باسم الآب والابن والروح القدس.
من سنة إلى أخرى يعود إلينا عيد النور والفرح الكلي وهو عيد ميلاد المسيح، وكل سنة نعود نشعر بجوهره مع قوّة جديدة، لأنه مع كل سنة يمتلئ بمعنى جديد وبفرح جديد.
قول لنا الكتاب المقدّس إن الله هكذا أحبّ العالم حتى بذل ابنه الوحيد ليخلص العالم. ونحن نعلم من خبرة تاريخ البشرية أنّ المحبّة تصل إلى كمالها عندما يستطيع الإنسان أن يبذل حياته ونفسه من أجل من يحبّ. كم هي عظيمة وعميقة محبّة الله لنا – ليس في الماضي، بل في الحاضر أيضاً – أنه من أجل خلاص الناس الساقطين بذل ابنه الوحيد!
أتذكّر ضابطاً أرسل ابنه للموت أثناء الحرب وذلك في مهمّة لإنقاذ جنود آخرين. فقيل له: “كيف استطعت أن ترسله هو، وليس شخصاً آخر؟” وكان جواب الضابط: “كان عليّ أن أرسل أحداً للموت، فلم أستطع أن أرسل إلا ابني، لم أستطع أن أرسل ابن أمٍّ أخرى وأبٍ آخر”. إنّ هذا الرجل اختبر بالفعل ما تمّ من خلال تجسّد المسيح المخلّص: هكذا أحبّنا الله حتى أنه لم يرسل إلا ابنه لكي يخلّصنا بتجسّده وبموته، ولم يكن من الممكن إرسال أحد آخر لهذه المهمّة.
فما الذي تدلّ عليه هذه المحبّة؟ إنها تدلّ على أن الرب يثق بالإنسان. أجل، نحن نؤمن بالله، ولكننا لا نثق به بكل حياتنا، أمّا الله فيثق بالإنسان بكل حياة ابنه الوحيد وبموته الاستشهادي المأساوي. فكيف نستجيب لهذه المحبّة؟ لا نستجيب إلا بقبول أوج هذه المأساة في أعماق قلوبنا وهذه المأساة هي أنّه بسبب خطيئتنا كان لا بدّ لابن الله الساكن في حضن الآب الأزلي أن يصير إنساناً ويموت موتاً رهيباً وهو موت نأخذ عنه الفكرة حالياً من تاريخ العقود الأخيرة لأنه – يا للهول – كم من شهيد سقط في الأرض كلها بسبب الكراهية وعدم مبالاة البشر.
يجب أن نستفيق ونفهم أنّنا لا نستطيع أن نستجيب للمحبّة الإلهية إلا بالتوبة أيْ يجب أن ننظر بإمعان داخل ذواتنا وندرك مسؤوليتنا عن تجسّد المسيح المخلّص وصلبه وأن نبدأ حياة تليق بمحبّته وذبيحته على الصليب. وهذا لا يُطبّق من خلال أعمال عظيمة، بل يوماً بعد يوم، لأننا قادرون على تطبيق كلام الإنجيل عن المحبّة باستمرار: “ليس لأحد حبّ أعظم من هذا: أن يضع أحد نفسه لأجل أحبّائه” (يو 15: 13). لا يُقصد بوضع النفس الموت، بل يُقصد بالدرجة الأولى تكريس الحياة كلها لتسهيل حياة الغير ولمن يحتاج إلى التقوية والتعزية والفرح، حتى لا يموت أحد أمامنا بمعنى الكلمة بسبب الجوع والبرد ولا يبقى متروكاً وبلا مأوى. لا يُقصد هنا أن نموت موتاً حقيقياً بل أن نموت عن ذواتنا وننسى ذواتنا ونتذكر عن الغير ونتصرّف انطلاقاً من هذا.
هكذا أحبّنا الله. ألا نستطيع أن نستجيب لهذه المحبة بتغيير حياتنا ونبدأ ببناء حياتنا الكنسية ومجتمعنا بشكل يليق بهذه المحبّة؟ إن الرب يثق بنا، وينتظر منا كل شيء ويأمل في كل شيء ويحبّنا بحياته وبموته. فلنسعَ إلى أن تكون حياتنا لائقة بمحبّة المخلّص وعلى قدر من الكرامة لأن الله بمحبّته هذه يكشف لنا مدى أهمّية الإنسان عنده. فلنكن مستحقين لهذه الكرامة والمحبة الإلهية ومحبة الناس المحيطين بنا. ليكن عيد ميلاد المسيح هذا نقطة انطلاق جديدة تدفعنا إلى معرفة عظمة الإنسان عن عمق، لأن الله الذي صار إنساناً قد كشف لنا أن الإنسان عميق وواسع إلى درجة أنه في إمكانه أن يتحد بالله دون أن ينقص الله أو يحترق الإنسان في لهيب الألوهة. هكذا نحن وهكذا هو. لنتذكر عن عظمة الإنسان في كل واحد منا – وبالدرجة الأولى ليس في أنفسنا لأننا نرى ونقرّ بخطايانا، بل عندما ننظر إلى الناس المحيطين بنا – إلى كل من هو قبيح وتافه ومزدرى به في نظرنا وحتى من نعتبره مكروهاً – فلنتوقف ونقول لأنفسنا: إنّ هذا الإنسان مدعو ليكون أيقونة حية للمسيح، إنه هيكل الروح القدس والرب يثق به. يثق به الرب إلى درجة أنه بذل ابنه الوحيد للموت من أجل خلاصه وخلاصها وخلاصهم. آمين.
المطران أنطوني سوروجسكي (بلوم)