ان حياة في البرية لها مكانة رفيعة في الكنيسة المسيحية ولا سيما الكنيسة الشرقية حيث ولدت الحياة الرهبانية في الصحراء والقفر على يد انطونيوس وسائر النساك الذين سبقوه وتبعوه .
اكتسبت البرية معاني روحية عميقة أثرت في نفوس المسيحيين وخاصة على ايام القديس انطونيوس الكبير الذي عاش في الصحراء ولقب بكوكب البرية فقد انار السيل لحياة النسك اثناء اقامته الطويلة التي عاشها في عزلة الصحراء .
لذا يعود غنى البرية ( الروحي ) الى اشخاص عاشوا في البرية فلا تكمن الى اهمية في مكان معين بل في اشخاص الذين هم الذين اكسبوا حياة البرية قيمة تعدت اصحابها لتشمل جميع المسيحيين عامة والرهبان خاصة .
الرهبان هم الذين دعموا المسيحية ونشروها وبشروا بها في المسكونة بعد انتهى عهد الاضهادات ، هم خلفوا الشهداء في عمل الشهادة . اذ الاستشهاد والرهبنة شهادة حية لا بالكلام فان الرهبنة تحقيق لملء انسانية الراهب .
يتكلم الكتاب المقدس على ان العلاقة بين الله وشعبه وأنبيائه تكونت في البرية فأول لقاء ين الله وموسى قد تم في البرية ( خروج 3 ) . أي كشف الله ذاته لموسى : ” انا هو من هو ” ( خروج 13 – 14 ) . وايضا كشف الله لموسى اهتمامه بشعبه لهذا اختبر موسى الرب في البرية . فالبرية موضع لقاء شخصيا وينتج عن ذلك ارسالية الى الاخرين هذا ما نجده أساسا في الحياة الرهانية وفي حياة كل مسيحي ممارس لمسيحيته . العلاقة الشخصية مع الله والإرسال محبة الله الى البشر هذا ما فعله قديسنا العظيم انطونيوس حيث كان يحيا ( الايمان المسيحي ) حيث اصبح يعرف ” حبيب الله” ، كان يعلَم الشعب هكذا ، علاقة انطونيوس مع الله اثمرت رسالته في الكنيسة وفي خارجها على مثال موسى .
في البربة علم الله شعبه من خلال موسى اذ يهتم الله بمأكلهم ومشربهم فقط بل بتعليمهم ايضا : ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكلمة ما تخرج من فم الرب يحيا انسان ” ( تثنية الاشتراع : 8- 3 ) مع علم لن لفظة ” مدبر” العبرية تعني البرية ولفظ ” دفار ” تعني كلمة هما من اصل واحد فالبرية والكلمة مرتبطتان معا لذا الله عزى شعبه بكلمته المن فقط ، وايضا البرية مكان يستغوي الله الانسان الخاطئ الزاني ويخاطب قلبه ليحول حياته حتى تصبح كحياة الزوجة مع زوجها حيث الطهارة والمصالحة تجمعهما ( هوشع 2- 16 ) هذا ما اختبره انطونيوس علاقته حميمة مع الله ، اذا في البرية كان موضع الحب الالهي والانساني ” الحبيب ” و” الحبيبة ” ( نتشيد الانشاد 8: 5- 6 ) هذا ما نراه من سيرة انطونيوس حيث نراه يردد مرار قول بولس الرسول ” ما من شيء يفصلني عن محبة المسيح ” ( رومية 8- 35 ) ،
ان يسوع من بداية حياته العلنية قد اختلى في البرية ” قام قبل الفجر مبكرا فخرج الى مكان قفر واخذ يصلي هناك ” اذا البرية موضع للصلاة ولقاء الله فلذلك خرج انطونيوس نحو البرية والجبال حيث الصمت الكامل ليتحد مع الله ، هذا القديس اعطى قطعة الارض ولكن الله اعطاه ارض والسماء ايضا ، فاصبح له في كل بلد من المسكونة اديار وكنائس، واصبحت له كل البرية وكل الاديار لانه ابو الرهبنة في العالم ، فهل اعطى أم اخذ ؟ ، لعل البعض قالوا عندما اعطى انطونيوس ارضه للرب انه مسكين ضيع نفسه وارضه وثروته ومستقبله ينما الرب يرد عليهم قائلا من اضاع نفسه من اجلي يجدها ، ماذا ترك انطونيوس غير الارض؟ هل ترك اولادا أنفترض ان الشاب انطونيوس بدل من ان يترهب تزوج وانجب كم من ابناء كان سينجب ؟ هوذا الان له آلاف من ابنائه الرهبان في كل جيل ، حقا ان المسيح حينما قال ان يعوض مائة ضعف .
