لا السماء الثالثة
دلال حدّاد صايغ
بقلم المعلم الانطاكي
الشماس اسبيرو جبور
أبلغني الأخ أسعد شلهوب وزوجته في الثالث والعشرين من شهر كانون الاول ان الله أخذ إليه الأخت الأغلى من كلّ الغالين دلال حداد صايغ، في 5 شباط 1949 التقيت بالمرحوم جورج كرم فاتّفقنا على تأسيس فرعاً للحركة الارثوذكسية في بلدته “السودا” التابعة لبلدية اللاذقية والتي تبعد عن طرطوس 12 كيلومتراً الى الشمال الشرقي، فالتقيته في آب 1945 فقدّم إليّ آنسةً لم تبلغ بعد الرابعة عشرة من العمر اسمها دلال حداد المولودة في 26 من ايلول 1931 فإذا بها صبيةٌ تفيض حيويّةٌ وتميل الى التقوى، فانخرطت فوراً في العبادة والصلاة والسجود والبكاء مائلةً الى الرهبة وتوطّدت العلاقات بيننا كثيراً جداً فصارت أختاً عزيزةً جداً، ولكن أمّها شعرت بميولها الرهبانية فأخذت امها تنقلها من مكان الى آخر وكان أبوها في “غوادالوب”، وكنّا نلتقي احياناً أو نادراً في اللاذقية أو في السودا وإنما كانت دائماً تبلّغني السلام، وفي النهاية غابت عن أنظاري، ولمّا انتقلت الام سلام والاخت رجاء والام انطونينا الى لبنان أرسلت اليها رسالة لتتلحق بهنّ، فسرقت امها الرسالة ولم تدفعها إليها، وانتهى الامر بتزويجها من الطبيب الشهير الالمعي الشهيد يوسف صايغ، وسافرت معه اميركا وانقطعت الاتصالات بيننا. وفي العام 1962 كنت في دمشق فقال لي الصديق الحبيب الاب جورج شلهوب، أما تشاء ان تزور دلال حداد؟ فقلت له أين هي؟ فقال في دمشق، فذهبنا اليها وكان الترحيب كبيراً، ومنذ ذلك الحين كنت أزورها كلّما ذهبت الى دمشق، في المرّة الثانية فتحت قلبها لي فإذا بها متطرّفة في الأوادمية الى حدود قسوى، فصارت حسّاسة جداً ورقيقة المزاج جداً وهي تطيعني كثيراً فعالجت الأمر وهبط التوتّر وارتاحت أعصابها واعتدلت، وعادت آدميّةً ولكن باعتدال.
وتوالت الايام وزوجها معجبٌ بها كثيراً وزوجها متخرّج من اميركا بتفوّق كبير وهو طبيب من نوع استثنائي لأنه واسع في معارفه الطبية واختصاصاته العديدة ويعالج انواع عديدة من الامراض وصار استاذا في جامعة دمشق ومواداً عديدة.
وفي 15 ايار 1966 تمّ سوقي الى دمشق كمجرم كبير ولاطفت المرافقين فرضيا بأن أمرّ على البطريركية وكانت تتبعني سيّارة فيها المرحوم كاهن اللاذقية آنذاك بولس نمر من راشيا الوادي، فخرج من السيارة وقرع الجرس الساعة 12 ليلاً فنزل اليه الاب “جورج شلهوب” فقال له تعال وانظر “سبيرو” في السيارة ذاهباً الى السجن، فأتى ورآني وصعد فوراً الى غرفته واتّصل بالمثلثات الغبطة دلال فقامت قيامة دلال وكانت امها عندها وهي تحبّني كثيراً، آنذاك تحرّك زوجها الواسع النفوذ جداً كالصواريخ الحامية الوطيس ونزلت في الساعة الواحدة لدى ضابطٌ أخذ يشتمني بالعمالة والجاسوسية فانتفضت على الفتى وصرخت بوجهه “أنا انسانُ شريف هذا الكلام غير صحيح، أنا انسان شريف”، وعلم “جوزف العبقري” لذلك فنقله صباحاً الى الخفّة على بعد ثلاثين كيلومتراً من اللاذقية ومر رئيس المحفظة “حليم بيطار” المحسوب على الدكتور يوسف، وقال لي ألا تعرفني وأنا لا أعرفه فانتهت المعاملة معي، فعندما فتّشوني ليلاً وجدوا ثلاث ليرات وبعض عملة النيكل، فإذا بتقرير كاذب يتّهمني بقبض مئة ألف دولار من السفير الاميركي وكتب أحدهم مقالاً في جريدة “الى الوراء” بهذا الخصوص، ففشل تقريرهم.
