ايضاً وايضاً حول كتاب الدكتور عدنان طرابلسي
بقلم المعلم الانطاكي
الشماس
اسبيرو جبور
كتاب الدكتور عدنان طرابلسي الجديد حول الحياة بعد الموت طرحَ عليّ قضايا عديدة، أنا لا أؤمن بالغريزة ولكن اؤمن بالملكة اللاهوتية، كنت يوماً مع المهندس الزراعي عسّاف فلق وهو مهندسٌ نبيهٌ، فقلت له “البرغش يهجم عليّ ولو عن بعد كيلومترات وإن كنت في غرفة مظلمة مئة في المئة ومقفلة باحكام يفتّش عن أي ثقب يفتّش عليّ ويعقصني” فهذا الحيوان الصغير كيف يرى في ظلامٍ دامس وكيف يشمّ عن بُعد كيلومترات؟ وما هاتان العينان الصغيرتان الأقوى من عيون سائر الحيوانات تقريباً؟ قال لي هناك حيوان أصغر منه يحوم حول لمبات الكهرباء أسود لا ترى عيون البرغش وهذا الكائن لا تراه إلا بالمجاهر، فقلت له “وهل كان عند تكوين العالم مجاهر لتكوين هذه العيون الدقيقة جداً التي لا ترى إلا بالمجاهر؟” فقال لي أنا مؤمن فقلت له أنا اعرف انّك مؤمن ولكن يجب دائماً ان نمعن النظر في الامور لنسبّح الرب على كلِّ ما صنع، الحيوانات في البرّية تخرج من بطون الأم وتذهب رأساً الى الحلمة، وصديقٌ روى لي انّه شاهد جراء خنزيرةٍ أوشكت ان تموت، هذه الجراء خرجت بانتظام وتناولت حلمات الام بالترتيب كأنّ معلّمٍ يعلّمهم كيف يتناولون بالترتيب والنظام وحلمات الخنزيرة صفّان، فمن علّم الجراء ذلك؟ قال الغريزة، فقلت له علّم الجراء؟ قال الغريزة فقلت له هل رأيتم الغريزة تحت المجاهر؟ قال لا ماذا تقول؟ قلت الله له المجد الذي خلق البشر خلق الحيوانات تتصرّف منذ اليوم الاول كأن لها عقلٍ وخلق الإنسان العاقل وهو جاهلٌ يتدرّب على الامور، هكذا رتّب الله الأمور للانسان بين يديّ الوالدين يتدرّب على شؤون الحياة بينما خلق الحيوانات تتصرّف تلقائياً كأنها مدرّبة، هذا ترتيب الله فالغريزة ليست مفهوماً علمياً بل مفهومٌ فلسفيٌّ سدَّ به الناس عجزهم عن تفسير الامور، فعدنان انتقد رجالاً لامعين كالقديس يوستنيوس بوبوفيس والمطران لاغوس واللامع جان كلود لارشييه وحتى القديس اللاهوتي الكبير الروسي سيوفانوس الحبيس لم يرفض الموضوع رفضاً كاملاً، الاب توما بيطار اعتبر القديس بوبوفيس في مستوى آباء الكنيسة القدامى العظام فليعتدل بوبوفيس ولاغوس ولارشييه ينهلون من الآباء القدامى ولكن هناك شيءٌ نسمّيه عرباً الملكة اللاهوتية، لا استعمل غريزة إذا بل كلمة ملكة، حتى بالاماس الاوسع من الجميع بين القدامى في التأليف في موضعٍ ما أخذ عن يوحنا الدمشقي وانتقدت عبارته لان عبارة الدمشقي أكثرُ دقّةً.
ولذلك يمتاز الآباء القدامى بملكة لاهوتية دقيقة جداً، هل هي إلهام إلهي؟ هل هي حسّ لاهوتي دقيق؟ لم تسمّه الكنيسة عبثاً معلّمي المسكونة، وباصيليوس وغريرغوريوس ويوحنا فم الذهب فلتات الزمان كلّه، ويوحنا الدمشقي المفصل الرئيسي في تاريخ اللاهوت المسيحي ذو حسٍّ لاهوتيٍّ غريب عجيب، فلا يكفي ان يجمع المرء نصوصاً آبائيّة غزيرة ليصير لاهوتياً في مستوى معلّمي المسكونة العظام، لا شك ان استيفانوس الحبيس الروحي الروسي روحاني ومصلّي ومرشد روحي كبير ولكنّ المسألة ليست علماً فقط إنّها ملكةٌ لاهوتيّةٌ، من أين تأتي؟ كيف يغرزها الله؟ في باصيليوس وغريغوريوس ويوحنا فم الذهب ويوحنا الدمشقي؟ وما غرزها في هذا المستوى إلا فيهم وفي اندالهم؟ الله أعلم.
