القديس نيقولاوس الصربي
قد سألتني هذا السؤال منذ زمن طويل لكن اعذرني لأني انتظرت هذا اليوم المبارك لكي أجيبك، عندما تكون كل أفكارنا متوجّهة نحو تلك المغارة التي أشرقت منها للعالم شمس البرّ.
التواضع هو الفضيلة الأولى التي علّمها المسيح للناس في الموعظة على الجبل. وقد ظهر هو بنفسه مثالاً لهذه الفضيلة بولادته في مغارة للغنم وليس في قصر ملكي.
العِبرة المهمّة الثانية التي أعطاها الرب للعالم بولادته في مغارة تتلخّص في أنه ضيّق على نفسه ليعطي مكاناً للآخرين والرضا بما هو ضروري ليحصل الآخرون على احتياجاتهم الضرورية. كما قال الرسول الإلهي: “فإن كان لنا قوتٌ وكسوة فلنكتفِ بهما” (1 تي 6: 8). أليس هذا درس للعالم الحاضر الذي يعيش أزمة؟
هناك عِبرة أخرى وهي أن المكان لا يجعل من الإنسان شخصاً مهمّاً، إنما الإنسان يجعل المكان مهمّاً. الإنسان هو القيمة الكبرى على الأرض. الغنى والبريق الخارجي لا يزيدان من كرامة الإنسان كما أن الفقر لا يُنقص منها. أتعلم ما قاله الرب عن يوحنا المعمدان؟ “ماذا خرجتم لتنظروا؟ أإنساناً لابساً ثياباً ناعمة؟” (مت 11: 8). الملك هيرودس يسكن في القصور ويلبس الثياب الناعمة، لكنه ليس إنساناً بل ثعلب. وبيلاطس في خدره ليس بإنسان لكنه ذئب روماني. وهكذا الفريسيون ليسوا أناساً ولكنهم أبناء الأفاعي. إنما يوحنا الذي لا مأوى له أعظم من هؤلاء الساكنين في القصور، فليس هناك مولود من النساء أعظم من يوحنا المعمدان.
هناك أيضاً عِبرة أخرى من الرب وهي أن ملكوت السماوات أهمّ من كل الأشياء التي في العالم. ويمكن للإنسان أن يقتني ملكوت السماوات بصرف النظر عن مكان ولادته ومكان معيشته، سواء أكان في المدينة أو في القرية أو في الصحراء أو في المغارة. لقد أراد الرب أن يلقن درساً للعالم الذي كان ينتظر أن يشرق النور من المدن الكبيرة وهو أن النور الحقيقي يمكن أن يشرق من مغارة حقيرة. وهذا ما أثبته لاحقاً الكثيرون من النسّاك والشيوخ العظام ومصابيح الروح الحقيقية.
وبرأيي الشخصي، هناك سبب مهمّ آخر لولادة المسيح في مغارة. توجد في الأراضي المقدّسة لغاية الآن أربعة جبال كبيرة وهي قائمة منذ أيام المسيح. الجبل الأول في بيت لحم حيث ولد المسيح، والثاني جبل التجربة حيث جُرّب المسيح من الشيطان، والثالث جبل الجلجثة حيث صُلب المسيح وقُبر وقام من بين الأموات، والرابع جبل الزيتون الذي منه صعد المسيح إلى السموات. أربعة أهمّ الأحداث في حياة المُخلّص مرتبطة بهذه الجبال الصامدة. لم يبقَ أثر للبيت في الناصرة الذي عاش فيه المسيح ولا في كفرناحوم حيث سكن ولم يبقَ هناك أي بيت سكن فيه أثناء تجواله، ولا قصر هيرودس ولا دار بيلاطس، ولا حتى هيكل سليمان. كل ما هو مصنوع بأيدٍ بشرية تهدّم مع الزمن ولكن هذه الجبال الأربعة المصنوعة بيد الله لا زالت قائمة إلى الآن.
وذلك لكي لا يشكّ أحد في أن الرب يسوع بالحقيقة وُلد وجُرّب مثل إنسان وصُلب من أجل خطايا البشر وقام من الأموات وبمجدٍ صعد إلى السموات إلى ملكوته الأزلي حيث ينتظر أبراره. لقد عرف الله قلب الإنسان المتحجّر وأفكار البشر المتقلّبة، لذلك فإنه ربط بحكمة هذه الأحداث العظيمة الأربعة بأربعة جبال صامدة. لو أن المسيح ولد في بيت في مدينة أو قرية فهل كان سيبقى هذا البيت محفوظاً للآن ليشهد لنا على ميلاده؟ حتى المدينة التي ولد فيها ألكسندر الكبير غير موجودة الآن. كما لم يعد هناك الكثير من المدن والممالك التي ولد فيها أناس عظماء، أما مغارة المسيح المقدّسة في بيت لحم فهي موجودة وقائمة وتشهد.
واعلم هذا أيضاً: فكما أن جسد المسيح الذي هو “بيت لروحه” ليس من إنسان وإنما من الروح القدس، هكذا أيضاً مغارة بيت لحم التي هي “بيت لجسده” ليست من صنع أيدي البشر إنما هي من الله الخالق المدبّر. فهو خلقها قبل الإنسان وهيّئها لتكون مكاناً لميلاده حين يأتي ويزور ذرية آدم وحواء. وأيضاً لكي تكون شهادة أبدية عن حضوره إلى الأرض.
فلا تندهشن بأن الرب قد اختار مكاناً فقيراً كهذا لميلاده، فكل ما هو عالٍ عند الناس هو رذيل أمام الرب. لقد كان قصر القيصر في روما رذالة أمام الرب لأنه بالفعل كان مغارة للصوص والفجور والتعدّي. وكل ما هو حقير ومزدرى في نظر الناس غالباً ما يختاره الرب ويمجّده. إنها طريقة عمل الله الكلي الحكمة. هكذا اختار صيادي السمك ليكونوا رسلاً وهكذا اختار المغارة مهداً له.