دور المسيحيون العرب في بناء الحضارة الإسلامية
بادي ذي بدء أن لفظة العرب تدل على البادية أو ساكنها وهذا هو المعنى الذي أدته في اللغة العبرية ( أشعياء :21-13 ، 13 : 2. ، ارميا 3 –2 ) . في القران جاءت لفظة الأعراب لتدل على البدو تأكيدا لما جاء في سفر المكابين الثاني ( 12- 1. ) حيث جاءت اللفظة ترادفا لهذا المعنى . في اللغات السامية تعني كلمة العرب الجدب والقحولة ولقد طلقت المصادر القديمة هذا الاسم على الأراضي الواقعة في أطراف الجزيرة إذا ارتبط اسم العرب بجزيرتهم . جاء في سفر أعمال ( 2: 1 ) : ” انه في يوم العنصرة كان يوجد في مدينة أورشليم عرب ، ولا شك أن هؤلاء العرب كانوا أما يهودا أو مهتدين جدد من جنس عربي – هل عمدوا وماذا فعلوا بعد عودتهم : إن أعمال الرسل لا تقول شيئا في هذا الصدد ( علماء الكتاب المقدس يقولون انهم عمدوا ) كما إنها لا تعطى خبرا دقيقا عن موطنهم الأصلي الذي لم يكن ، على ما يبدو ، بعيدا وربما يكونون قد أتوا من دمشق أو من ضواحيها .
نشأة المسيحية العربية :
يقول الرسول بولس: انه توجه بعد اهتداءه إلى ” البلاد العربية ” بين اقامتين في دمشق. أن الرأي الشائع هو انه اتجه إلى حوران والمناطق المجاورة في شرق دمشق . ويذهب البعض إلى انه ذهب إلى شبه جزيرة سيناء ، وهو مشدود إليها بذكرى موسى. وليس من هناك ما يسمح لنا أن نجزم انه اخذ بفترة بقائه في تلك المنطقة في عزلة صامتا متعمقا في تأملاته الروحية أم انه اخذ ينشر الدعوة بين عرب هذه المناطق . يرى آباء الكنيسة انه ابتدأ ببشارة فيها ، ولكن عندما لم يجد قبولا لبشارته ، التزم الصمت ، الأمر الذي يفسر سكوت أعمال الرسل في هذا الشأن .
عرفت الديانة المسيحية منذ القرن القرون الأولى الثلاث تطورا هامّا من حيث الانتشار وعدد المؤمنين وهو ما ساعد على بروزها في شكل منظّم في العديد من المناطق الشامية . بعد أن كانت ديانة مضطهدة نالت حريتها وأصبح معترفا بها بمقتضى أمر ميلانو الشهير ( 313 م ).وبذلك دخلت المسيحية مرحلة ثانية من تاريخها واستمر العمل التبشيري حثيثا في مختلف جهات البلاد . امتدت المسيحية إلى أطراف الشام الجنوبية ومختلف مناطق العربية التي ترتفع فيها كثافة السكّان العرب. وقد تكونت بهذه المناطق أسقفيات عديدة منذ منتصف القرن الرابع وتكاثر عددها بشكل واضح خلال القرن الخامس .
تتعلق أوّل المعلومات عن دور النساك في تنصير العرب بالقديس هيلاريون ( 291 – 371 م ) الذي سخّر نفسه للتبشير بين الوثنيين في صحراء جنوب فلسطين، كان من المتأثرين بتبشيره القبائل العربية المتواجد في تلك الجهة والتي كانت تعبد العزّى أي ” نجم الصبّاح ” لا بد من الإشارة الى أن المسيحية العربية في الشّام لم تكن مهمشة في تلك الفترة وقد كان لأساقفة العرب الحضور ملموس على الصّعيد الديني أن نجدهم من بين الأساقفة الموقّعين على قرارات المجامع المسكونية التي انعقدت في القرن الرابع ومن أولئك الأساقفة الأسقف برخيوس وثيودوسيوس([1] )
وأيضا يعتبر العراق من البلدان التي عاشت التجربة المسيحية منذ القرون المسيحية الأولى، شهد وفود فرق مسيحية مختلفة تنافست من اجل كسب عدد ممكن من الإتباع ومن المؤكد إن حركة التبشير المسيحي أثرت على سكان العراق بمن فيهم العرب، حتى تكونت رئاسة عامة مقرها سلوقية – طيسفون ( المدائن ضمن حدود المنطقة الكنسية الخاضعة للكرسي الانطاكي وقد لقب رئيسها بجاثليق المشرق .
