المستقبل
ألتمس أن لا يتهوّم أحدٌ إنّي عاشق للاذقية، فأنا أعشق الكنيسة الارثوذكسية في العالم أجمع وأهتمّ بها جميعاً ولكن هذه النبذة عن اللاذقية جديرةٌ أن تحرّك الشعب في الوطن والمهاجر للنهوض والقيام بالواجب وتجديد الشباب والصبايا لخدمة يسوع ربّنا له المجد، ففي المهاجر ملايين الارثوذكس الانطاكيين، ما هي انشطتهم؟ هل قدّموا للكنيسة مئات الاساقفة والمطارنة؟ هل قدّموا لها العلوم اللاهوتية؟ لماذا لا يتضلّعون من اليونانية والعبرية والآرامية ويصيروا لاهوتيين كما لدى الكاثوليك في تلك الديار لاهوتيون عظام؟ ان الكنيسة المسكونية تنخر عظامي لأنني أحبّها كثيراً فعلاقتي بالبطاركة المسكونيين متينة جداً وكان وكيل البطريرك المسكوني المرحوم أكوزماس صديقي الحميم والتقينا للمرة الاخيرة في البطريركية في ايام البطريرك الشهيد الياس معوّض سنة 1967 لأغراض كنسيّة هامّة جداً. فأما ممثلّو البطريرك الروسي فبيني وبين بعضهم موّدة كبيرة جداً، التقيت في 9 حزيران 1963 في اللاذقية الاسقف ليونتي فاختبرت بيننا صداقة افتضح امرها في مطرانية حمص في 26 تشرين الاول 1986 فدهش المطران ألكسي بهذه الصداقة، خرج من باب غرفة الطعام وأنا واقفٌ على باب القاعة رآني فدهش وهجم للسلام عليّ وضمّني وقبّلني بحماس ومودّة كبيرة جداً فسأله المطران ألكسي ان سبيرو يحبّك جداً فقال له وأنا أحبّه كثيراً، ثم التقيت ببالنتين فانعقدت بيننا مودة كبيرة جداً وآخرهم الذي رأيته خارجٌ من غرفة قبر القديس اليان الى الهيكل يوم عيد القديس ومعه الخوري بطرس بطرس فقال له هذا سبيرو جبور فدار حول المائدة الى شمال الهيكل ليسلّم عليّ فتعانقنا وجلسنا الى طاولة الطعام وكانت هناك أحاديث ودّية كبيرة جداً وأرسلت الى البطريرك القديس بولس بطريرك يوغوسلافيا رسائل عديدة أثناء الأزمة اليوغوسلافية للحل السلمي فيها بدلاً من هذا التورّط مع معلومات دقيقة عن أمور عديدة، هناك مذكرات لاهوتية ورسائل عديدة الى اوروبا كرئيس اساقفة اثينا ورئيس اساقفة السابق المرحوم كريستو بولس كان يكاتبني وهناك علاقات مع أساتذة اللاهوت، والمذكرات اللاهوتية أخذت اهتماماً كبيراً فعلم بها الحبيب الغالي الزعيم ألبير لحام وقائدنا في معركة النصر فطلب إليّ نسخةً فتجاهلت الامر خوفاً من أن يكون قد علم بها من الاوساط اللاهوتية خوفاً من أنه قد علم بها من الاوساط اللاهوتية في اوروبا فأعطيته صورة عنها، فلذلك أنا غير منفصل للاذقية وللكرسي الانطاكي واهتم للعالم الارثوذكسي ككل اولا ولا يغيب عن اهتمامي العالم الكاثوليكي فأراقب التطورّات اللاهوتية والاجتماعية بقدر استطاعتي وأنا محدود جداً بسبب ظروفي القاسية خلال السنوات الاخيرة وبالاحرى من خلال الاربعين سنة من عمري، علاقتنا بالعالم الكاثوليكي كانت في مستوى جيّد ولبق ولذلك تدخّل السفير الفرنسي ليقوم القديس الشهيد الياس معوّض لزيارة الفاتيكان فرَضِيَ بذلك شرط ان يرد البابا الزيارة للبطريرك، وفي مناسةٍ اخرى اشترط البطريرك الياس شرط لاهوتي فكان موقفه من روما موقف الندّ للند ولكن أخذه الله اليه قبل عشرة أيام من موعد الزيارة، فقال فيه بعد وفاته احد الكرادلة ما قال، زاره في احدى المرات احدهم في تموز 1972 للدسّ فقال لي “هذا جاسوسٌ إسرائيليٌّ”، ولذلك كان له موقف حادّ من السياسيين.