انراه كان سيصير مسؤولا كيرا او في مركز رفيع ثم ينساه الناس كما نسوا اسم ابيه ، هوذا انطونيوس يرسل اليه الإمبراطور قسطنطين يطلب بركته ويأتيه الفلاسفة والنبلاء من كل مكان يطلبون حكمته وينال شهرة لم ينلها احد ، انراه حقا في هذه النقطة اخذ أم أعطى ؟ ، نراه ترك الكهنوت لكن ابناءه صاروا بطاركة ( القديس اثناسيوس الكبير ) أنراه أعطى أم أخذ ؟ ان الله يعطي اكثر مما يأخذ ،
تطلب الكنيسة من أم ان تعطي ابنها للرهبنة او للكهنوت فتبكي وتمرض كأن كارثة ستحدث ، القديس انطونيوس أعطى حياته للرب وليس فقط املاكه فماذا حدث ؟ اعطاه الرب حياة ابدية مثمرة في ملكوته بدلا من الحياة الارضية اصبح ليس مجرد شخص بل صار رمزا لحياة والصلاة والنسك ، رمزا للحياة الرهبانية بكل ما فيها من فضائل وروحانيات وتجليات ، رمزا لكل مسيحي حقيقي يحيا كلمة الله . انه ملاك ارضي اعطى فأخذ .
دخل انطونيوس في وحشة القفر من اجل الرب ولكن جعل القفر عامرا بهذا الملاك الارضي وحول البرية الى السماء وجعلها مكان مقدس يأتيه الناس من كل جهات المسكونة ، هل أعطى أم أخذ ؟ الرب يعطينا أكثر مما يأخذ ولكن المهم ان نبدأ بالعطاء ولا نفكر حينما نعطي ولا نفكر اننا سنأخذ عوضا.
ان من يجعل علاقته بالله ، علاقة طلب مستمر واخذ هو انسان متمركز حول ذاته حول أنانيته . قديسنا العظيم أعطى حياته لله ولم يكن يفكر اطلاقا انه سيأخذ كل ما أخذه .
نتعلم من انطونيوس ان الحياة الروحية هي اخذ دائم من الله . أخذ البركة ، والرحمة ومتعة في كل عمل روحي لولا هذه النعمة والمتعة الروحية لما استمر انطونيوس في الحياة بالبرية لو لم يأخذ نعمة وقوة من العلي . ألم يقل الله ( أعطني قلبك يا بني ) هل نظن ان الله يريد يأخذ قلبنا ؟ بل يريد ان يملا قلبنا حبا وبركة وبرا . يريد ان يأخذ قلبتا لكي يطهره من كل أدناس التجربة ويجعل روحه القدوس يسكن فيه . أنكون نعطي أم نأخذ .
على هذا الاساس كانت جماعة المؤمنين ( الكنيسة ) تلتجئ الى البرية حيث تجد كمالها والقوة الحقيقة للكنيسة المجاهدة حيث القداسة ليست موجودة فقط في مصف الأساقفة بل وايضا في مصف الرهبان ابتداءا من انطونيوس الكير ويوجنا الدمشقي الى غريغوريوس بالاماس لذلك حفظ الرهبان البسطاء ” الايمان القويم ” اكثر من اللاهوتيين الكبار لانهم بالصوم والصلاة والتواضع والنسك انتصروا وطدوا الايمان ونقضوا الهراطقة وتغلبوا عليهم ، بدون الرهبان لكانت المسيحية غابت عن العالم من هنا نستطيع ان نقول ان حصن الايمان هو الدير والصحراء ، اللاهوتي هم من يملك عقلا ( نوس ) مستنيرا لاجل ذلك فضل اباء الكنيسة الدرس في جامعات الصحراء حيث تجليات الله منسكبة في عقولهم وقلوبهم .
فما أحوجنا اليوم من أي وقت مضى الى مثل انطونيوس الكبير والى الرهبان والراهبات لان عدم وجودهم تضيع شهادة المسيحيين مما يجعل الكنائس فاترة لا تشهد للمسيح .
لذا كنيستنا المسيحية تحتاج الى صلواتهم كي تشدد الايمان فهذا يجعل من كل مؤمن حقا ان يكون مدعوا الى ترحال الروحي الى البرية ( لقاء الله ) ليختبر ما اختبره شعب الله والأنبياء وما اختبره يسوع نفسه وكنيسته وما اختبره انطونيوس لنكون شاهدين ومستشهدين للكلمة الالهية .