صار لها كنسية منظمة تشمل عدة مقاطعات كبرى خاضعة لكرسي سلوقية – طيفسون ذات معتقد إيمان مجمع النقياوي الأول، علما ظلت كنيسة العراق الى هذا التاريخ ( معتقد نيقيا ) ثم بدأت تعيش تحوّلات ذات أهمية مع ظهور الفرقتين اليعقوبية والنسطورية . دخلت المسيحية في جنوب شبه الجزيرة العربية والمناطق المجاورة لها في فترة قبل الإسلام .
غير أن المسيحية في الجزيرة العربية كانت بعيدة عن تبعية التقاء المسيحية بالعالم الهليني وكذلك بعيدة عن الاتجاه اليهودي الخاص الذي نشأ في الإسكندرية في إطار الهلينية . لكنها كانت متأثرة بالوضع السياسي للمنطقة حيث كان
التحالف السياسي شأن في تاريخ الجماعات المسيحية المستوطنة أو المتنقلة على أطراف الجزيرة العربية حيث عمدت الدولتان الكبيرتان الروم والفرس على إقامة تحالف مع قبائل عربية لتمثل كل منهم دور الحزام الأمني لكل منهما ، فكان هناك فئتين من قبائل : قبائل عربية مسيحية ( التنوخيون ، الصالحون ، الغساسنة ) متحالفة مع الروم . وقبائل عربية مسيحية : ( اللخميين ، المناذرة ) متحالفة مع الفرس. بهذه الأجواء احتك الإسلام بالمسيحية وتفاعل معه وبذلك ارتسمت ملامح المسيحية في ذهن الرسول ( ص ) .
كان للمسيحيين العرب في الجزيرة العربية أماكن مهمة تدل على وجودهم وعلى أقامتهم فيها مثلا: (مكة ) قد ورد في بعض النصوص أن بعض الرهبان والشمامسة جاءت إلى مكة مبشرين ومنهم من كان يقوم بالتطبيب، إلا أن هناك ممن تنصر من وجهاء قريش من بني أسد منهم عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى وورقة بن نوفل([2] ) الذي كان بارزا في أوساط أهل مكة ، وهو ابن عم خديجة أولى أزواج الرسول ( ص ) ، إذ كان ورقة إمام المسيحيين ورئيسهم يقيم الصلاة في كنيسة مكة المسيحية زمن عبد المطلب وزمن النبي محمد (ص ) ويقال انه ترجم الإنجيل إلى العربية .
أيضا كان النبي ( ص ) يصغي إلى خطباء المسيحيين الذين كانوا يدينون الوثنية ويدعون الناس إلى الحق. وردت في سيرة النبي أسماء شخصيات مسيحية تدل على انتشار المسيحية في مكة قبل الدعوة السلامية: ( جبر عبد لابن الحضرمي ) و ( عداس النصراني ) من أهل نينوى والأسقف طغاطر أحد أساقفة البادية .
هناك الكثير من المناطق في الجزيرة العربية تشهد على وجود المسيحي فيها قبل الإسلام ومن بعده فالمراجع تأتي على ذكر بشير عبد يشوع القناني الناسك الذي عمّد أهل اليمامة وبنى فيها ديرا ([3]) فكان لاهل اليمامة أسقفية في قطر عام 225م . وكذلك ذكر ايليا أسقف سماهيبج بين عمان والبحرين (41.م) وأسقف ديرين من جزائر البحرين (42.م ).
لذلك أسهم المسيحيون العرب، أعظم إسهام في عملية هضم الحضارات الأخرى وتوطينها في العالم العربي . ودورهم في توطين الثقافتين اليونانية والسريانية ، ولا سيما في مجال الطب والعلوم والفلسفة . حتى انه يقال أن النهضة الأموية والعباسية لم تستطع أن تقوم إلا بفضلهم .