ولذلك أتوقّع من مولانا صاحب الغبطة البطريرك يوحنا ان يلتفّ العالم الارثوذكسي حول بعضه بعضاً وأن تسود البطريركيات اخوّة نادرة كما سادها في العام 1969 حين تدخّل البطريرك المسكوني البطريرك غولاس ورئيس الاساقفة مكاريوس الشهيد القبرصي لدى البطريرك ثيودوسيوس وهطلت عليه قيادة التأييد فحمل الشهيد البطريرك الياس بطريركية موسكو وأعطاني إياها وهي بين أوراقي وقلت له مراراً “ان البطريرك ألكسي يؤيّدنا؟” وانتقل الى دمشق في 27 تشرين الاول يرافقه بعض السادة المطارنة والمطران العظيم ألكسي عبد الكريم، في كانون الاول 1969 طلب بطريرك موسكو المرحوم غيرموغين ان يختليَ به سرّاً، فقال للشهيد الياس “البطريرك ألكسي وكنيسة روسيا يهنّئانك بالطبريركية” أما البطريرك المسكوني فأرسل اليه رسالة تأييده وهكذا رحمه الله جمع المجد من طرفيه وزار موسكو مرتين في 1972 و 1979 وزار رومانيا وبلغاريا ولكن الوقت لم يسمح له بزيارة يوغوسلافيا وزار اثينا وألقى خطاباً باليونانية أدهش العالم اليوناني.
فإذاً نحن انطاكيّون مئة بالمئة، في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية في الجزء الثاني استعمل الأب الشهير “لو بروتون” كلمة رائعة “الجامعية السورية” “Les universalistes Syriens” وأنا وفيٌّ لهذا التراث الانطاكي العريق، نحن جامعيون نهتم بالعالم الارثوذكسي ككل لسنا متقوقعين في انطاكيا بل نهتم بالعالم الارثوذكسي كلّه، ويا ليتني استطعت ان أزور موسكو لأقول للكنيسة الروسية إنما ما قالته البطريركية سنة 1969 لأحدهم سقط مئة بالمئة ونهضنا كأسدٍ مع المطرانين الجليلين ألكسي عبد الكريم وقسطنطين بابا استيفانو في 7 تشرين الاول 1969 وانتهت العملية بانتخاب الشهيد الياس معوّض في 25 ايلول سنة 1972، عاشت انطاكيا المسكونية الجامعيّة وجعل الله الارثوذكس الانطاكيين انواراً في سماء العالم الارثوذكسي اولاً وفي العالم بأسره ثانياً ورحم الله البطريركين ثيودوسيوس والياس الذين اورثانا هذه الصفة الجامعية لنسبّح الرب في كلّ مكانٍ ويضع يدانا الله فيه وفي الثالوث القدوس المجد والكرامة الى ابد الآبدين ودهر الداهرين آمين.
الى أين فيما بعد؟ نحتاج الى مئات المتبتّلين الذين ينصرفون الى دراسة آباء الكنيسة الناطقين باليونانية الى تراثنا اليوناني ليتدرّبوا على الوعظ ويحصلوا على دكتورات تقوم على اطروحات كلٍّ منها من 400 الى 800 صفحة لا اطروحات 250 و300 صفحة، ويحتاجون الى تربية روحية راقية مثل جبل آثوس وفي اديرة رومانيا وروسيا، وهذا يحتاج الى مخاصصات مالية، فالتربية الروحية الراقية في هذه الاديرة تؤدي الى تخلّص الانسان من الاهواء والوصول الى شيءٍ من عدم الهوى، فالتخلّص من الغير والحسد والحزازات الفارغة، فبمدرسة اللاذقية وصلنا رغم الصعوبات القاسية والمتعددة جداً الى حالةٍ من الوداد وما يسمّونه باللغة العامية “الخوشبوش” والصراحة والشفافية ونبذ الرياق والتملّق والمداهنة فصارت علاقتنا الى حدٍّ بعيد طبيعية عفوية واضحة بلا لبسٍ وابهام بلا رياقٍ ونفاق بلا مظاهر فارغة وبلا مباخر ومدائح، فضلاً عن التضامن والغيرة المتبادلة.