فبقيت في السجن خمسة واربعين يوماً أزأر كالأسد وأكتب تقارير لاهبة فانتزع القلم منّي، ففي اليوم التاسع بالوسائط الكبرى استطاع أخي ايوب وابن عمي إيليا وموريس حداد ان يقابلوني، فقال لهم حليم كان وزير الداخلية يريد محقه سلوه هل ضُرِبَ؟ فقلت لهم لا، وأتاني رئيس المباحث العامة ليقنعني بموضوع معيّن، فقلت له ان ينصب المشنقة في برجا وأنا أشدّ الحبل، هذا موضوعٌ غير مقبول، فعاد الى الدائرة يقول للظباط هذا الرجل مخيف، وكان في الدائرة ضبّاطٌ ضدّي وضباط معي، في 29 من ايار حضر الامر باخلاء سبيلي وطلب مني ظابطٌ أصله فلسطيني ان أوقّع بتعهّد بالامتناع عن كتابة المناشير، فبدأت معركة لاهبة بينه وبين الآخرين فقال كفى تألّبون كنيستكم بالتنازع بين الروس والاميركان، فقلت له أنا تستّرت بالديانة لأتخلّص منكم فوقعت بين أيديكم؟ سيأتي يومٌ تقيمون لي تمثالاً ووضعت كفّي في وجهه، فقال اخرج وخرجت وقال له حليم ماذا بينك وبين “سبيرو” فقال له كلامه نار لو لم يأمر الوزير باخلاء سبيله لأعدته ثانيةً الى السجن.
انتقلت فوراً الى المرحوم موريس حداد فقال لي اذهب واشكر دلال، فسألته ما العلاقة فقال هي من أخرجتك من السجن. فأخذت الهاتف واتّصلت بالمدن لأعلمهم بأني خرجت سالماً، وعدتُ الى دلال فقبّلتُ يد امّها وجلست الى جانبُها فقالت لا تتصوّر إني احبّك أكثر مما يحبّك يوسف، قلت لها أنا اعرف ذلك، هذا الكلام من فمها لا يخلو من الحكمة والدهاء، لذلك طبعتني في قلب يوسف ليبقى مهتمّاً بي، وودّعتها وقال رئيس المباحث العامة وطلب ان لا اسافر الى اللاذقية قبل مقابلته، ومقابلته عسيرة ولكن استطعت ان أقابله في 2 تموز من الساعة التاسعة، فقال لي أنا لا أضغط عليك من أجل مبادئك فانقذتك في هذه المرّة فأطلب منك فقط ان تعتدل، أنا لستُ باقياً في هذه الدائرة الى الأبد، فشكرته وخرجت وفي اليوم التالي سافرت الى حمص فطرطوس فاللاذقية. وأخيراً تطوّرت الامور تطوّراً مخيفاً إنّما صار البطريرك ثيودوسيوس محاطاً برجالٍ فيهم الرجولة كالدكتور يوسف وجورج سكّرية، وكانت اللاذقية تغلي كالمرجل وتحرّكت معها حمص وحماة وحلب وطرابلس وبقيت دمشق وبيروت عند أهل الكهف، وأخيراً تعقّدت الامور كثيراً فأشار المغبوط جورج سكّرية على البطريرك ثيودوسيوس بأن يغادر دمشق الى لبنان فوجد بالرئيس “شارل حلو” سنداً كبيراً صامداً وتعقدت الامور هنا ايضاً ولكن البطريرك الشهيد الياس معوّض عمدا صموداً باهراً يدعوهما الأخ الحبيب ألبير لحام لمساندة الحبيب الغالي فيليبوس صليبا، فتنازلوا عن نيويورك وأصرّوا على تسليمها الى فيليبوس صليبا، وفيليبوس صليبا وقف في مؤتمر الأبرشية في وجه المطران انطونيوس الذي عاد في 1964 من سوريا ولبنان “حردان”، فطرح مسألة الانفصال فوقف الاب فيليبوس في وجهه كما أعلمني الاب فرّوج فحفظت له