من أقوى الأدلة على تأثير المسيحيين الديني والحضاري على عرب وعلى الإسلام الناشئ تلك الألفاظ القرآنية التي اعتبرها اللغويون ( آرثر جفري ) دخيلة ([4]) . وهي قسمين : الألفاظ الدينية ، والألفاظ الحضارية .
أما الألفاظ الدينية التي وردت في القرآن الكريم وهي من اصل مسيحي، فمثل: إبليس ( ص 47 – 48 ) وإنجيل ( 71 – 72 ) وبيعة ( 86 – 87 ) وجنّهم ( 1.5 – 1.6 ) وحواريون ( 115 – 116 ) ورجز ( 139 ) وزبور ( 148 – 149 ) وسلطان ( 176 – 177 ) وشيطان ( 187 – 19. ) وصبغة ( 192 ) وصلوات ( 197 – 198 ) وصوامع ( 2.. – 2.1 ) وصوم ( 2.1 – 2.2 ) وطوبى ( 2.6 ) وطور ( 2.6 – 1.7 ) وفردوس ( 223 – 224 ) وفرقان ( 225 – 229 ) وقدس ( 232 ) وقسيسون ( 239 – 24. ) وقسط ( 237 – 238 ) ومثل ( 258 ) ومسيح ( 265 – 266 ) ومنّ ( 271 – 272 ) وملّة ( 268 – 269 ) ونصارى ( 28. – 281 ) ويحيى ( 29. – 291 ) . أما الألفاظ الحضارية، فمثل: خمر ( 125 – 126 ) وكأس ( 245 – 246 ) وكوب ( 252 ) ودرهم ( 129 – 13. ) ودينار ( 133 – 135 ) وتابوت ( 88 – 89 ) وسراج ( 166 – 167 ) ومقلاد ( 267 – 268 ) . الألفاظ المرتبطة بالكتابة، مثل: رقّ ( 143 ) وسجلّ ( 163 – 164 ) وسطر ( 169 – 17. ) وسفر ( 17. – 171 ) وقرآن ( 233 – 234 ) وقرطاس ( 235 – 236 ) .
دور المسيحية في نشر الكتابة العربية :
لما ظهر الإسلام في العشر الثاني من القرن السابع الميلادي لم تكن جزيرة العربية حديثة العهد بالكتابة وانما كانت الكتابة شائعة في بعض المناطق دون غيرها مثلا كان لاهل اليمن كتابة يسمونها المسند شاعت بين قبيلة حمير وأيضا كانت توجد كتابة تسمى النبطية هي اصل الكتابة العربية ويدعوها العرب بالجزم وكان المسيحيون هم الذين علموها سواء قيل انهم وضعوها أو انهم نقلوها. أن العرب الذين بحثوا عن اصل الكتابة العربية نسبوها إلى رجال بولان من قبيلة طيء المسيحية سكان الأنبار فأقدم أول الكتابات العربية تعود إلى الجاهلية نسبت إلى قوم من المسيحيين . الكتابة الأولى (خرائب زبد ) المكتشفة في الفرات ( جنوب شرقي حلب ) ( 512م ) أي قبل الهجرة 11. عام وهي في ثلاث لغات اليونانية والسريانية والعربية تتكلم عن استشهاد القديس سرجيوس . الكتابة الثانية (نقش حران) وجدت في حوران ( 568م ) وهي أيضا باللغة اليونانية والعربية ([5]) .
يؤكد المستشرق (ولموزن ) أن الكتابة العربية شاعت أولا بين المسيحيين ولا سيما الرهبان في الحيرة والانبار وأيضا يقول الأستاذ جواد علي في كتابه : ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ) : ” ويلاحظان الذين كتبوا بالقلم العربي الشمالي الذي أُخذ منه قلم مكة هم من العرب النصارى … ) .
