مجمع البطريرك ملاتيوس الثاني الدوماني
و
مجمع البطريرك يوحنا العاشر اليازجي
بقلم المعلم الانطاكي
الشماس
اسبيرو جبور
في اواخر التاسع عشر قام بطريرك اغناطيوس انقلابٌ في الكرسي الانطاكي واستلم سدّة البطريركية وأقام خليفةً له المطران ارسانيوس حداد، فقام مجمعٌ من رجالٍ تارخيين في الكرسي الانطاكي، غريغوريوس حداد مطران طرابلس اشهر من نار على علم، المطران اتيا مطران بيروت اشهر من نار على علم أثناسيوس مطران حمص اشهر من نار على علم جبارة مطران حماه كذلك وهناك شخصية لامعة في ذلك الزمان مكسيموس يارد في زحلة المؤرخ العالمي المشهور الذي كتابه الصادر سنة 1991 عن القديس فوتيوس الكبير قد قلب المعلومات التاريخية رأساً على عقب وكتابه مشهور في العالم المسيحي كلّه، المطران غريغوريوس حداد في العام 1906 خليفةً للبطريرك ملاتيوس اشتهر الاثنان بالنسك والصلاة، كان ملاتيوس مطران للاذقية هذا ما زال ذكره حياً وما زالت سيرته الزكية حيةً، وكان بطريركاً لامعاً جدياً تقيّاً فاضلاً ناسكاً، عاد الى اللاذقية ومعه المطران ارثانيوس بالبحر وكان المرحوم والدي وجدي بين المستقبلين وكان استقباله في المرفأ رائعاً. اما المطران غريغوريوس حداد فهو صاحب سيطٍ عالميّ مشهور ولكن لم تكن القواعد الشعبية كما هي اليوم فكنّا لا نزال للحكم العثماني بقيادة السلطان المتوّحش عبد الحميد الذي أعدم الأحرار، وأظنّ ان في ايامه تمّ اعدام بطريرك القسطنطينية وكان عمره ثمانين عاماً على ما اذكر إني طالعته في العام 1942 في كتاب التاريخ البكالوريا الاولى الفرنسي، اما في تاريخ رياض الصلح اللاذقي المخطوف 1880 كانت احواله رديئة جداً جداً والتخلّف كبير جداً جداً، ولذلك لم يكن لهؤلاء المصلحون ان ينهضوا بالشعب نهضة كبيرة فالعثمانيون قضوا على التعليم والمدارس والحريات الشخصية، والمطران ارثناسيوس صار بطريركا بعد البطريرك غريغوريوس حداد ونال ثمانية اصوات بحسب قوانين المجامع المسكونية، المجمع هو الذي ينتخب والاكثرية فيه هي الأساس فنال ألكسندروس ثلاثة اصوات وغريغوريوس ثمانية اصوات فإذاً هو البطريرك الشرعي، ويقال ان الكسندروس اثناء مرضه في بيروت واعترف بطريركيته ووعد بتسجيل اسمه ولكنه لم يفعل ذلك. أما اليوم البطريرك الجليل يوحنا اليازجي فمحاطٌ بمجمع جيّد فيه كفاءات ولكن في أجواء اجتماعية وعلمية مختلفة مئة في المئة، فاليوم رعايانا في الوطن والهاجر متمتّعة بنسبة جيدة من العلم والتقدم الحضاري والاجتماعي والثقافي ولدينا أعلام في الفكر والفلسفة والادب والتاريخ وباقي العلوم، لدينا مثلاً طبيب كبير مثل الدكتور فيليب سالم واختصاصه الامراض السرطانية وهو رجل انساني كبير وكان لدينا طبيب القلب المشهور مايك. ومؤرخون كبار مثل المرحوم الدكتور اسد رستم ومثل البير لحام والمرحوم نعيمة الانطاكي، الى جانب الدكتور فيليب والدكتور دبغي هناك الدكتور الياس حنا الطبيب المشهور في اميركا وأيضاً اسم الدكتور الألمعي يوسف الصايغ، “وعندنا ايضاً رجال فكرٍ كبار”، مثل الدكتور شارل مالك والدكتور قسطنطين زريق وسواهم من الادباء والكتّاب والمؤرخين والعلماء ويضيق المجال لو أردت ان أذكر كل المفكرين الارثوذكس في الوطن والمهاجر وكل المتعلمين الارثوذكس الانطاكيين في الوطن والمهاجر. وهكذا دواليك فضلاً عن عشرات الالوف الكثيرة من الجامعيين المتخرجين في الداخل والخارج، ولدينا مستشفى مار جرجس اللامع في بيروت ومستشفى امراض القلب في البرازيل الذي يقال انه الثاني في العالم من مؤسسه ابنة اسعد عبدالله وكردية حداد المشهورين، ومن امثال ذلك الشيء الكثير، ولذلك المجمع المقدس الحالي برئاسة مولانا البطريرك يوحنا اليازجي يتمتّع بأرضية ميتنة من الرجال والنساء المتعلمين والثمقّفين، وهناك منذ اربعين سنة النشر الديني، وصار لدينا مكتبة دينية بالعربية فيها كتب جديدة وهذا لم يكن