هذا الجميل، ولما علمت ان المطران انطونيوس الذي انا وكيله العام في دعوى تاريخية كتب الى الاب فرّوج ليكلّف الاب فيليبوس ترشيح نفسه للمنصب فراسلته بالشهيد الياس معوّض، وهكذا وقف الشهيد معوّض وقفة الأسد الى جانبه وسار المطران ثيودوسيوس في هذا الاتجاه وكان ألبير لحام هو زعيمنا الحقيقي فوقف وقفة الرجال، وفي 5 آب تم انتخاب الاب فيليبوس مطراناً لنيويورك وسائر اميركا الشمالية فطار فرحاً، وفي 7تشرين الاول التقيت المطران معوّض فرأيته مسرورا جداً من هذه النتيجة الكبيرة أي بانتخاب سيدنا فيليبوس الذي وعد صادقاً بأن ينفّذ وصية سلفه المطران أنطونيوس بشير بربع مليون دولار لمشاع معهد اللاهوت دير البلمند وكان وقد وعد المطران الشهيد الياس معوّض بذلك أمامي في 20 أيار 1964. ففي اليوم الثاني كرّر هذا الوعد للمطارنة الخمسة الذين أقاموني وكيلاً عنهم بموجب وكالة عامة، ولديّ رسالة من مطران حماة ورسالة من المطران انطونيوس بشير تثبّت هذا الكلام. وسارت الامور مضطربةً وأخيراً تمّ نفيي الى لبنان في شباط 1968 وتأزّمت الأحوال كثيراً، وهنا يبدأ تاريخٌ معقدٌّ جداً لا يستطيع كتابه مئة بالمئة إلا ربّنا رب العالمين، وتشوّشت الامور فقال للبطريرك الخالد ثيودوسيوس: “يا ابني سبيرو الكنيسة الكنيسة ماذا اوصيك بالكنيسة؟” وكان عام 1969 خانقاً ولكنّ الله أخرجنا من المخنق، ولما كنا في مجمع أيار 1969 بذل جوزيف الصايغ من جديد بكل طاقاته الى المعركة، وهنا تبدأ تفاصيل لا نهاية لها، ولكن في النهاية اتّفقت مع الحبيب ألبير في 20 ايلول 1969 على مخطّطٍ معيّن، وأتاني من دمشق أربعة رجال بينهم جورج سكّرية وجورج خبّاز ومعهم فؤاد صيداوي وجورج حبيب، فاختليت بجورج سكرية وتباحثنا فأزلت من ذهنه الاكاذيب وأوقفته على أمورٍ بالغة الخطورة فاستغرب ذلك وعاد الى دمشق. وفي 6 تشرين الاول ارسل الدكتور يوسف الى الشهيد معوض في بيروت رسولين يقوّلانِ ارادته فما الاب سعيد منصور والاخ رشاد كلاّس من حماة، وفي اليوم الثاني أي 7 تشرين الثاني في دير مار الياس شويّا برئاسة البطريرك الخالد ثيودوسيوس وانتخب المطران ألكسي لحمص والمطران قسطنطين لبغداد وأثناسيوس اسكاف في حماة، وصحا الجو واتّصل البطريرك المسكوني وهذا كلّف رئيس اساقفة قبرص الشهيد مكاريوس تولّي العملية فاتّصل بالبطاركة لتوجيه رسائل التعيين برئاسة ثيودوسيوس واتصل بالرئيس جمال عبد الناصر ليضغط عربياً لمصلحة البطريرك ثيودوسيوس فتحرّك دنيا العرب لمساندته. وفي 27 تشرين الاول اتصل الدكتور يوسف صايغ بالمطران معوض ليحضر الى دمشق ومعه المطران ألكسي فسافرا ومعهما بعض المطارنة، فتحوّل بيت يوسف نصّار الى بطريركية انطاكية وسائر المشرق وصارت الاجتماعات في البيت عند المغبوطة دلال، فقالت لي مرّة: “ألم يكن بيتنا هو البطريركية؟” ففي النهاية