في الحيرة اكتشفت منقوشة عربية في دير الأميرة هند أي من أهم صرح مسيحي عربي وهذه منقوشة في تاريخ العرب وهي تشير إلى استعمال الكتابة العربية عند مسيحي الحيرة .
دور المسيحيين في الدولة الإسلامية ( الأموية ،والعباسية ) : كان معاوية بن أبي سفيان الخليفة الأموي الأول قد عين ( آلا سرجون ) النصارى في وظائف هامة ( في إدارة شؤون المالية ) فوالد يوحنا الدمشقي يمكن اعتباره شغل منصب أول وزير مسيحي في عهد إسلامي([6]) ، ويوحنا نفسه عين مربيا ليزيد بن معاوية ولغيره من أبناء الحليفة وبقي في منصبه حتى خلافة هشام بن عبد الملك حيث اعتزل([7]) من العمل الإداري ، حيث عمد إلى التأليف اللاهوتي إذ صاحب كتاب ” الينبوع ” الموضوع في اليونانية إذ يحتوي على مقدمة فلسفية يعتبرها المستشرقون الألمان بداية للإشكالية الفلسفية في الإسلام ([8]) .وبعد 14.. سنة تقريبا جاء من ينتقد تعيين مسيحيين في وظائف هامة خلال العصر الأموي ([9]) يعتبر معاوية من اقرب خلفاء بني أمية الى المسيحيين ، وقد كان له عدد من الزوجات ربما كنت احظاهن عنده ميسون وهي عربية سورية من بني بحدل من قبيلة كلب ، وكانت تحتقر حياة البلاط في دمشق وتؤثر عليها حياة البادية التي الفتها . وهي نصرانية سريانية مثل نائلة زوجة عثمان التي كانت تنتمي الى قبيلة كلب([10]) .
ولعل الأهم في الدور المسيحي فن الرسم والعمارة والترجمة إذ يوجد لوحات أموية منشورة يلحظ تأثرها الكبير بالفن البيزنطي من الثابت انه يوجد جدرانيات إسلامية على سقوف القصور الأموية في صحراء الأردن حتى الآن ، وهذه رسمها مسيحيون بأمر الخلفاء ثم نجد أن بعض الخلفاء ومنهم المتوكل زاروا الكنائس وافتتنوا بصورها ، ويعجب ابن جبير بالكنيسة المريمية في دمشق وكذلك يعجب بالكنائس ياقوت الحموي والمقريزي . ومن ناحية أخرى فأسس الرشيد دار الحكمة وجعل يوحنا بن ماسويه أمينا عليها ثم حنين بن اسحاق وعائلته واقاربه تنقل المعلومات أولا من اليونانية الى السريانية ثم الى العربية حتى تمكنت فيما بعد من أن تنقل مباشرة من اليونانية إلى العربية .
كما كان من مظاهر الحرية والتسامح في العهد الأموي وضع الاخطل التغلبي ([11]) شاعر العرش الأموي وكان من ندماء يزيد بن معاوية ومن أصدقاء يوحنا الدمشقي، وكان يدخل على الخليفة عبد الملك والصليب مدلى من عنقه ولحيته تنفض خمرا فينشده :
إذا ما نديمي علني ثم علني ثلاث زجاجات لهن هدير
خرجت أجر الذيل تيها كأنني عليك أمير المؤمنين أمير
هذا الجو من التسامح هو ترجمة لقول الرسول ( ص ) مما جاء في السنة : ” إني لمعاقب من يجحف بحق نصراني ذمي أو يفرض عليه واجبات مرهقة ) . وقال بشدة أعظم أفضل تلاميذه وأحد الخلفاء الراشدين أبو بكر الصديق ( لا تقتلوا أحدا من النصارى الذميين ، فان فعلتم حاسبكم الله وألقاكم على وجوهكم في نار جهنم ) ([12]) . كان نقل العاصمة الى بغداد إعطاء أهمية عظمى للكوادر المسيحية المثقفة ،اذكان أهمية المسيحيين تكمن من ناحية تملكهم الاقتصادي أو من حيث قدرتهم العلمية ، وكانوا متوزعين في مناطق مختلفة بحيث كانوا يشكلون 8.% من سكان البلاد وتركز وجودهم في الأرياف ومناطق البعيدة من العاصمة . فكانوا ينتمون بالأكثرية إلى كنيستين هما : الكنيسة السريانية والكنيسة الآشورية ، ([13]).