في عهد البطريرك اغناطيوس الدوماني ويتزايد كثيراً عدد المطابعين والمهتمين بالنشر الديني، لذلك امام المجمع الحالي امكانات كبيرة جداً يبقى المجمع ان يحسن استعمالها. كان لدينا في الولايات المتحدة واميركا اربعين رعية واليوم لدينا سيدنا الحبيب فيليبوس صار لديه الآن 465 رعيّة، يسيرها اسقافة وكهنة والكثير منهم متعلّمون وجامعيون والكهنة في الوطن متعلمون وجامعيون بنسبة كبيرة، فالنهضة التي اطلقها البطريرك الخالد ثيودوسيوس ابو رجيلي مستنداً الى رجالٍ اشدّاء وشعبٍ يؤيّده كشعب اللاذقية مثلاً، هذه النهضة بلغت اليوم مع سيّدنا يوحنا اليازجي مرحلةً متقدّمةً جداً. لا بد ان نذكر من السابق المطارنة في هذه المرحلة إلا المرحوم المطران الكسي عبد الكريم الذي اظهر كفاءات كبيرة جداً في الادارة ودعم التعليم وعلى متانة خلقه وعنصره، واذكر ايضاً المرحوم المطران بولس بندلي الذي اشتهر في سخائه النادر المثال، لو اردت ان اذكر الأحياء لذكرتهم، إنما لا اريد ان اظهر متحيّزاً وإنما افتخر ببراعة سيّدنا القائمقام البطريركي سابا اسبر الذي اظهر في ادارة عملية انتخاب البطريرك يوحنا واظهر فيها براعة.
في هذه المرحلة نحتاج الى مئة كاهنٍ متضلّعين للآباء الكنيسة العظام أي باسيليوس وغريغوريوس ويوحنا فم الذهب لكي يتولّوا الوعظ والارشاد في ارجاء الكرسي الانطاكي، الاهتمام في الوعظ هو الشيء المهم جداً، عادةً حملة الدكتورات لا يسعون الى الاستذة في البلد إلا الى الاستذة في البلمند، الاستذة في البلمند محدودة ونحن بحاجة ماسّة الى وعّاظ في الرعايا ومرشدين روحيين، ومبدئياً يجب ان يكون هؤلاء متبتّلين لا متزوّجين، فالمتبتّل يستطيع ان يطوف في مناطق الكرسي الانطاكي بينما المتزوّج مقيّد برعية معيّنة وبعائلة وهذا المجهود يحتاج الى همّة الشباب وتضحياتهم، الكنيسة بحاجة الى شهداء أحياء لا الى معارض أزياء من الجبب والقنادس والصلبان وارتداء الحرير والطيلسان، بعد مئات السنين من التخلّف والصعوبات الكرسي الانطاكي يحتاج الى شبابٍ رسوليّين، وعندما نقول رسل نقول شهداء أيضاً لأنّهم تعرّضوا لصعوبات هائلة كما نرى ذلك في رسالتيّ بولس الى كورنثوس ورسالتيه الى غلاطية وكولوسي، فليست الخورنة أناقةً وزينةً ومنصباً رئاسياً بل الخورنة هي الاستشهاد، كل كاهنٍ مرسوم اصولاً مرسوم مبدئياً ليكون شهيداً للرعية. طبعاً المفاهيم اللاهوتية مطلقة ولكن هذه هي الحقيقة، الرخاوة من الشيطان والاكليريكي الذي ينام على الحرير ينام على قماش مغطى بالشيطان، الاكليريكي الحقيقي ينام على الشوك وعلى المسامير لا على الحرير والطيلسان. من الخطأ التوهّم ان زمان الاستشهاد انصرم الى غير رجعة، راجعوا الانترنت تروا ان في القرن العشرين شهداء ارثوذكسيين أكثر من اربعين مليوناً، وفي القرن الواحد والعشرين نحن بحاجة الى بطولة هؤلاء الشهداء لنكون خلفاؤهم الحقيقيين. ليست الخورنة للكسالى والمتكسّرين بل هي للشهداء الاحياء، أما العشب فبعد طول الانتظار أرسل الله اليه مجمعاً ذا كفاءاتٍ جيّدة فما عليه إلا ان يكونَ خاضعاً للإنجيل، لماذا التشتّت السابق؟ لأننا لم نكن خاضعين للانجيل بل كنا خاضعين للاهواء متمزّقين مشتّتين، اليوم الروح القدس موجودٌ بقوّة في الكرسي الانطاكي كما ظهر في انتخاب سيدنا البطريرك يوحنا اليازجي على يد حبيبنا المطران سابا اسبر، ولا يحتاج الامر إلا الى إزكاء هذه النعمة الالهية في ضمير كل ارثوذكسي في الوطنِ والمهاجر، المطلوب إذاً هو تجسّد الانجيل في كل ارثوذكسي في الكرسي الانطاكي المقدّس، متى تجسّد الانجيل اضحى الارثوذكس كتلة واحدة وشعلة واحدةً بلا كسل ولا تناوز ولا اهمال ولا “فلتنان”، نسأل الله ان يبيّض هذا المجمع المقدس وجوه الارثوذكس في الوطن والمهاجر وان يجعل الكرسي الانطاكي منارةً بين البطريركيات الارثوذكسية في العالم كلّه، والمستقبل كشّاف.