نصرنا الله وتسلّم ألكسي حمص في 16 كانون الاول 1969 بعد ان كان المثلث اسكاف تسلّم حماة قبل ذلك وسافر كوستا الى بغداد وسلّم أوراقه الرسمية الى السلطة فتسلّم المطرانية فيها، وهكذا انتصرنا بالمغبوطة دلال وزوجها الشهيد يوسف. وصخبت الدنيا بعد ذلك فإذا بيوسف قد صار جزءاً لا يتجزّأ من القضيّة واهتم بانتخاب جورج خضر مطراناً لجبل لبنان فوضع ثقله في المعركة وكانت المعركة ضارية أيضاً، فبعد ألف رأيٍ نصرنا الله بالشهيد معوّض فتمّ انتخاب جورج خضر في 7 شباط 1970، سافر الى دمشق فرسمه معوّض في 7آذار وبقي في دمشق الى 24 آذار ودخل الى لبنان وسافر الى طرابلس ريثما يتم ترتيب الامور، فوضع يوسف ثقله من جديد وتم ادخال المطران جورج الى مطرانية الحدث، وقامت القيامة ضدّ الوصول المطران معوّض الى البطريركية والاجواء ساخنة ويوسف لا ينام وصار قبّ المعركة في دمشق وهنا تفاصيل كثيرة مختلفة، قامت القيامة وفوجئتُ بمخطط في لبنان ومخطط في سوريا، وأخيراً أتى معوّض لبنان في 5 أيار 1970 وقال ان الدكتور جوريف في 7 ايار وهو متحمّس للمطران معوّض تحمّساً كبيراً جداً حتى صار يضارب سبيرو في هذا الباب، فسبيرو محامٍ يعرف كيف يعتدل وجوزيف طبيب. وعند بدء الحديث لم أترك معوّض يتكلّم راساً أجبته، تكلّمت فهو ذكيٌ جداً وأدرك ان في الامر لعبة، فقام وزار طبيباً لبنانيا كان رفيقاً له في اميركا فرافقته في الطريق وبقي معوّض في لبنان حتى 12 من ايار وهو يسمع اخبار شتّى فأصرّيت عليه ان يبقى حيث هو وان يترك الامور حتى موعدها، وفي ايلول 1970 أخذت المناورات تحاك هنا وهناك أفشلناها جميعاً بفضل الدكتور يوسف وجورج سكّرية، فوقعنا في خطر كبير في مؤامرة لاغتيار معوّض لسبيرو حين تنقّلهما بين أرصون بلد الشهيد معوّض ودير مار الياس شويّا، فأعلمنا بشارة كمال بواسطة طنّوس معوّض بالمؤامرة فطلب المطران معوّض من المطران خضر ان يذهب الى المحافظ ويحضر لنا حماية فنجّانا الله، القصة طويلة ومعقّدة. الساعة 12 من يوم السبت في 19 ايلول اخذ الله اليه روح البطريرك الخالد ثيودوسيوس فتم انتخاب الشهيد معوّض قائممقام بطريركي، وهنا تبدأ قصّة معقّدة ايضاً ولكن الدكتور يوسف بالمرصاد لكل تحرّك، فتمّ في 25 انتخاب معوّض بطريركاً وتمّ تتويجه سريعاً في 27 ايلول وتسلّم المنصب ولكن بقيت الحاجة الى الدكتور يوسف ماسّة، والامور هنا تتعقّد كثيراً وبقي يوسف سيّد الموقف وبرميل البنزين وراءه والمغبوطة دلال، وأخيراً استقرّت الامور وبقيت دلال الام الحنون، كانت ابنتي فصارت اختي وتحوّلت الآن الى أمّي، كانت تتصل هاتفياً بالبطريرك الخالد معوّض لتعرف اين مكان سبيرو فكان يجيبها سريعاً هو مع المطران ألكسي عبد الكريم، الله له المجد يحب الكرسي الانطاكي ويحميه، الله نفسه حبّب إلي المطران ألكسي فكنت أزوره كثيراً