهوت، معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي، 2001، ص38.
[9][9] وير، كاليستوس، الملكوت الداخلي، تعريب كاترين سرور، منشورات النور، بيروت، 2001، ص51-52.
[10][10] لوسكي، فلاديمير، المرجع السابق، ص165.
[11][11] المرجع نفسه، ص164.
[12][12] طرابلسي، عدنان، المرجع السابق، ص102.
[13][13] رحمة، جورج (الأب)، كليمنضوس الإسكندري، موسوعة عظماء المسيحية في التاريخ 6، منشورات المركز الرعوي للأبحاث، بيروت، 1993، ص120-121.