وفي نهاية كلّ مطافٍ ماذا يعني انتخاب مولانا يوحنا العاشر يازجي بطريركاً؟ الأخ الحبيب ألبير لحام كان يصلي يوم انتخاب البطريرك الخالد ثيودوسيوس ابي رجيلي ففاز 14/11/1958، ورافق البير البطريرك ثيودوسيوس في جهاده حتى سقط مريضاً في العام 1966 فلم يعد يحتمل جسمه أعباء معركةٍ قاسية جداً جداً ولقي طريق الفراش حتى وفاته في 19/9/1970، المثلث القداسة والطوبى باييسيوس حلّق فوق بلادنا مرّة بالطائرة وهو مسافر فارتعش روحيا وقال لنفسه “كم في هذه البلاد من عظام القديسين؟” خلفاء القديس بطرس وبولس على كرسي انطاكيا وحتى اليوم سقط عددٌ كبيرٌ عددٌ من الشهداء ومن الرهبان والحبساء والعاموديين والعلمانيين القديسين والاكليريكيين القديسين الله يعلم عددهم ومكان عظامهم المقدسة، الله وحده يعلم كم من شهيدٍ سقط في بلدان الكرسي الانطاكي؟ هذه العظام جميعاً ارتعشت في 17 كانون الاول 2012 يوم انتخاب يوحنا مولانا بطريركاً، هتفت في ذلك اليوم “المسيح قام حقا قام” ورتّلت طلبة القيامة بعد الهجمة بعد التعديل لقيامتك أيها المسيح الاله، هل أنا جاهلٌ للامر؟ لا، وإنما أنا شريك ألبير لحام الى جانب البطريرك ثيودوسيوس، اما عظام القديسين في القبور انتعشت في يوم انتخاب مولانا البطريرك وأرواحهم في السماء جذلت ورنّمت سبحاً لله، الامر يعني قيامة الكرسي الانطاكي مع المسيح، ولذلك نحن في عيد قيامةٍ، الكرسي ابتهج لهذا الإنتخاب ولكن الابتهاج لا يكفي، المهم ان نعيش قبر المسيح وهو يعني الانتقال من الموت الى الحياة ومن الارض الى السماء، الكرسي الانطاكي مطالب ان يعيش قبر المسيح وان يتحوّل تحوّلاً كاملا من الموت الى الحياة، بأن يقوم مع المسيح قيامة جديدة في كلّ مناخ الحياة، فالحدث حدث تاريخي هام وانقلاب كبير في تاريخ الكرسي الانطاكي، وهذا الانقلاب لا يبلغ مداه التام إلا إذا ارتكض كلّ ارثوذكسي انطاكيّ روحياً كما ارتكض يوحنا المعمدان في بطن امه يوم دخلت البيت سيدتنا والدة الاله مريم العذراء، يجب ان نرتكض بالروح القدس وان نتمخّض بالروح القدس، فيولد المسيح القائم من بين الاموات في كل واحدٍ منّا، هذا التصفيق العابر والتهليل العابر لا يشبعُ آمالنا في قيامة عامّة في الكرسي الانطاكي بعد قرونٍ من الضعف والعيش المشتكين، نحن اليوم في فكر عهدٍ جديدٍ للكرسي الانطاكي تتطالب فيه النفوس بالتجدد الكامل روحياً واخلاقياً ومعنوياً واجتماعياً، أعادنا الله الى اصالتنا الانطاكيّة، اعاد الينا كرامتنا المسلوبة أعاد إلينا قوانا المسحوقة أخرجنا من الجبّ من اللجّة.
في الكرسي الانطاكي قوّة خفيّة حمته ألفي عاماً تقريباً من الاندثار والانحلال، أجدادنا في الكرسي الانطاكي الذين جاهدوا الجهاد الحسن وأورثونا هذا الايمان العظيم ما زالت دماؤهم تجري في عروقنا، ولذلك ايها الارثوذكس في الكرسي الانطاكي اخرجوا من الثبات العميق الى فرح القيامة ولتكن أيامكم من الآن فصاعداً عيد القيامة الالهية ولتكن أيامكم القادمة رحلة القيامة والاشتراك في الظهور الالهي. أجدادنا أشنؤوا الأناشيد الروحية والأشعار الدينية فللنضمَّ إليهم لننشد للثالوث القدوس مجداً وتهليلاً في قلوبكم اجميعن الى ابد الآبدين ودهر الداهرين آمين.
عيد الظهور الالهي 2013 الشّماس سبيرو جبور.