وأرعى الامور من بعيدٍ ومن قريب ولكن بقيت الى جانبه حتى آخر ايام حياته، فانعقدت بيننا صداقة نادرة جداً وصار موضع ثقتي وقال مرة ان لا أحد في العالم يحب سبيرو قدر ما أحبّه، وتطوّرت الامور تطوّراً سيئاً فتمّ تسميم البطريرك الخالد الياس معوّض وتأخّر وصولي الى دمشق فإذا بالامر قد طمس تماماً وأخفي عنّي، وراجع مطارنةٌ المحامي فؤاد صنيج وكيل البطريركية التشريح فعزّ عليه تشويه جثمان صديقه فنصحهم بعدم التشريح، ولكن كيف عرّفوا المطارنة ان الناس ان معوّض مات مسموماً؟ استدعي الدكتور يوسف بعد منتصف الليل وعند وصوله وجده ميّتاً، وهو ألمعيٌّ وقال فهذا ليس جلطة، فارتفعت الاصوات ثم طمس الامر وصلت دمشق فهرع إلي افراد الحاشية يقبّلونني ويقبّلون صدري ويقولون لي في ايامه الاخيرة في ايامه الاخيرة كان معوّض يهتم بك باستمرار وكان يذكرك دائماً سبيرو سبيرو سبيرو. وغضب المسّممون على الدكتور يوسف فأرسلوا اليه رسالة مزيّفة تهّدده وجدت في درجه بعد رقاده تعود الى ثمانية اشهر ونصف قبل استشهاده في 16 كانون الثاني 1980، فلم يأخذ على محمل الجد مئة في المئة لأنه محسن كبير في الطب للدمشقيين، وأخيراً تمّ اغتياله بطلقات نارية خبيثة وتمّ نقله الى بلده الكفرون في منطقة صافيتا، ما كان من الممكن ان اكون حاضراً في دفنه وبارزاً، هرعت في اليوم الثاني فوجدت دلال وكان جالساً الى جانبها احد الناس، طال جلوسه وهي تحدّق النظر فيّ لكي أجلس الى جانبها ولكن في النهاية وأنا محامٍ وقح أتيته وقلت من فضلك الست أم بسّام تريد ان تكلّمني، فقالت لي بدأت حياتي راهبةً وأنا الآن قد صرت راهبة، هكذا يكون الرجال العظام، دلال متينة الاعصاب قوية الشخصية أما نفسها فسمحاء وقلبها كبير وهي اسم على مسمّى. وأقيم له قداس الاربعين بتواضع ولكن البيت احتفل بالمعزّين، وأنا أخزت أتردد عليها كلما أتيت دمشق، في إحدى المرات وصلت وإذا بوجهها كالح فأجلستها وكلّمتها بكلمات التعزية فأشرق وجهها فقلت لابنتها الصغيرة رولا يا رولا هاتي لي المرآة، فقالت لي فالمرآة أمامي أرى نفسي منك فانشرحت، في مرة اخرى كانت مشغولة بأعمال المنزل فاعتذرت عن استقبالي وقالت لي بالامانة كلّما أتيت دمشق زرني، فقلت لها ولو أنت تعرفين من في الدنيا مثل دلال ومن أغلى من دلال وهل يعقل ان ازور دمشق دون زيارتك؟ وهككذا كنت امر كلما زرت دمشق، في احدى المرات كنا في الحديث امام ابنها بسام الدكتور الالمعي في فلوريدا حاضراً فقلت له يا بسام أنا أفهم امك أكثر منك امّك هي كذا وكذا، فقالت له دلال كلام سبيرو صحيح، وهذا صحيح لأني حقيقةً أفهمها جيداً وتقوم بيننا محبة روحية إلهية زرعها الروح القدس حتماً، من كان يعرف في العام 1948 ان هذه المرأة ستكون ملاكي الحارس؟ ومرّة أخرى قالت لي يا سبيرو يوسف راح إهدأ قليلاً، ولكن سبيرو لا يهدأ.