وكان هؤلاء يشرفون على تدوين الوثائق الحكومية وتنظيم الإدارة . وكانوا نوعين: منهم مسؤولون عن ( كتابة الإنشاء أي كتابة الوثائق الرسمية بأسلوب رفيع لغة عربية سليمة، وغيرهم مسؤولون عن ( كتابة الأموال ) وهم محاسبون أكفاء ومشرفون على تنظيم الضرائب . وكان نفوذ المسيحيين كبيرا في كلا الصعيدين، وذلك بالنظر إلى ثقافتهم الواسعة ومعرفتهم لغات عديدة منها اليونانية والسريانية والعربية .
في هذا الجو من التسامح الديني والتعامل الإنساني والروح الطيبة وحسن معاملة النصارى في العهد العباسي يدل على شيئين: على تفتح حكماء الإسلام على الحضارات القديمة ( يونانية ، سريانية ، فارسية وهندية ) وعدم تعصبهم إطلاقا ( إلا أيام المتوكل ، في كفاحه ضد المعتزلة والى حدّ ما ضد النصارى ) من ناحية ، وعلى اندماج المسيحيين في الحضارة الإسلامية العربية ، بلا تحفظ ولا تأخر ، من ناحية أخرى . يقول المطران جورج ( خضر ) في هذا الخصوص: ” إن العوامل التي جعلت الخلفاء والوزراء المسلمين وغير المسلمين يستخدمون العناصر الذمية المسيحية هي التالية:
1 – خبرة المسيحيين في الإدارة البيزنطية ومعرفتهم للغات الفارسية والسريانية والرومية والأرمنية والعربية .
2 – إن استخدام المسيحي لا يشكل خطرا على الحاكم لانه لا يجرؤ على التدخل في شؤون الحكم والاشتغال بسياسة الدولة العامة، وفي ذلك قول بعض الخلفاء .
يقول عبد الله بي سليمان للخليفة المعتضد معتذرا : ما ولّيت نصرانيا سوى عمر بن يوسف واعتمدت عليهم لثقتهم لا ميلا إليهم ولكن لثقتي بهم . فقال المعتضد إذا وجدت نصرانيا يصلح لك فاستخدمه فهو آمن من اليهود لان اليهود يتوقعون عودة الملك إليهم وآمن من المسلم لانه بموافقته لك في الدين يروم الاحتيال على منزلك وموضعك وآمن من المجوس لان المملكة كانت فيهم . “([14])
اما مجالات الإبداع المسيحيين العرب في بناء الدولة الإسلامية كانت في عدة مجالات، منها مجال التاريخ، حيث واكب المسيحيون العرب المسلمين في تدوين الأحداث منذ الفتوحات وقد أتبعوا أسلوبا خاصا مغايرا للصناعة التاريخية الإسلامية ، لقد كتب المسيحيون فصولا عمن قبلهم من موارد تاريخية ورثوها عن أسلافهم ودونوا أحدثا تاريخية عاصروها وأعادوا تنظيمها ، استعملوا الوثيقة التاريخية المكتوبة التي وصلت إليهم بالإضافة إلى الرواية الشفوية التي ينقلها لهم الآخرون ([15]) . اشهر المؤرخين المسيحيين ديونيسوس التلمحري ومخائيل السوري وابن العبري .واتبع المؤرخون المسيحيون نظام الحوليات مثل المسلمين ، لكن مصادرهم لا تستعمل الأسانيد . إن كتابات المؤرخين المسيحيين أقرب الى التاريخ العام منه إلى التاريخ الخاص ، فهم يستعملون التاريخ الميلادي إلى جانب التاريخ الهجري والتاريخ الإغريقي.