في العام 1952 حاول مفسدٌ ان يفسد بيننا فتداركنا الامر وقلبنا الكرسي على رأسه، طبعاً عندما اقول الكرسي لا نعني آذيناه ولكن وضعناه في الزاوية. أحدهم من طلاب الوجاهة رفض ان يدخل مرّةً الى قاعة استقبال سيّدنا منصور لأني أنا موجود فانزعج سيّدنا يوحنا وصرفه، فانصرفت معه الزعامة والوجاهة والتقنيص، لم يحترم احدهم في احد المواقف جبرائيل سعاده في العام 1986 فكانت النتيجة ما كانت من التضامن، وكان لسيدنا يوحنا يومذاك ولجبرائيل سعاده وكولومبوس عبد الحق وسبيرو جبور موقف معيّن كان معه التضامن حتى قال المرحوم جبرائيل : سبيرو جبور معي وأخواتي لسن معي. فالعفوية في العلاقات كنزٌ ثمينٌ جداً، لا تكلّف في علاقاتنا، فالعفوية هي أبرز شيء في موّدتنا فضلاً على الوضوح والصراحة والشفافية، وهذه الصفات نشرناها بنسبة ولكن الظروف العامة أفشلتنا وحالت دون نجاحنا نجاحاً تاماً إنما الرصيد جيّد حتماً وهذا كسبٌ كبيرٌ في بلاد ينتشر فيه الغموض والانكماش والانقباض والانغلاق والدجل والنفاق والمداهنة، ولذلك يجب التركيز في الدراسة اللاهوتية على اللغة اليونانية والتراث اليوناني القديم، من أراد ان يكون خطيباً بارعاً وواعظاً ملهماً فما عليه إلا ان يطالع يوحنا فم الذهب وباسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي فهم اساتذة الوعظ والتعليم، فاسأل الله ان يجعل عهد سيّدنا الحبيب الغالي البطريرك يوحنا واحةً ربيعيّة لآباء الكنيسة، فآباء الكنيسة يغيّرون وجه الارض اما مع ما غرق به الغرب من دراسات، فماذا فعل؟ فعل البرودة الروحية، فالحرارة الروحية في كل الكتب التي تظهر في الغرب فيه فهم وتدقيق لامع جداً لكنها خالية اجمالاً من الروحانية والمسيحية روحانية، ماذا انتفع لو كتبت سبع ملايين مجلّد من الابحاث والدراسات بدون قطعة صلاة؟ فآباء الكنيسة الروحانيون كانوا أدباء زمانهم ولكنهم كانوا روحانيين وهذا ما نحتاج اليه إن وفقنا الله اليه بشفاعة سيدتنا ووالدة الالهة وجميع القديسين آمين.
ملحق
في 6/1/2005 شغل مولانا البطريرك يوحنا بالي فسافرت الى اللاذقية وأنا ورثت عن أبي الامتناع عن السفر في الاعياد السيّدية والآحاد لأبلغه أمراً هاماً يتعلّق به، ففي اليوم التالي تعيّد اللاذقية ليوحنا المعمدان ولمطرانها الجليل الاب الحبيب الغالي النبيل “يوحنا منصور” فهرعت باكراً الى الكنيسة لألتقي بسيّدنا، فوجدته وأخاه جالسين في الهيكل المقدّس، فقام أحدهما وأجلسني في الوسط، فأبلغتهما ما يدور في خلدي، فهرع الحاضرون من الاكليريكيين فإذ بجيش من المطارنة والاساقفة والرهبان والراهبات يملؤون الهيكل والكنيسة مع الشعب في الكنيسة وخرج الناس يسبّحون بالحمد للمطران الذي زوّد الكنيسة بهذا الجيش العرمرم، سيّدنا يوحنا خدم اللاذقية من الناحية الاكليريكية، البذور التي زرعها معلّمنا المغبوط الاب “الياس مرقص” أينعت في العام 1966 وما يليه حتى اليوم، وألى النهاية لا أعرف بأن الميول الرهبانية في اللاذقية قويّة وميول البتولية قويّة، فاسأل الله ان يمتدّ هذا التيار الى كل ابرشيات الكرسي الانطاكي لكي لا يعيش على كنيسةٍ واحدةٍ بدلاً من العيش على مجموعه في الاوطان والمهاجر. ففي عهد سيّدنا ومولانا الحبيب الغالي “يوحنا اليازجي”، لا يمكن الكلام عن مطارنة متزوّجين فهذا موضوعٌ قد طويَ الى الأبد، حيّ الله ارثوذكس اللاذقية الذين أقاموا الكرسي الانطاكي من الرماد كما يعرف ذلك تماماً الحبيب الغالي المطران “فيليبوس صليبا” صديق اللاذقية الكبير، طبعاً لا أنسى الصديق “الياس عوده” الصديق الغالي جداً، جعل الله الكرسي الانطاكي في أيامهم جميعاً خبزاً للعالم الارثوذكسي.
كنيسة اللاذقية كانت في العام 1966 في واجهة العالم الارثوذكسي، أما الآن فبثالوثها البطريرك الحبيب الغالي يوحنا اليازجي والمطران الحبيب يوحنا منصور والمطران الحبيب النبيل سابا اسبر ارتقت الى رتبة قلعة العالم الارثوذكسي في القرن الواحد والعشرين فهنيئاً لها بهذا الثالوث المقدّس.