في العامية نستعمل كلمة “المونة” كانت علي مونة كبيرة وتتكلّم معي كالاخت الشقيقة الملآنة من المودة واللطف، ربّت أولادها تربيةً حسنة جداً، جوزيف صار علم الطائفة والذي يدعمه بالبنزين دلال، أنا بحاجة الى مطران يرفع رأسي في اللاذقية فنزل الى المعركة بكل جبروته وأهالي اللاذقية مع سبيرو فعرف في دمشق ان سبيرو يهدّد بأنّه لن يدخل الى اللاذقية إلا يوحنا منصور وإلا تمّ الدخول على رقاب اللاذقيين، وهذا كان تهديداً كبيراً. فانتهى الامر بانتخاب الاب يوحنا منصور الذي رفع رأسنا في هذه الايام بما قام به في انتخاب مولانا الغالي يوحنا اليازجي، واحتدمت المعركة على بيروت وليس لنا سوى الدكتور يوسف وهو بالمعنى المجازي لا الحرفي اخطبوط ذو أصابع لا تعد ولا تحصى وتحرك هو واصابعه فتزلزل في دمشق ففاز الحبيب الغالي المطران الياس عوده في 5 شباط 1980 بينما فاز يوحنا في 29 آب 1979، وكان الله اليه الدكتور جوزيف في 16/12/1986، ولكن بقي نفوذه ساري المفعول وبقيت دلال سيدة السيدات وفخر النساء، وسبيرو رجل مخاطر لا يمكن اطلاقاً ان تمنعه الصواريخ عن متابعة المعركة حتى النصر المبين لكنيسة يسوع المسيح، فتمرمر سبيرو كثيراً، مات المطران اثيناسيوس في 28 كانون الاول 1982 وانا اتناول الغذاء عند المغبوط جورج سكّرية، فقال لي من تشاء فقلت له بولس بندلي واحتدمت المعركة فنصرنا الله.
وزوجت دلال اولادها ولكن الدكتور بسام عاش سنوات محدودة في دمشق وعاد الى اميركا وبنتها ذهبت الى اميركا للاختصاص تزوجت وبقيت هناك، وبنتها الصغيرة رولا تزوجت وذهبت الى الخليج فبقيت دلال وحدها في دمشق ولكنها كانت تسافر الى اميركا والى الخليج لترى ابناءها، فأولادها نالوا منها تربيةً رائعة وهم حبّابون كثيراًوعلّمتهم حب سبيرو فكانوا يستقبلونني كأني أعزّ الناس لديهم، وكانوا متعلّقين بأمهم وليس من السهل ان يعاشر إنسان دلال بدون ان يحبها ويحترمها فهي في الحقيقة ستٌّ كبيرة جداً ومحترمة جداً وصديقاتها يحترمنها كثيراً ففي دمشق هي في ذروة الصداقات الكبرى، بقيت أرملة 32 سنة وكانت تشترك بالقداس الالهي وكنت أهديها كتبي وأضع صوراً لزوجها ومرتين مع البطريرك الياس يوم انتخابه. في احد الأيام ردت اليه ثلاث آلاف ليرة سوري كهدية بدل الكتب، وقالت لي هذا المبلغ من بسام لا مني فأخذته، فأنا لا استطيع ان أقاومها وفي الحقيقة المبلغ من بسام ولذلك قبلته شاكراً. منذ سنوات لم أذهب الى دمشق ولكني كنت أكلّف البعض بالاتصال بها هاتفياً لابلاغها السلام والتحيات، وفي احدى المرات ذهبت الى زيارتها بعد تكليفي الاختان سلوى وسوف ولينا فرح، وكلما رأيت ريما فرح كلفتها بالاتصال وابلاغها السلام، وفي 22 كانون الاول2012 كتبت الى صديقٍ في دمشق ان يتصل بها ويكلّفها زيارة مولانا البطريرك الغالي يوحنا اليازجي ولكن في اليوم الثاني بلغني خبر صعودها الى السماء. هذه المرأة بواسطة زوجها خدمت الكنيسة الانطاكية خدمات لم يقدمها أحدٌ غيرها وما كان أحدٌ غيرها يستطيع إداء هذه الخدمات وأنا حدّثت الناس عنها كثيراً وقلت لهم مراراً ان الله عرّفني بها منذ 1945 كرصيد له مفعوله في أزمات الكرسي الانطاكي، بقي نفوذها ونفوذ زوجها الشهيد يخدمني طويلاً، نفوذ زوجها أنقذني مراراً من الاغتيال ومن السم، كانت وزوجها ملاكين حارسين يحرساني، القصة طويلة وتستغرق مجلداً كبيراً ليست لدي كل تفاصيله، ولكني أعرف انهما وجورج سكرية كانا ملائكةً حارسين لي جداً، فالتفاصيل كثيرة، الله يحب الكرسي الانطاكي ويحب البطريرك ثيودوسيوس، كيف أخرج الله للبطريرك ثيودوسيوس هؤلاء الداعمين الكبار؟ أي المغبوطة دلال وزوجها الشهيد يوسف والمغبوط موريس حداد والمغبوط جورج سكرية والاخ الغالي ألبير لحام وسواهم من الرجال الصناديد الأشدّاء الميامين الذين لم تستطع قوة في العالم ان تثنيهم عن خدمة الكنيسة فيوسف مات شهيداً والبطريرك الياس ايضاً والبطريرك ثيودوسيوس مات مريضاً وبقي مريضاً أربع سنواتٍ، وجوج شلهوب سجن 36 يوماً في الزنزانة والبطريرك الياس صدقني سجن 7 أيام في دمشق واللاذقية تحملت ما لا يطاق ببطولة نادرة، والكرسي الانطاكي في الوطن والمهاجر ذاق ما ذاق، أحدهم قال للمطران الياس قربان لا تتعبوا يستحيل انتخاب جورج خضر مطراناً لجبل لبنان، هذه نبذة من جملة نبذات، في 5تشرين الاول 1969 اجتمع أحدهم بالمطرانين قربان وسبيريدون والاسقف صليبا وقال لهم ان المجلس الملي سيسقط الاب جورج خضر في الترشيح ولكن سحقنا كل القوى المقاومة فتمّ انتخابه في 7 شباط 1970 بسعي الشهيد البطريرك الياس معوّض، تعرض المطران ثيودوسيوس تسع مرات إسقاط، هذا ما نعرفه والبطرك الياس تعرض لمؤامرات كثيرة من اجل اسقاطه ففشلت، وبقي ثيودوسيوس في الكرسي حتى لفظ انفاسه فبقي بطريركا موجوداً في السلطة.
طبعاً حماس أهل اللاذقية قلب وجه الكرسي الانطاكي ولكن الى جانب هذا الحماس يجب ان نذكر دائماً دلال حداد ويوسف حداد ويوسف الصايغ وجورج سكرية، موريس ميخائيل حداد المحامي اللامع كان أحد منقذي الكرسي الانطاكي الاشداء الكبار، ومن يستطيع بعد اليوم ان يملأ التاريخ وسبيرو صار شيخاً وبصره قصير؟ المهم ان يبقى الرجال والنساء والشباب والصبايا في الكرسي الانطاكي جنوداً ليسوع المسيح يستهينون الموت ويبذلون الغالي والرخيص من اجل كنيسة يسوع المسيح، وأخيراً ماذا أكتب لروح العزيزة دلال، أطلب الى الثالوث القدوس ان يجعلها مع العذراء الطاهرة مريم ومع الرسل والقديسين، فيعجز اللسان ويعجز القلم عن وصف هذه المرأة القوية الشكيمة الواسعة الصدر المشرقة الوجه اللطيفة الحركة رحمها الله ورحم والديها أما زوجها فمع الشهداء، والشهداء بحسب الفصل السبع من يوحنا فلهم العرش السماوي في حلل بيضاء، وليحفظ الله بسام واسرته وفهام واسرتها ورولا واسرتها وتجعلهم خير خلفاء لخير سلف، الثالوث القدوس يحفظ في مجده دلال وزوجها الشهيد يوسف الى ابد الآبدين ودهر الداهرين آمين.
في كانون الاول 2012 شيّعت الملائكة روح “دلال” الى السماء وفي 17 منه تجلّى الله في الكرسي الانطاكي تجلّى مولانا “يوحنا يازجي” بطريركاً لينقذنا من القوقعة والفراغ والسطحية الدينية ويجمع أبناء الله المشتّتين الى واحدٍ، نعقد عليه الآمال الجسام، فهل يساهم كل ارثوذكسيّ في الوطن والمهاجر في عمل الخلاص من الماضي للانتقال الى وجودٍ أرثوذكسي عميق جداً؟ العمق الروحيُّ الرهباني هو طابع الارثوذكسية في العالم كلّه، فهل نلتقي مع كل العالم الارثوذكسي لنعمّق كياننا الروحي؟ هذا ما ننتظره بفارغ الصبر.
ميلاد المسيح 2012
اسبيرو جبور.