ومن هؤلاء المؤرخين: ابن نبكاية ، توما المرجي ، الياس النصيبي ، ابن العبري ، يعقوب الرهاوي ، ابن البطريق ، وسعيد بن البطريق كتبوا بالسريانية ، ومنذ القرن الرابع الهجري حدث تطور هام في هذا الشأن على يد المؤرخين الأرثوذكسيين والأقباط إذ عمدوا إلى كتابة التاريخ باللغة العربية وزاد اهتمامهم بالتاريخ الإسلامي على يد سعيد بن البطريق ، ويحي بن سعيد البطريق وابن المقفع وابن العسال وبولس الانطاكي ومحبوب المنجي وإبراهيم الانطاكي وأبو فتح بن الفضل. لم تنحصر حياة المسيحيين ضمن العائلة بل انخرطوا في المجتمع الإسلامي وسموا أولادهم حسن وحسين وعلي وخالد ومروان ([16]).
اما في مجال الاقتصاد كان المسيحيون العرب في دار الإسلام يتعاطون أنشطة عديدة ومختلفة فامتهنوا مهنة الصيرفة ، ومن الصيارفة الذين ذكرتهم المصادر عيسى بن البرّاء العبادي([17]) واشتهر منهم عون الجوهري العبادي الذي كان جوهريا وصيرفيا ووصفه المسعودي بصاحب الحيرة ([18]) اشتغل نصارى نجران في صناعة النسيج واليهم تنسب الحلل النجرانية ، وفي صناعة الدباغة وكانوا قرّادين أيضا . وكان بنو تغلب رعاة ومزارعين وتجارا . فهذا الاخطل يملأ الجو من حوله فخرا واعتزازا من إن قومه يمتلكون إبلا كثيرة تكاد تكسو الجبال لكثرتها ، إذ قال :
ألسنا من دمشق إلى عمان ملأنا البر أحياء حلالا
ودجلة والفرات وكل واد إلى أن خالط النعم الجبالا([19])
في مجال الغناء ثبت من الأخبار أن أهل الحيرة النصارى كانوا بارعين في الموسيقى وطارت شهرة الكثيرين منهم حنين بن بلوع الحيري الذي خصه صاحب الأغاني بسبع عشرة صفحة في كتابه ([20]). ولحنين أخبار كثيرة جمعها اسحق بن إبراهيم الموصلي في كتاب دعاه ” أخبار حنين الحيري ” ([21]).
اسهم العرب المسيحيون في الشعر والأدب والفن إلا أن لم يصل إلينا من مؤلفاتهم الأدبية إلا المؤلفات الشعرية والحِكَم لان تراث العربي المسيحي تراث شفهي لم يدون إلا بعد الإسلام ومن أهم شعراء العرب المسيحيين هم : عمر بم كلثوم ، عدي بن زيد ، الحار بن كلدة، عنترة بن شداد : هو عنترة بن عمرو بن معاوية ابن قراد العبسي ، أمرؤ القيس، حاتم الطائي ، ميسون بنت بحدل الكليبة ، نابغة بني شيبان، الاخطل التغلبي .
ومن ابرز الشعراء المسيحيين في الدولة العباسية : الشاعر المسيحي ( الأرثوذكسي ) ” سليمان بن حسن الغزّى “ . كان شاعر مسلما ترك إسلامه وتنصر ويدلّنا على ذلك بقوله :
أنا الّذي كنت أولى أن أموت كما خطيت دون المسيح ما به عيب
لا تطمعوا أن يوم البعث يطعمكم من الفواكه أثمارا وأعنابا
أيضا هذا الشاعر قد اختار مذهب الأرثوذكسية بعد تنصره إذ قال :
هذي مذاهب أقوام لكفرهم ضلّوا الهدى عن طريق شبه عميان
فالفضل للأرثوذكسيين انهم تمذهبوا مذهبا في الله حقّاني
بعد ترهبه بفترة أصبح مطرانا على مدينة غزّة وقال يوم تسقيفه قصيدة مطلعها :
يا بيعة الله الكريم اسمعي ممّا يقول في الكتاب الأسقف
وكتب في قصيدة حول تأسيس السر ( الافخارستيا ) من قبل المخلص:
قد قال سيّدنا والكأس في يده هذا دمي لخلاص الخلق مسكوب
وهناك شاعر عظيما ومشهورا جدا وهو الأسعد بن العسال، فهو أحد أولاد العسال الشهيرين بتاريخهم العلمي والكنسي ولشاعرنا له قصيدة في تمجيد المسيح:
أزيد في التمجيد والتسبيح لابن الإله السيد المسيح
أيضا له قصيدة حول الثالوث:
الشكر لله الوحيد الذات سبحانه نثلث الصفات
هكذا نلاحظ أن نسبة الشعراء المسيحيين العرب في الإسلام كانت هامة وخصوصا في الفترة الأموية حيث اشتهر منهم عدد هام نسبيا .