إن قلت ملكة وإن قلت غريزة فما هو الموضوع إذاً؟ الموضوع هو حسٌّ لاهوتيٌّ دقيق يميّز بالبديهة بين الحقّ والباطل والصواب والضلال، فالكتاب المقدس خالٍ من أي إشارة من المحطات الجمركية، نقرأ في لوقا ان الملائكة أتت وأخذت روح أليعازر الى حضن ابراهيم، فليس من مرحلة بين رقاد اليعازر ووضعه في حضن ابراهيم، المسألة فوقية بدون وسائط، من ناحية ثانية الحسّ اللاهوتي يرفض الجانبيّات يبقى في الخط الاصيل، الاب الفرنسي داليس في كتابه عن مجمع أفسس يقول ان الآباء الناطقين باليونانية أقرب الى الكتاب المقدس من آباء الكنيسة الناطقين باللاتينية، ولذلك الخروج عن هذا الخط السليم يؤدي الى السقط. يوحنا فم الذهب اختصر مهمته اللاهوتية بنسبةٍ كبيرة على تفسير آيات من الكتاب المقدس فكان كتابياً بامتياز فالملكة اللاهوتية الدقيقة ترفض تلقائيا.ً
الملكة اللاهوتية خطٌ عميق يتولّد في الانسان بتدبير إلهي عظيم يعود معه اللاهوتي مثل المنخل ينخل كلّ شيء ويفرز الحنطة من الذؤان، فلاهوتي الكبير استفانوس الحبيس الروسي كان قادراً بشيء من امعان النظر من رفض الكتاب المنسوب الى مكاريوس المصري رفضاً قاطعاً بحسه اللاهوتي الكبير، فليس في آباء الكنيسة ومعلميها وفي الكتاب المقدس شيءٌ من ذلك وطابع الموضوع طابع خرافي، وإن كان الكتاب قد نسب الى مكاريوس الكبير فالحسّ الالهي كان يقضي برفض هذا الكتاب وكلّ الكتب التي صدرت بالاستناد اليه، المسألة إذاً تتعلّق بالحس اللاهوتي العميق، أنا مع آباء الكنيسة القدامى بكلّيتي ولكن الاجترار مضرّ، ففيلاريتوس مطران موسكو في القرن التاسع عشر أي ما يسمى اليوم بطريرك روسيا هو الذي نادى بالعودةِ الى الآباء القدامى الناطقين باليونانية ودبَّ صوتُه في صفوف اللاهوتيين واساتذة اللاهوت في العالم الارثوذكسي بقوّةٍ كبيرة، وإنما تحوّل اللاهوتيون الى مجترّين، فديمتري ستينالوي الروماني متينٌ جداً ولكنه لا يخلو من بعض الاخطاء، أما بنايوتوس ترامبيلاّس اليوناني فكتابُهُ لا يمثّل آباء الكنيسة. فقلّبت كتاب يوحنا رومانيجيس فإنه يستشهد كثيراً بآباء الكنيسة و لكنّه لا يتمثّلهم تمثّلاً قويّاً وانتقدته مراراً في كتابي “سر التدبير الالهي” وانتقدته في سواه وفي مناشيره، وانتقدت كذلك كريلوس اليوناني فهو غير دقيق ولذلك التركيز يجب على الحسّ اللاهوتي العميق الذي يرفض الكتب المنحولة وكتب الأبّوكريفا، الدكتور الحبيب عدنان طرابلسي يعرف موقفي الصارم من المنحولات ومن كتب الأبّوكريفا، فأنا محامٍ عتيق وتزوير الاسناد جريمة وإن كان التزوير في مستند رسمي كان التزوير جناية وجنحة، ولذلك اكتسبت في المحاماة هذا الحسّ ضد المزوّرات وأرفضها.
إذا لا يكفي ان نحفظ غيباً آباء الكنيسة القدامى بل ان تنتمثّلهم فالتمثّل هو الاساس، صديقي الاب بلاسيديو زي ترجم الى الفرنسية من اليونانية مواعظ القديس مكاريوس الكبير ويصر على نسبتها الى نسبتها الى مكاريوس الكبير بالرغم من ان المدقّقين والفاحصين قالوا انها من قلم سمعان الفراتي، وصديقي الآخر جان كلود لارشييه يصر على ان مكسيموس المعترف هو قسطنطيني بالرغم من ان الوثائق العربية والسريانية المعاصرة له والقريبة منه تقول انه من مشرقنا، فهذا الاجترار الكبير يضرّ في نضوج المملكة اللاهوتية الحس اللاهوتي الكبير الذي يرفض كلّ شيءٍ لانه بالغريزة.
بتعبيرٍ آخر يوحنا فم الذهب وغريرغوريوس اللاهوتي وباسيليوس الكبير يزرعان في الانسان نوعاً من النباهة اللاهوتية أظنّ أنّها تساعد كثيراً على خلق الحسّ اللاهوتي ولذلك انصح أجيالنا الصاعدة ان تعود الى هذه المصادر ليزرع الله فيها هذه النباهة وهذا الحسّ اللاهوتي، أنا لست بمتعصّب أبداً فأنا اراقب الامور الكنسية منذ عهد الرسل حتى اليوم، نباهة الرسل واضحة في معلّمي المسكونة القدامى ونحن لا يجب ان ننتبه اثناء مطالعتنا لهم ان نكتسب نباهتهم وينغرز فينا حس لاهوتهم العظيم، في يوم عيد ميلاد ربنا يسوع المسيح أسأل ربنا يسوع المسيح له المجد والاكرام والسجود ان يعيد الكرسي الانطاكي الى يوحنا فم الذهب ورومانوس المرنّم ومكسيموس المعترف ويوحنا الدمشقي لنعيش في هذا المشرق وفي المهاجر ليسوع المسيح ربنا له المجد.