إذا كان للشعراء العرب المسيحيين أثرا بالغا في الأدب العربي والتاريخ العربي الإسلامي، إذ احتوت قصائدهم على إشارات إلى حوادث التي عاشوها كالحروب بين القبائل العربية وبين الأطراف السياسية والعلاقات الاجتماعية . ايضا هناك كتابات عربية لمؤلفين مسيحيين عرب في الفلسفة واللاهوت والعقائد فضلا عن كتابات اللغوية والرياضيات والطبية والشعرية، فكان هؤلاء الكتّاب افضل الأشخاص الذين خدموا كنيستهم ومجتمعهم خير خدمة، من القرن السابع الميلادي، ( الأول الهجري ) ، لغاية أواخر القرن الخامس عشر الميلادي ، نذكر منهم بعض العلماء على سبيل التذكير : يوحنا النقاوي في النصف الثاني من القرن السابع ، سعيد بن البطريق ، وأبو المكارم ، ثاودروس أبو قرّة أسقف حرّان من القرن الثامن ، الأنبا ساويروس من القرن العاشر ، الشماس عبدالله بن الفضل من القرن الحادي عشر ، الأنبا ميخائيل أسقف تانيس أولاد العسال ، جرجس بن العميد ، بطرس شاكر بن الراهب من القرن الثالث عشر .ومن الفلاسفة واللاهوتيين الكبار : يحيى بن عدي ، . قد ألف كتبا عديدة في الفلسفة واللاهوت باللاضافة إلى ترجمة من اللغة اليونانية والسريانية الفلسفية ، ابن العبري :هو أبو الفرج غريغوريوس بن هارون الطبيب الملطي ( 1226 – 1286 م ) . من اشهر أعلام الأدب السرياني وكان للأطباء المسيحيين العرب تأثيرا في الطب العربي وفي تاريخ الكنسية وفي الدولة الإسلامية .
أول مستشفى لدراسة الطب في الدولة الإسلامية كان مستشفى بختيشوع ، الذي أسسه ، في بغداد إبان القرن الثامن ، الأطباء المسيحيون الذين كانوا منذ زمن طويل ، على إدارة المستشفى الشهير في جنديسابور . وكانت أول عملية تشريح أجريت في العالم الإسلامي هي التي أجراها في عام 836م ، السرياني يوحنا بن ماسويه طبيب المعتصم . من الأطباء المسيحيين العرب قبل الإسلام وأشرهم على الإطلاق الحارث بن كلدة الثقيف المعروف ” بـ طبيب العرب ” توفي سنة ( 635 م ) ( 13 للهجرة ) أصله من ثقيف من الطائف. كان صاحب حس مرهف وموسيقيا يضرب العود أدرك الإسلام واتخذه النبي محمد ( ص ) طبيبا ، من الأطباء في الدولة الأموية ، أشهرهم هم : ابن أثال الذي ذكره ابن أصيبعة وأبو الحكم ، فانه ” كان طبيبا نصرانيا ، عالما بأنواع العلاج والأدوية ، وله أعمال مذكورة وصفات مشهورة . وكان يستطبّه معاوية ابن أبي سفيان ( 661 – 68. م ) ويعتمد عليه في تركيبات أدوية لأغراض قصدها منه ثم تبعه ابنه الحكم الدمشقي في المهنة ، وخلف ابنا ، عرف بأبي الحسن عيسى ، وهو المشهور بمسيح ، صاحب الكنّاس الكبير الذي يعرف به وينسب إليه ” وكان في خدمة هارون الرشيد ( 7886 – 8.9 م ) . من الأطباء المشهورين في الدولة العباسية على الإطلاق : جورجس بن جبرئيل ، يقول ابن أبي أصيبة : ” كانت له خبرة بصناعة الطب ومعرفة بالمداواة وأنواع العلاج([22]) ومن اكثر الأطباء الذين ألفوا كتبا.( 61 كتابا ) : قسطا بن لوقا . أن قسطا كان بارعا في علوم كثيرة ، منها الطب والفلسفة والهندسة والإعداد والموسيقى .. ، فصيحا في اللغة اليونانية ، جيد العبارة بالعربية ، توفي بأرمينيا نحو السنة 113 هـ \ 923 م وكان مولده في بعلبك .
وهكذا مثّلت المسيحية العربية واقعا اجتماعيا وثقافيا وروحيا فرض نفسه في بلاد المشرق طيلة أربعة قرون ونيف وخصوصا منذ القرن الخامس إلى القرن العاشر الميلادي . لكن المسيحية العربية كانت مسالمة لا تحدوها مطامح أو مطامع سياسية، ورغم ذلك تعرضت لمخاطر التّلاشي والذّوبان . لذلك لم تعش المسيحية العربية كأقلية دينية خطر التقوقع والانغلاق على الذات والانطواء على النفس داخل المجتمع لإسلامي فقد تميزت جماعة المسيحيين العرب باندماجها شبه الكلي في المجتمع الأموي وحتى العباسي الأول . فكانت على مسيحيتها أقرب روحا الى المسلمين العرب منها الى أبناء طائفتها فاندست في المجموعة الإسلامية وذابت فيها . إلا أن انفتاح المسيحيون العرب على المسلمين العرب كان في الوقت عينه عاملا من عوامل إضعاف مقاومتهم وصمودهم الديني . فلم تحدث في تاريخ جماعة المسيحيين العرب منذ ظهور الإسلام تحالفات بين الجماعات المسيحية العربية ضد المسلمين ( إلا نادرا ) وسط ومجتمع بقيت تسيطر عليه الصراعات والمنافسان مما يجعلنا نتأكد أن المسيحية لم تنجح كعقيدة دينية في خلق تكتل بين معتنقيها من العرب لا قبل الاسلام ولا بعده .
حفظت المسيحية العربية بخواص تميزها عن كافة المسيحيين الآخرين في الدولة الإسلامية ، فكانت أقرب الفئات روحا وثقافة إلى المسلمين ولها صلات بشرية وحضارية تفوق ما للفئات المسيحية الأخرى وكان إنجاز المسيحيين العرب كبيرا في عمليات الفتوحات . فقد انضما إلى الفاتحين المسلمين ضد الفرس والروم وساهما في توسيع حدود الدولة الإسلامية نحو الشرق ( جيش تغلب ) . أبدوا وفاء كبيرا لها وأسهموا بتراثهم وخبرتهم وسيطرتهم على أهم الطرق التجارية في تنشيط الدورة الاقتصادية داخل دار الإسلام على المستوى الصيرفي والصناعي والتجاري
وهكذا لعب المسيحيون العرب دورا هاما في بناء الفكر العربي وحب العالم العربي ولذا رفعت المسيحية العربية الفكر العربي إلى الإله الأحد وهيأت الطريق في قلوب العرب لقبول الدعوة المحمدية وبالتالي المسيحية والمحمدية انتصرت على الوثنية ورفعت شأن الثقافة والحضارة العربية .
[5] راجع مثلا صلاح الدين النجّد : ” دراسات في تاريخ الخط العربي ، منذ بدايته الى نهاية العصر الأموي ” ( بيروت ، دار الكتاب الجديد ، 1972 ) ص 12 – 22 . ولويس شيخو : ” النصرانية وآدابها بين العرب الجاهلية ” القسم الثاني ، الفصل الأول .
[9] في مقال للشيخ أبو زهرة من مجلة ( الفكر الإسلامي ) بيروت 1971 . راجع مجلة المسرة – حريصا السنة 1971 العدد 57 ، ص 4.1 .